أمل الكردفاني- رجل كسول جداً- قصة قصيرة

"يقول لي السيد دوماً، أن القدر طبخه على نار هادئة..وأتذكر نصيبي من كلامه هذا.."..
"لن تكون اكثر الخدم كسلاً هنا في هذا القصر"..
ترد عليه دائماً هذا الرد الذي لا علاقه له بكلامه. لكنه عموماً يتقبل ردها، إذ لم يكن يهتم بما لو كانت تستمع له أم لا.
"أنتِ ككلب السيدة"..
تبهت هي وتتسع عيناها، تقول:
" انا كلب؟"
"متى كان كلب السيدة يعرف سيدته؟ إنها أبداً لم تلتصق به، بل ظلت السيدة تقرف منه، وتبعده عنها بسبب رائحة لهاثه..لقد أصبح أقرب لي من سيدته.."..
يتشتت ذهن الخادمة القصيرة، ولا تعرف ما إذا كان الخادم يمدحها ام يذمها..
"لقد أصبح يأكل من يدي وينام معي، لقد سرقت قلبه، رغم أنني لم أنفق عليه شيئاً، ربما لو كان هذ الكلب إنسانا لباعني وتذلل للسيدة، لكن الحيوانات لا تعرف النفاق، والناس يعاملونها على هذا الأساس..يمكن للناس إذاً أن يتغيروا للأفضل لو كانوا واثقين من أن غيرهم من البشر لن ينافقونهم..أليس كذلك؟"
" لا أعرف ماذا تقول..لكنك خادمٌ كسول.."
تزعق ويشعر بأنها تَحمَى وبأنها أقل ذكاء من السيطرة على انفعالاتها غير العقلانية. فيخفف من نبرة صوته.
"سآخذ الكلب للخارج"..
" بل قل أنك تتهرب من عملك...إنك لا تفعل شيئاً سوى الأكل والشرب واللعب مع كلبة السيدة".
"بالمناسبة هي كلب وليس كلبة"
"وماذا يهم ذلك"
"إنك تتعمدين الإساءة لكلب السيدة..وهذه إساءة للسيدة"..
تتلجلج فيخرج بسرعة باحثاً عن الكلب...
"ما سبب غضبها..إنني لا آكل من أكل تشتريه بمالها..لماذا يبدو البعض ملكياً أكثر من الملك..هذا النوع من أصحاب العقول الصلبة لا يهتم إلا بالقانون..القانون عندهم نص بلا روح"..
يجد الكلب نائماً في صالة القصر، فيناديه، ويخرجان بسرعة..
"ما رأيك يا عزيزي أن نغير وجهتنا اليوم؟ أنا لا أسألك ..لأنني بشري..والبشر حينما يسألون إنما يعنون أن عليك أن تنفذ أوامرهم لا أن تعطي رأياً"..
يخرجان من بوابة القصر الخارجية، ثم ينعطفان إلى اليسار. الشارع خالٍ، تتوزع على جانبيه قصور ضخمة ذات أسوار حجرية عالية وأبواب حديدية سوداء مطعمة بالبروزات الحديدية على أشكال ورود وأوراق شجر وفراشات وحصان البحر..الخ..يمرق الخادم والكلب إلى مزارع العنب، ذات القباب الأسطوانية البلاستيكية الطولية..يعبرانها، والكلب يلهث بسعادة...ثم يصلان إلى مزرعة صغيرة للطماطم..ثم أخرى للرمان..ثم الليمون..ثم الجوافة..ويستقران تحت شجرة ظليلة لا يعرفان نوعها، شجرة تقف وسط باقي الأشجار كجد عجوز حكيم.
"يقول السيد أن القدر طبخه على نار هادئة..إنه رجل فكاهي ولكنه أيضاً حاد الذكاء..ورغم أن السيدة لم تنجب لكنه يفضل حياته المستقرة هذي"..
يفرك خطم الكلب فيلعقب الكلب لساته الطويل. يخرج الخادم علبة سجائر كرتونية ذات لون نحاسي، ويستخلص منها سجارة غير مستوية الإستقامة. يشعلها ثم يجر منها أنفاساً متتالية في وقت واحد لكي تحمر ذؤابتها...
"هذا حسن..تغضبني تلك الخادمة جدا يا صديقي..إنها حقودة..ككل النساء فقيرات الجمال..قصيرة ونحيفة ووجهها مقرف..إنني أستطيع تقبيلك ولكنني سانتحر لو لمست شفاهيَ شفتيها المتقرحتين...حقودة..تحنق عليٍّ لأنني كسول..رغم أنها لا تدفع أجري..وتحاول تحريض السيدة عليَّ..هناك بشر من هذا النوع..لديهم حقد هوسي تجاه شخص ما...لا أعتقد أنك ستقابل كلباً بمثل هذه الصفات..لأن القذارة محفوظة فقط للبشر..ولكن دعنا نستمتع بوقتنا هنا في هذه الخضرة..فلو أننا بتنا نفكر في أعدائنا باستمرار فلسوف نخسر أعمارنا القصيرة كما تخسر هذه الخادمة عمرها وهي تلصقني داخل جمجمتها المشوهة.."..
يظلان جالسين يتأملان ظلال أوراق الأشجار التي تبرقع الأرض
"ليس اسوأ من أن يعتقد الحمقى بأننا بلا أحلام يا صديقي.."
يموء الكلب ويسند رأسه على قدميه الممدتين أمامه.
"كل ما في الأمر أن أحلامنا ماتت يا صديقي...مثل ابنة وحيدة لأبويها...هذا كل مافي الأمر..."..
يصمت طويلاً، وتهب نسمات باردة تحمل رائحة لحاء الشجر فتعبر خياشيم الصديقين..
"ولكنني أعترف..أعترف بأن بداخلي شراً كامناً يا صديقي..بت أعتقد ذلك...ولذلك تموت أحلام الأشرار...أعتقد ذلك...رغم أنني لا أؤمن بالغيبيات..لكنني كلما بحثت عن تفسير لذلك الطهو..الطهو بنار هادئة...الطهو بذلك التشفي ..أكاد أجزم بأن ذلك قد كبح جماح الشر المكبوت بداخلي"..
يقول الكلب بصوت غليظ:
"لستَ شريراً...بل هكذا تظن..إن هذا تبرير أحمق..."
"أو تظن ذلك؟"
"دون شك"
"إنني أفضلك كلباً صامتاً"..
"حسنٌ"..
ينقلب الكلب على جنبه ويغمض عينيه...
"إنني بلا مواهب يا صديقي..."..
"إنك فقط تحتاج لامرأة..تحتاج لأنثى"..
"أصمت...لقد أصبحتَ مزعجاً.."
"لستَ شريراً..لست شريراً.. ولستَ عاطلا عن المواهب...إنك بحرٌ من الموهبة"..
يتمدد إلى جوار الكلب..ويغطي عينيه بقبعته الرمادية..
"أي موهبة يا صديقي..أي موهبة..."..
"موهبة الحب يا صديقي..موهبة الحب.."..
يرفع قبعته عن عينيه وينظر إلى الكلب، كان ظهر الكلب أمامه، فلم يرَ ابتسامته ذات الأنياب المخيفة...كانت تبدو ابتسامة ساخرة وخبيثة...
ومرا في عودتهما عند الغروب بأشجار الليمون والطماطم والقباب الأسطوانية...قبل أن يدخلا القصر متعبين...
"لا أستطيع تحمل ذلك..يجب على السيدة أن تطردك فورا..ألا تخجل من نفسك..عليك أن تذهب من فورك هذا وتقدم استقالتك..."..
قالت الخادمة فصعد الدرج بصعوبة حتى وصل غرفة السيدة، فطرقها، ولما لم تجب دخل ببطء. نفذت إليه رائحة عطور غالية الثمن، ورأى مرآة ضخمة تتراص تحتها مجوهرات غالية. أخذ يتأملها بصمت...
"إن داخلي شر ..شر مكبوت..كنت أعلم ذلك..رغم حديثك يا صديقي.."..
جمع المجوهرات ودسها داخل بنطاله، ثم خرج مغلقاً الباب. وهبط الدرج ببطء..
"هل أخبرتها..هل استقلت؟"..
"لا...لقد أمرتني أن اخبرك بضرورة أن تعدي لها طبقاً منوعاً من فاكهة الأرض الطازجة"..
كشرت عن أسنانها غير المستوية وقالت بدهشة:
"الآن؟"..
"نعم الآن وبأعجل ما يكون...وعليَّ أنا أنا فقط أن أحمل لها الطبق..يبدو أنها متوترة قليلاً فلا تناقشي ولا تجادلي.."..
"ولكن الغروب قد حل.. أخاف أن أذهب وحدي للحقول.."..
"أنا متعب.."..
تلحفت بخرق على جسدها وغطت وجهها ثم خرجت لتقطع الحقول، أضاءت محمية العنب وقطفت منها، ثم أطفأت النور واتجهت حيث الفواكه الباقية، وعندما انتهت من جمع الفواكه، دارت على عقبيها، لكنها لم ترَ شيئاً بعد ذلك...
"كم كنتِ كائناً وضيعاً..."..
ألقى بالمجوهرات في قبرها المحفور تحت الشجرة التي لا يعرف نوعها...ثم قبر جثتها بالتراب...
"يقولون أنك إن أردت أن تخفي أثرك عن رائحة أشقائنا من الكلاب البوليسية فما عليك سوى تشتيت الفلف الأسود على خطوات أقدامك..لا أعرف صحة ذلك يا صديقي، فأنا مجرد كلب منزلي مدلل وكسول"..
"فلنجرب أيها الكسول"..
أخذ يشتت الفلفل الأسود على أثرهما، وكانا يعطسان بألم كل ثانيتين أو ثلاثة...
"عندك موهبة الحب أيها الكسول"..
"أفضلك كلبا كسولاً صامتاً"
"لن تتحمل كلباً عجوزاً صامتاً"..
"سأفعل"..
"لا لن تفعل"
"بل سوف أفعل"
"لا لن تفعل"

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى