محمد عبد الحافظ ناصف - شارع البحر

المدينة تتقيأ سكانها وشارع البحر يفتح ذراعيه للجميع‏,‏ كنت وصديقي معا يدا في يد مع تحرك قرص الشمس في تؤدة ناحية الغرب‏,‏ اصفرار دخان المدينة المتصاعد وشحوبي صورة رتيبة‏.‏
كنت أبحث عنها بين طيات الشوارع وبين ثنيات الحواري الضيقة وأمام الفاترينات التي تعشقها وبين أذرع الرجال تخيلتها بين أحضانهم أحيانا في أي شيء أو أن أراها مخطئة كي أتخلص منها‏,‏ لكني لم أستطع هي تسكنني حتي النهاية لماذا تصر علي أنني أخ لها وتصر جميعهن علي ذلك‏,‏ هل يفقدن إحساس الأخوة لديهن‏,‏ أم أنني أفقد سر العلاقة شدني صديقي من يدي أفقت كان دائما يخرجني من شرودي فزعا قال بهزاره المعهود انظر‏..‏ سنلعب‏:‏
ـ ماذا تريد؟‏!‏
كما كنا نفعل في الصغر‏,‏ لم أكن أفهم كلامه بسرعة‏,‏ لكزني بضربة خفيفة في كتفي وقال‏:‏
ـ اختر منهما‏,‏ كما كنا نفعل في الصغر‏.‏
كنا نفعل أشياء كثيرة‏,‏ كنا نلحس الملح من الجدران النشعة وكنا نضحك علي الشيخ شحاته ونسرق منه البيض‏,‏ وكنا نحب إيمان معا كنت أحبها يوما ويحبها يوما آخر أخرجت منديلا ورقيا ومسحت نظارتي السميكة التي أحضرتها كي أري وجهها العذب من بعيد دون أن تراني وأذوب خجلا وتطرب أناملي كأبي الذي في السبعين‏,‏ فهمت ماذا يريد‏.‏ بنتان تسيران أمامنا الشعر ينساب في فوضوية نفس الجسم ونفس الشكل من الخلف لكزني مرة أخري عدلت نظارتي‏.‏
ـ اختر واحدة لك وسوف آخذ الأخري
ـ كنا نلعب وأدعك تختار لكنك تعود وتختار الأخري
ـ سوف أرضي لأجلك تلك المرة
ـ إذن اختر أنت واحدة وسوف أرضي لأنني أعرفك
ـ سوف أختار التي علي اليمين
ـ حسن ورغم أنني لا أتفاءل باليسار
كانت التي علي اليسار ضئيلة الجسم نوعا ما ثمة تثاقل في مشيتها كأنها تتألم من شيء ما وتتكيء أحيانا علي الأخري ثم تعاود سيرتها المتثاقلة كانت ثالثة تقف أمام فاترينة نفس الفستان الشاحب أخذتني حاولت أن أتفرس وجودها روحها لكنها لم تكن هي عاودت متابعة التي أمامي وصديقي حاول أن يلفت نظر البنت اليمني‏,‏ رمقته بنظرة لكنه لم يستطع أن يحدد معالمها جيدا‏.‏
ـ هه سوف تعود في كلامك
ـ لا وأنا راض بنصيبي تلك المرة
شعرت أنني أتبعها خطوة خطوة هبت نسمة هواء وتطاير شعرها المنسدل ورأيت شنبر نظارتها وشعرت بالراحة تحسست نظارتي وكانت ترتدي نظارتها الريبان تنظر لي من خلفها أنا جالس أمامها أتواري خجلا خلف عدساتي مرقت طفلة من أمامي تعطلت لثوان وكان صديقي قد تجاوزني بخطوات سريعة‏.‏ وهويدا قد رحلت لمدينتها الساحلية بعد الحرب وأمل هاجرت مع الديها إلي نفط البلاد رغم أنني حذرتها وعدتها أن أصنع لها عروسة أفضل من عروسة إيمان لكنها لم تسمع كلامي ثم ذهبت إلي الششتاوي لم تعد بعد‏.‏
تجاوزت عرقلتي أسرعت خلفها كنت أود أن أري وجهها و هل يشبه وجه التي تشعر أنني أخوها رغم أنني لم أرضع من أمها شيئا ويسري داخلي اعتقاد أن أي واحدة قادرة علي أن تقوم بأداء الدور والتفتت التي علي اليمين وحدد صديقي ملامحها بسرعة‏,‏ لم يعجب بها‏,‏ بدا علي وجهه الامتعاض‏,‏ تقزز رغم شعرها الفوضوي وبنطالها الضيق‏,‏ أصبت بالضيق وقال ضاحكا‏:‏
ـ أسف وسوف أخلف وعدي معك‏,‏ سوف آخذ التي علي اليسار
أحسست أنني أقترب منها أكثر‏,‏ وأنها شديدة الشبه من صاحبة النظارة‏,‏ هي نفسها التي أحبها‏,‏ صرخت‏:‏
ـ لا لن تأخذها مني
ابتسم ساخرا وقال بصوت واثق
ـ دائما ما تتنازل لي‏,‏ ما الذي حدث لك‏,‏ نحن نلعب
ـ لست ألعب‏,‏ هي التي أحبها لن أتركها لأحد لن تأخذها مني
وجدتني أضربه‏,‏ أضربه‏,‏ كان يتغير وجهه إلي نفس الوجوه التي أراها وسرقت مني الأخريات‏,‏ يرتدي نظارة تارة وتارة يخلعها ويكبر أنفه ويستطيل تجحظ عيناه أضربه يتسع فمه حتي يبلعني‏,‏ ثم يلفظني بعيدا أواري سوءتي بورق الشجر بدأ صراخه يرتفع ويرتفع‏.‏
تجمع الناس في شارع البحر منعوه مني ومنعوني منه كان يصد ضرباتي فقط وفقط‏.‏ لم يضربني ازداد بكائي وقعت علي الأرض كانت أقدامهن بدأت تختفي بين أقدام البشر تطايرت في السحب الرمادية الكئيبة‏,‏ اكتسي الوجود بظلمة الليل‏,‏ أضاءت أنوار فلوريسنت صفراء رأيت وجهه شاحبا أمسكت نظارتي حاولت أن أري لكني لم أر شيئا وطوحت بها في الهواء تناثرت عدستها في الفراغ شظايا تلاشت مع الريح لم أعد أراها ولم أعد أعاود الخجل اتكأت عليه وعاودنا السير لكننا كنا ننظر لأسفل‏.‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى