جلست إلى جوار النافذة. تتبعته وهو يفتح باب السيارة، ويأخذ مكانه خلف عجلة القيادة، ثم ينطلق في الشارع ويختفي. هكذا كل صباح في الساعة الثامنة تماماً يذهب ويتركها جالسة وحدها، هي والعروسة ظلت مستقرة على المقعد الهزاز منذ أن أحضرتها لها شقيقتها فاطمة. فكرت في أن تنقلها لتجلس أحياناً مكانها، لكن في كل مرة كانت تتراجع من دون أن تعرف لماذا. تشعر بأنها مستريحة في مكانها، ولا داعي لإزعاجها، فهي الكائن الوحيد الذي شاركها الساعات الطويلة لأيامها طوال العشرين سنة التي مرت عليها منذ زواجها.
ذهب وتركها وحدها. هكذا كل يوم في الساعة الثامنة صباحاً يهبط على السلالم إلى الشارع تاركاً إياها جالسة إلى جوار النافذة. يقول لها لا بد من أن أغادر الآن إلى المكتب. تُرى بعد المكتب إلى أين يذهب، فهو لا يعود إلى البيت كل يوم في الساعة نفسها؟ يقول إنه يقضي بعض الوقت في المقهى القريب من العمارة التي يُوجد فيها مكتبه. هناك يلتقي بأصدقائه، يتبادلون الأحاديث، وهم يدخنون. لم تر المكتب، ولا المقهى، ولا العمارة. لا تعرف عنه شيئاً سوى أنه رجلها تزوجته منذ عشرين سنة، أو ربما أكثر... فأحياناً تعجز عن حساب السنوات. عشرون سنة ظل يذهب أثناءها إلى أماكن لا تعرف عنها شيئاً، فهي لم ترها أبداً، وهو لا يحدّثها عنها. ربما هي مذنبة في حقه، فهي لم تلد له ذكراً ولا حتى أنثى، لكنه لم يُشر إلى ذلك سوى مرة واحدة ثم صمت. كل يوم في الصباح الباكر تُعد له إفطاره، بيضة مسلوقة مع قليل من الفلفل الأسود، قطعة من الجبن الأبيض، وزيتون، ومن وقت إلى آخر تُحضّر فولاً مدمساً بالزيت الحار والليمون. يتناول إفطاره في صمت، وهي جالسة أمامه، فقد يحتاج إلى شيء آخر. تسمع صوت الخبز المحمص الذي يجرشه بين أسنانه، وصوت الشاي وهو يرتشفه، ومصمصة شفتيه بعد أن ينتهي من الوجبة، يجففهما بسرعة على منشفة صغيرة طرزت عليها الحروف الأولى لاسمه. بعد الإفطار يحتسي فنجاناً من القهوة الداكنة يُعدّها لنفسه، فهو يقول إنها لا تجيد صنع القهوة و «الوِش» كثيراً ما يضيع منها. يُدخن سجارة مع القهوة، ثم يقوم إلى المرآة الكبيرة المثبتة على الحائط، يتأمل نفسه فيها. يربت على شعره. تخللته شعيرات قليلة أدركها الشيب. يُحكم رباط العنق الزاهي اللون لتتوسط العقدة ياقة القميص. ينحني ويقبّلها على خدها حيث تجلس كأنها منتظرة حتى يفرغ. يلقي عليها السلام، ثم يُمسك بحقيبته الجلدية. يجتاز الصالة فتسمع صوت كعبي حذائه على الأرض الخشبية، ثم باب الشقة عندما يُغلق. تذهب إلى النافذة لتتبعه وهو ينصرف، ثم تبدأ ساعات اليوم التي تخصها.
تأملت الغرفة الممتدة أمامها. حملقت في العروسة الجالسة على المقعد الهزاز. وجهها مستدير أبيض، وعيناها تبرقان كالخرز الأسود. ترتدي ثوباً أصفر اللون وحذاءً من القماش المزخرف. تتفرس العروسة في وجهها كأنها تريد أن تقول شيئاً، لكنها مثلها تعودت الصمت. الأيام تمر هكذا. هي في البيت والعروسة معها، وهو هناك في مكان ما يُطل من نافذة مكتبه على المدينة، يتحدث في التليفون ويضحك، يُوقّع على أوراق تضعها أمامه السكرتيرة وهي تميل عليه، وعندما ينتهي من يوم العمل يذهب إلى مكان آخر يعود منه أحياناً في الليل متأخراً، لكن يوم الخميس يعود مبكراً. قامت من جلستها، وذهبت إلى المطبخ. غسلت أدوات الإفطار وجففتها. وضعت السبانخ التي قصفت أوراقها الخضراء وغسلتها بالأمس في وعاء. قامت بتنقية الرز. تبّلت الدجاجة بالملح والبصل والفلفل الأسود، ثم أعادتها إلى المبرد. لن تقوم بالطهي الآن، فاليوم ما زال أمامها الوقت إلى أن يعود آخر النهار، أو ربما في الليل. ذهبت إلى غرفة الجلوس، وشغّلت التلفزيون. أطل عليها رجل ملتحِ ينظر إليها في غضب وهو يتكلم. أنهى كلامه فظهرت امرأة شابة جميلة تنشر ملابس ناصعة البياض على الحبل في إعلان عن مسحوق صابون للغسالات. أغلقت التلفزيون وقامت إلى الحمام. أخرجت بعض الشراشف، والقمصان، والمناشف من سبت ودسّتها في الغسالة. وضعت مسحوق الصابون في الدرج. أحكمت إغلاق بابها ثم أدارتها وعادت لتجلس إلى جوار النافذة. أحست بجفونها ثقيلة، وبعد قليل سقطت في النوم. استيقظت فجأة على صوت كالرعد.
قامت وأطلت من النافذة في رعب. فُوجئت بجموع غفيرة من الناس تزحف من عند الميدان البعيد قليلاً وتصب في بداية الشارع الممتد أمامها. كان بعضهم يحملون لافتات، ورايات كبيرة ترفرف في الريح، أو يرفعون غيرهم على الأكتاف. كانت تتردد فرقعات فيتراجع الزحف، ثم يعود. جاءتها أصوات كالطبول تدق، وهتافات ترددت فيها كلمات لم تلتقطها أو لم تُدرك معناها، لكن في لحظة التقطت كلمة «يسقط»، ثم اسماً بدا لها أنه يُشبه اسم زوجها. تتبعت الهتاف فزاد وضوحاً كلما اقترب الزحف من المبنى الذي تُطل منه. هل هو اسم زوجها؟ لا ليس هو. لا يمكن أن يكون هو. مع ذلك هناك شبه ما، شبه بدا واضحاً كلما علا الهتاف. أغلقت النافذة. خلعت الجلباب الذي كانت ترتديه. أخرجت تنورة وقميصاً من الدولاب وارتدتهما بسرعة. أحست بقلبها يخفق، بيديها ترتعشان. ارتدت حذاء من المطاط اشترته للذهاب إلى السوق. دارت بنظراتها حول غرفة النوم، فوقعت عيناها على العروسة الجالسة على المقعد الهزاز. حملقت في وجهها. مدت إليها يديها كأنها تريد أن تحملها، ثم تراجعت. بدا لها أن دمعة تسقط على خدها. أحست بغصّة في حلقها. ربتت على رأسها بحركة سريعة ثم استدارت. اجتازت الصالة وخرجت ثم أغلقت الباب وراءها ودفعت البوابة الحديدية بركلة من قدمها. عاد إلى البيت عند آخر النهار. اجتاز الصالة. ذهب إلى غرفة النوم. خلع حذاءه وملابسه، وارتدى جلباباً من التيل الأبيض، وخفاً، ثم توجه إلى الحمام. اغتسل وخرج منه. أحس بشيء غريب في الشقة، بصمت كامل كأنه لا يُوجد أحد فيها سواه. نادى عليها مرة، ومرتين. استمر الصمت. بحث عنها في حجرة الجلوس، وغرفة المعيشة والمطبخ، في كل مكان مرة ثم مرة ثانية وقد تملكه قلق متزايد. أين هي؟ إنها لا تترك الشقة أبداً. جلس على المقعد قرب النافذة وهو يحملق في الغرفة الخالية الممتدة أمامه، فوقعت عيناه على العروسة الجالسة على المقعد الهزاز. كانت تميل ناحيته كأنها تفحصه وعلى وجهها شيء بدا له كالابتسامة، وإلى جوارها على المنضدة الصغيرة لمح مفاتيح الشقة تركتها خلفها.
ذهب وتركها وحدها. هكذا كل يوم في الساعة الثامنة صباحاً يهبط على السلالم إلى الشارع تاركاً إياها جالسة إلى جوار النافذة. يقول لها لا بد من أن أغادر الآن إلى المكتب. تُرى بعد المكتب إلى أين يذهب، فهو لا يعود إلى البيت كل يوم في الساعة نفسها؟ يقول إنه يقضي بعض الوقت في المقهى القريب من العمارة التي يُوجد فيها مكتبه. هناك يلتقي بأصدقائه، يتبادلون الأحاديث، وهم يدخنون. لم تر المكتب، ولا المقهى، ولا العمارة. لا تعرف عنه شيئاً سوى أنه رجلها تزوجته منذ عشرين سنة، أو ربما أكثر... فأحياناً تعجز عن حساب السنوات. عشرون سنة ظل يذهب أثناءها إلى أماكن لا تعرف عنها شيئاً، فهي لم ترها أبداً، وهو لا يحدّثها عنها. ربما هي مذنبة في حقه، فهي لم تلد له ذكراً ولا حتى أنثى، لكنه لم يُشر إلى ذلك سوى مرة واحدة ثم صمت. كل يوم في الصباح الباكر تُعد له إفطاره، بيضة مسلوقة مع قليل من الفلفل الأسود، قطعة من الجبن الأبيض، وزيتون، ومن وقت إلى آخر تُحضّر فولاً مدمساً بالزيت الحار والليمون. يتناول إفطاره في صمت، وهي جالسة أمامه، فقد يحتاج إلى شيء آخر. تسمع صوت الخبز المحمص الذي يجرشه بين أسنانه، وصوت الشاي وهو يرتشفه، ومصمصة شفتيه بعد أن ينتهي من الوجبة، يجففهما بسرعة على منشفة صغيرة طرزت عليها الحروف الأولى لاسمه. بعد الإفطار يحتسي فنجاناً من القهوة الداكنة يُعدّها لنفسه، فهو يقول إنها لا تجيد صنع القهوة و «الوِش» كثيراً ما يضيع منها. يُدخن سجارة مع القهوة، ثم يقوم إلى المرآة الكبيرة المثبتة على الحائط، يتأمل نفسه فيها. يربت على شعره. تخللته شعيرات قليلة أدركها الشيب. يُحكم رباط العنق الزاهي اللون لتتوسط العقدة ياقة القميص. ينحني ويقبّلها على خدها حيث تجلس كأنها منتظرة حتى يفرغ. يلقي عليها السلام، ثم يُمسك بحقيبته الجلدية. يجتاز الصالة فتسمع صوت كعبي حذائه على الأرض الخشبية، ثم باب الشقة عندما يُغلق. تذهب إلى النافذة لتتبعه وهو ينصرف، ثم تبدأ ساعات اليوم التي تخصها.
تأملت الغرفة الممتدة أمامها. حملقت في العروسة الجالسة على المقعد الهزاز. وجهها مستدير أبيض، وعيناها تبرقان كالخرز الأسود. ترتدي ثوباً أصفر اللون وحذاءً من القماش المزخرف. تتفرس العروسة في وجهها كأنها تريد أن تقول شيئاً، لكنها مثلها تعودت الصمت. الأيام تمر هكذا. هي في البيت والعروسة معها، وهو هناك في مكان ما يُطل من نافذة مكتبه على المدينة، يتحدث في التليفون ويضحك، يُوقّع على أوراق تضعها أمامه السكرتيرة وهي تميل عليه، وعندما ينتهي من يوم العمل يذهب إلى مكان آخر يعود منه أحياناً في الليل متأخراً، لكن يوم الخميس يعود مبكراً. قامت من جلستها، وذهبت إلى المطبخ. غسلت أدوات الإفطار وجففتها. وضعت السبانخ التي قصفت أوراقها الخضراء وغسلتها بالأمس في وعاء. قامت بتنقية الرز. تبّلت الدجاجة بالملح والبصل والفلفل الأسود، ثم أعادتها إلى المبرد. لن تقوم بالطهي الآن، فاليوم ما زال أمامها الوقت إلى أن يعود آخر النهار، أو ربما في الليل. ذهبت إلى غرفة الجلوس، وشغّلت التلفزيون. أطل عليها رجل ملتحِ ينظر إليها في غضب وهو يتكلم. أنهى كلامه فظهرت امرأة شابة جميلة تنشر ملابس ناصعة البياض على الحبل في إعلان عن مسحوق صابون للغسالات. أغلقت التلفزيون وقامت إلى الحمام. أخرجت بعض الشراشف، والقمصان، والمناشف من سبت ودسّتها في الغسالة. وضعت مسحوق الصابون في الدرج. أحكمت إغلاق بابها ثم أدارتها وعادت لتجلس إلى جوار النافذة. أحست بجفونها ثقيلة، وبعد قليل سقطت في النوم. استيقظت فجأة على صوت كالرعد.
قامت وأطلت من النافذة في رعب. فُوجئت بجموع غفيرة من الناس تزحف من عند الميدان البعيد قليلاً وتصب في بداية الشارع الممتد أمامها. كان بعضهم يحملون لافتات، ورايات كبيرة ترفرف في الريح، أو يرفعون غيرهم على الأكتاف. كانت تتردد فرقعات فيتراجع الزحف، ثم يعود. جاءتها أصوات كالطبول تدق، وهتافات ترددت فيها كلمات لم تلتقطها أو لم تُدرك معناها، لكن في لحظة التقطت كلمة «يسقط»، ثم اسماً بدا لها أنه يُشبه اسم زوجها. تتبعت الهتاف فزاد وضوحاً كلما اقترب الزحف من المبنى الذي تُطل منه. هل هو اسم زوجها؟ لا ليس هو. لا يمكن أن يكون هو. مع ذلك هناك شبه ما، شبه بدا واضحاً كلما علا الهتاف. أغلقت النافذة. خلعت الجلباب الذي كانت ترتديه. أخرجت تنورة وقميصاً من الدولاب وارتدتهما بسرعة. أحست بقلبها يخفق، بيديها ترتعشان. ارتدت حذاء من المطاط اشترته للذهاب إلى السوق. دارت بنظراتها حول غرفة النوم، فوقعت عيناها على العروسة الجالسة على المقعد الهزاز. حملقت في وجهها. مدت إليها يديها كأنها تريد أن تحملها، ثم تراجعت. بدا لها أن دمعة تسقط على خدها. أحست بغصّة في حلقها. ربتت على رأسها بحركة سريعة ثم استدارت. اجتازت الصالة وخرجت ثم أغلقت الباب وراءها ودفعت البوابة الحديدية بركلة من قدمها. عاد إلى البيت عند آخر النهار. اجتاز الصالة. ذهب إلى غرفة النوم. خلع حذاءه وملابسه، وارتدى جلباباً من التيل الأبيض، وخفاً، ثم توجه إلى الحمام. اغتسل وخرج منه. أحس بشيء غريب في الشقة، بصمت كامل كأنه لا يُوجد أحد فيها سواه. نادى عليها مرة، ومرتين. استمر الصمت. بحث عنها في حجرة الجلوس، وغرفة المعيشة والمطبخ، في كل مكان مرة ثم مرة ثانية وقد تملكه قلق متزايد. أين هي؟ إنها لا تترك الشقة أبداً. جلس على المقعد قرب النافذة وهو يحملق في الغرفة الخالية الممتدة أمامه، فوقعت عيناه على العروسة الجالسة على المقعد الهزاز. كانت تميل ناحيته كأنها تفحصه وعلى وجهها شيء بدا له كالابتسامة، وإلى جوارها على المنضدة الصغيرة لمح مفاتيح الشقة تركتها خلفها.