محمد أحمد مخلوف - البعد النفسي في نص غفوة للسيد التوي

غفوة
نص السيد التوي

إن لم تخني الذاكرة
قتلت حلمًا
كتمت أنفاسه هنا
بدم بارد
شربت كأسا وكأسا
وبهدوء
حدثت الشجرة عن كلّ شيء

حينها لم أكن غاضبا
وإنّما كنت ادندن أغنية لا اعرف كلماتها جيدا
واضرب الأرض بقدميّ
مثل مروض في السرك.
مرّ طائر ثم آخر
ومرت عصافير كثيرة
كان الماء يسيل من بين أصابعي
قبل ان تغرب الشمس ان لم تخني الذاكرة
نامت بين ذراعي فراشة
وتوسد ركبتيّ غزال
ودنا مني غصن الشجرة حتى لامس خدي
قبل ان أغفو أبّنت حلمي بما يليق به
لمّا استفقت كنت على ظهر غيمة
قلت للغيمة: كيف وصلت إلى هنا ؟
ضحكت الغيمة
ضحكت معها وقدماي تتدليان من علٍ
وان لم تخني الذاكرة كان حلمي يرفس برجليه ضلوعي
ذئبا كان حلمي أو هكذا تشكل وهو يحدّق فيّ
مرّت فراشة ومرّ طائران
ومرّ غزال بوجه سنور أو ان لم تخني الذاكرة بوجه كلب
الغيمة كانت تنتفض مثل عصفور مبلّل
الذئب انشب مخالبه في عينيّ
ومزّق صدري
ولمّا همّ بغرس انيابه في قلبي
صرخت
أتذكر أني استفقت من غفوتي التي داهمتني في الغفوة الاولى
مرّ طائر
مرّ وهو يغرس منقاره في ريشه
فطرت معه
كنت اعمى بنصف قلب وبأحلام اخرى تنتظر أن اجهز عليها
وكان الطائر يدمي اصابعي بمنقاره الصلب

🌹 البعد النفسي في نص غفوة للسيد التوي 🌷

ثريا النص او عنوانه ورد غير معرّف ليكون مطلقًا، فنحن ازاء غفوة لا نعلم أكانت في اليقظة ام في المنام حلمًا؟!
هذا الغموض سرعان ما سيجليه لنا التوي و لكن بحذر شديد هو حذر من يتوجّس منّا خيفة، هو خوف و عدم اطمئنانِ من يخفي شيئا أو من يخفي سوءةً. و لكن كيف سيتمكّن من تجاوز هذا الكابوس الذي يخنق أنفاسه مع محافظته على ماء الوجه؟ و أيّ أسلوب سيعتمد لنتعاطف معه في مصابه؟
لن يبطئ علينا في الإجابة فإذا به يعتمد أسلوب " التداعي الحرّ" بطريقة مخاتلة قد تنزع عنه كل مسؤولية " جزائية"، فيكرر على مسامعنا لازمة " ان لم تخنّي الذاكرة" اربع مرات، بل تأتي هذه الجملة تصديرا لكامل النصّ و لبنة من لبنات بنائه. فيعترف أنه " قتلت حلما، كتمت أنفاسه هنا"، ليفصّل القول في حيثيّات الواقعة عبر استعمال الأفعال الماضية للدلالة على انتهاء الحدث العظيم الذي يؤرّقه ( من السطر 1 إلى السطر 16)، بل يحدثنا عن حالته النفسية حينها، فإذا به في كامل قواه العقلية حيث " كتمت أنفاسه هنا بدم بارد، شربت كأسا و كأسا و بهدوء "، نعم هو في قمّة الهدوء الممزوج بالخوف من افتضاح أمره، و لكنه رغم اضطرابه الضمني كان واعيا بأهمية اشراك من يخفف عنه وقع ما ارتكب، فاتّجه نحو من يكتم سرّه، " حدّثت الشجرة عن كلّ شيء"، هذه الشجرة التي كان منتشيا حين حدّثها :" لم أكن غاضبا، كنت ادندن بأغنية لا أعرف كلماتها جيّدا، و أضرب الأرض بقدميّ مثل مروّض في السرك".
إنّها لحظة فارقة عند الإنسان حين يجد من يرشده أو يسمعه ليخفّف عنه أو ليستمدّ منه شرعيّته، انه قابيل و الشجرة هي الغراب الذي أراه كيف يواري سوءته، فإذا الأفكار تنثال عليه انثيالا كالطيور :" مرّ طائر ثم آخر، و مرّت عصافير كثيرة"، وهي في لاوعيه رغبة جامحة في الطيران و الهروب مما هو فيه، بل رغبة في التّطهّر من هذا الذنب و الإغتسال في مستويين : المستوى النفسي و المستوى المادي ، فإذا به و " قبل أن تغرب الشمس"، "كان الماء يسيل بين أصابعي"، و ياله من ماء نراه نميرا و لكن التوي يراه شيئا آخر سنكتشفه معه في آخر النص في ترابط بين البداية و النهاية تقطعه في كل مرة لازمة " إن لم تخنّي الذاكرة"، لتتواصل رحلة الاضطراب النفسي و التشريع لهذا الفعل الشنيع، فيرسل لنا من القول ما يجعلنا نطمئن اليه فيصدّر لنا ما يدلّ على طيبته و نقائه ( من السطر 18الى 21)، بل صوّر لنا نفسه هادئا و مصدر جذب لكل ما هو رقيق في أسلوب رومنسي يذكّرنا بالتجربة الرومنطيقية في جانبها الطبيعي، فإذا بكائنات جميلة تحتفي به و بطيبته، بل إنها تستمدّ منه رقّتها و طيبتها لما شعرت به من طمأنينة عنده ف " نامت بين ذراعيّ فراشة، و توسّد ركبتي غزال"، ليصل بنا إلى ذروة هذه الطيبة بأن " دنا غصن الشجرة حتى لامس خدّي" فقبّله قبلة الإعتراف، فهل كلّ هذا الإعتراف بالجانب المضيء فيه كافٍ لتبرير فعلته؟
يتفطّن التوي إلى ما اقترفت يداه و لكنه سرعان ما يتدارك ذلك ليواصل تذكيرنا بأنه صاحب واجب، فلم ينس؛" قبل أن اغفو أبّنت حلمي بما يليق به"، فهل هو هروب من أمر فعله مع سبق الإصرار أم تكفير عن ذنب اقترفه و لكنه يواصل الدفاع عن نفسه مادام في غفوته؟
لن يتركنا التوي في حيرتنا طويلا بل سيستفيق و يفيقنا معه مع السطر 23 " لمّا استفقت كنت على ظهر غيمة"، ليس ترسل في حوار مع هذه الغمة التي شاركته جرمه
و ضحكاته المنتصر بعد أن صار بعيدا عن مكان جريمته، بل إنّ قدماه " تتدلّيان من علٍ"، انه يتربّع على عرش الأحلام،
و أيّ احلام هذه التي يرومها؟!
يفصّل القول من جديد في هذا الحلم إن لم تخنه الذاكرة دائما، فإذا بهذا الحلم " يرفس برجليه ضلوعي" فيتحوّل إلى *جاثومٍ* يكتم أنفاسه و أنفاسنا، و ليستمدّ منّا مشروعية فعله فلم يتأخّر عن رواية هذا الحلم أو الكابوس لنا فيؤكد بالقول :" ذئبا كان حلمي أو هكذا تشكّل وهو يحدّق فيّ"، انه حلم خادع كاذب بل هو خائن لآنتظاراته، بل هو تهديد لآماله ( انظر تفسير الذئب في الحلم) التي رغم بارقة الأمل التي كان يعيش بها حيث " مرّت فراشة و مرّ طائران و مرّ غزال ( ارتباط نفسي بين الاسطر 13-14و 31-32) فإنه سرعان ما يعود إلى قلقه الوجودي من جديد الذي" ان لم تخنّي الذاكرة "،" وجه كلب "، لتنتفض" الغيمة مثل عصفور مبلّل " خوفا و رعبا يتأكدان مع" الذئب أنشب مخالبه في عينيّ و مزّق صدري" فيستسلم، و لكن هل ان هذا الحلم الذي قتله قد قتل فيه كلّ مقاومة؟
يلعب فعل الحركة في السطر 37؛" و لمّا همّ بغرس أنيابه في قلبي " دور القادح لردّ فعل لم نكن ننتظره منه بحسب تسلسل الأحداث وفق آلية التداعي الحر التي بني عليها النص، فإذا به يتحرّك و يردّ الفعل بفعل "صرخت"، فالصرخة بداية التحوّل في مستوى الكلام و الحركة و الوعي، انها الصدمة الكبرى في المستوى الذهني الذي كان مغيّبا، فلم تعد الذاكرة تخونه بل هو يؤكد :" أتذكر أني استفقت من غفوتي التي داهمتني في الغفوة الأولى"، فيتذكر انه " مرّ طائر" ( السطر 41 و يحيل على السطر 13)، و لكن هذه المرة الطائر لم يكن للأمل بل لزيادة الألم، فطار معه في رحلة الوجع، رحلة انطلقت ب :" قتلت حلما" تلذّذ بسفك دمائه حتى انعدم احساس و عمي عن بشاعة الجرم، بل أصبح متعطشا لمزيد من القتل:" كنت أعمى بنصف قلب و بأحلام أخرى،. تنتظر ان أجهز عليها"، متلذذا بالدماء فكان الجزاء نظير العمل، "و كان الطائر يدمي أصابعي بمنقاره الصلب"، في مشهد سيريالي يجمع الشيزوفرينيا و العذاب النفسي و كأننا بالحلم طائر فينيق ما أن يموت حتى يبعث من جديد في سيرورة مؤلمة، و التوي سيزيف يسقط حلما ليعيد آخر في حركة دوران لا تكلّ فيتحوّل الماء الذي " يسيل بين أصابعي" من آلية تطهّر تغسل أدرانه النفسية إلى دم يسفحه الطائر بمنقاره الصلب و لكنه لم يغد شقائق أو قمحا ( على رأي الشياب) و لكن ألما عصف به و بأحلامه، و ما أكثر أحلامنا التي عصفت و وئدت في المهد.
و هكذا كان أسلوب التداعي الحر في النص آلية تصوير الإنسان متأرجحا بين الألم و الأمل، بين الموت و البعث في بعدهما النفسي - الوجودي.

م. أ. مخلوف 17 أفريل 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى