محمد أحمد مخلوف - أنسنة الفضاء و دلالاتها في نص تهانٍ لعبد الواحد السويح

تهانٍ عبد الواحد السويح - تونس

قالت المساجد التي طلقتها :
هنيئا لك بالفرار من أتون الكفر
لا أقوى مثلك على معانقة البحر أو مغازلة برق يخترق شجرة
لا أقوى على الركض فوق السماء
و قال القفص الذي هجرته :
هنيئا لك بالفرار من أتون الملل
هنيئا لك بالتماع السماء على جناحيك
هنيئا لك بمباركة الشجرة
بالرقص على إيقاع الريح
لا أقوى مثلك على بناء عشّ فوق الأسلاك
و قال ناس كانوا معي :
لا نقوى على مغازلة سمكة
لا نقوى على مجالسة السماء
كيف نكلّم الأشجار و كيف نرقص مع ورقة؟
أما أنا فأقول :
هنيئا لي بهاتين العينين
وجدتهما بعد أربعين سنة من البحث.


🌷 أنسنة الفضاء و دلالاتها في نص تهانٍ لعبد الواحد السويح 🌷

لم يكتف السويح بتهنئة واحدة لأنها لم تكن في مستوى انتظاراته وهو ما أخبرنا به منذ العنوان الذي جاء مكتنزا بمشاعر الفرح الذي وصله أخيرا " بعد أربعين سنة من البحث"، لنطرح السؤال عن كيفية نجاحه في الوصول إلى غائيته؟
نشير بداية إلى اننا قد نتعسف على النص في عملية التأويل و البحث في أغواره و محاولة فك شفرته، و سنعتمد اصطلاحا نقديا هو * الأنسنة *، حيث تحويل الجمادات إلى بشر يحسّون و يشعرون و يتفاعلون، و الأنسنة أشمل من المصطلح البلاغي * التشخيص * مما يجعل عملية التأويل أسهل ربما.
تنطلق قصة أو حكاية السويح مع فضاء عام له معه تجربة حياتية انتهت بالطلاق، فإذا بالعلاقة رغم انقطاعها مازالت متواصلة عبر فعل القول : " قالت المساجد"، لتكون أنسنة هذا الفضاء ذات بعد نفسي - روحي مرتبطة بأهمية المسجد من الناحية الروحية التي تكسبه قداسة "طلّقها" السويح ، فجاء الجزاء سريعا لتهنِّئَهُ المساجد :" هنيئا لك بالفرار من أتون الكفر". ليطرح علينا السؤال حول كيفية تحوّل المساجد إلى أتون للكفر؟
ان السويح الذي يقرّ بطلاقه للمساجد فإنه ضمنيّا يؤرّخ لعلاقة سامية جمعته بها فلم تدنّس، و حتى فعل الطلاق كان بإحسان و معروف و إلاّ لما كانت التهنئة الأولى في النص، بل تتواصل العلاقة بينهما فتبثّه شكواها من الضعف الذي أوهنها فجعلها " أتون كفر" أسعر نيرانه هؤلاء المتطرفون "القادمون على سفن صفراء من الصحراء المقدسة من بلاد الجن و البعير الشافي" ( نص برييانكا)، فتقرّ له بأنها :" لا أقوى مثلك على معانقةالبحر / لا أقوى على الركض فوق السماء"، انها مغلولة عاجزة عن الفعل، فكان السويح المحب للحرية و العقل خير ملهم لها لتطلق صرخة الحرية.
هذه الصرخة سيكون صداها من السطر 5 إلى السطر 10 ، فإذا بالقفص يتكلّم و يهنّيه ثلاثًا في احالة على طلاقه للمساجد بالثلاث، فالقفص في رمزيته كناية عن القيود الفكرية و النفسية التي تكبّله و التي كان للسويح الشجاعة
و الإقدام ليهجره : * القفص الذي هجرته *، فتكون التهاني في نسق تصاعدي :" الفرار من أتون الملل" ثم بالطيران
و " التماع السماء على جناحيك" لتتواصل " بمباركة الشجرة".
هذه الشجرة التي تهب الحياة، الحياة الجديدة التي يبحث عنها، فإن كانت ملحمة جلجامش تذكر أنّ * إتانا *بحث عن نبتة تعطي الحياة ليحصل على ابن، أو كما جاء في سفر التكوين في الكتاب المقدس" هي شجرة غرسها الله في وسط جنة عدن يعطي ثمرها الحياة الأبدية و الخلود "، فإن السويح يبحث بمباركة الشجرة عن الانعتاق و الحرية، يحلم بجناحين " بالرقص على إيقاع الريح". إنه الإنسان الذي يبحث عن ماهيته و يؤصّل لكيانه في رحلة الوجود التي لا مكان فيها للضعيف الذي" لا أقوى مثلك على بناء عشّ فوق الأسلاك ".
ان أنسنة الفضاء و الأماكن عند السويح كانت ذات بعد برغماتي، فانتقل من الفضاء ( المسجد / القفص / الشجرة / العش) إلى الإنسان الفعلي متدرّجا في مستوى الضمائر من الغائبين ( قالت المساجد) إلى الغائب المفرد ( قال القفص)، لتكون أفعال القول دعامة هذا التدرّج الذي يحرّره من الخيال و أنسنة الفضاء مع ما صاحب ذلك من صراع نفسي صاحَبَهُ الوهم الذي يعيشه لتكون نقطة التحول أو بداية الوعي و العودة إلى عالم الواقع و الإنس حين خاطبته مجموعة من البشر مثله :"و قال ناس معي"، و لكن ما هي ملامحهم؟
ان التحول في مستوى الضمائر جعلنا ازاء مجموعة تتكلّم ( ضمير الجمع نحن) و لكنّ كلامها كما صوره لنا السويح، كلام سلبي يؤكدون فيه على ضعفهم ( لا نقوى على... [س12و13]) ،انهم قطيع لم " يطلّق أتون الكفر" و لم " يهجر القفص" و لم" يرقص على إيقاع الريح"، بل انهم يتساءلون :" كيف نكلّم الأشجار و كيف نرقص مع ورقة؟"، انهم محرومون من شجرة الحياة، لم يدركوا كيف يراقصون ورقة التوت التي عرّت جهلهم و خوفهم. فهل ان السويح الذي صوّر لنا هذه العلاقات المتشابكة بين مكونات هذا الفضاء على اختلافها قد انسجم و تماهى معها؟
المؤكّد منذ بداية النص و على امتداد الحركة السردية داخله، أنه كان واعيا بهذا الضعف و البلادة العقلية لقطيع - و ان كان يعيش و يشترك معه في الفضاء - فإنه متفرّد عنه يغرّد خارجه، بل انه واعٍ بكونه استثناء ( س15) :" أما أنا فأقول"، نعم إن له قولا فصلا، انه يهنئ نفسه بنفسه التي تصالح معها :" هنيئا لي بهاتين العينين، وجدتهما بعد أربعين سنة من البحث"، ليكون الفرح بالوصول إلى نتيجة بحث امتد على أربعين سنة، هو بحث في كنه الحياة و الوجود بعد تجارب مضنية توّجها :" بالفرار من أتون الكفر " و " أتون الملل"
و الفضل " لهاتين العينين" التين كانتا عنصر الإبصار العقلي
و الوجداني فكانتا له البصيرة لا البصر في رحلة البحث عن الذات و التأصيل للكيان تتقاذفه الحيرة مرّة و الطمأنينة أخرى حتى وصل برّ الأمان فآستحقّ كل هذه التهاني التي صوّرها لنا السويح في نص * تهانٍ *.
م أ مخلوف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى