د. نادر عبدالخالق - النبى روبين.. قصة قصيرة

النبى روبين..
قصة قصيرة

د. نادر عبدالخالق

-1-

" لاتشهد على قريبك شهادة زور ولا تشته بيت قريبك "
" لاتشته امرأة قريبك ولا أمته ولا ثوره ولاحماره "
" لاتقرض أخاك بربا للأجنبي تقرض بربا لكن لأخيك لاتقرض بربا "
سفر التثنية .


-2-
- الليل أطبق حلكته على كل الوجود .
- الظلام لايترك أثرا لقدم يبحث عن مصير .
- لم يعد هناك شعاع من نور فى السماء إلا ما يتركه أثر الشرر المنبعثة من القذائف العشوائية والنيران والحرائق المنتشرة فى كل مكان .
أطلقت سارة بنت العاشرة ساقيها للريح لا تدرى فى أى اتجاه تنطلق جريا وهربا، أفى الاتجاه الذى سار فيه الجميع.. ؟
أم الاتجاه الذى تراه آمنا..؟
أم تتوقف وتنتظر إلى أن تهدىء العاصفة النيرانية..؟
إلى أى الاتجاهات تهتدى لا تعرف ولا يمكنها أن تبصر شيئا أمامها، الطرق كلها غير آمنة .. والنيران تشتعل فى كل البيوت والأماكن .. !!
القذائف تنطلق من فوهات المدافع فى كل الاتجاهات، خاصة فى التجمعات السكانية والمناطق المكتظة داخل القرية، وطلقات الرصاص لا تفرق بين أحد ولا تختار طريقها، ولاتخطىء البشر المنتشر فى الشوارع والطرقات .
وجدت سارة نفسها وحيدة قد تهدم البيت الذى يظلها ومات أبوها " مصطفى الفروانى" وأمها " نجيبة " بنت " عبدالله النجيب" تحت بطش النيران، وتحت وطأة الحصار، وبسبب الإصرار على عدم مغادرة البيت والقرية، وعنف التشبث بأمل الحياة والبقاء فى المكان الذى عاشا فيه ونشأ وأصبح لهما فيه بيت وأسرة وأهل وأصدقاء .
لم يهتم مصطفى بالوعيد الذى تتطلقه المدافع فى كل وقت وحين منذ أن بدأ الحصار فى القرى المجاورة، وامتد حتى وصل قريته، وبات عدم الاكتراث بالتهديد الذى يطلقه العدو ومدافعه أمرا خاصا يرتبط بالكرامة والدفاع عن النفس والوطن والأهل، فى المقابل خرج الجميع متجها ناحية الجنوب تاركا الوطن والأهل والذكريات .
ظل " مصطفى" على حاله من الدفاع والتشبث بالذكريات حتى باغتته قذيفة ليلية هو وزجته.. تاركا خلفه سارة البنت الرقيقة الجميلة، وحطام منزل متواضع صغير يتوسط القرية أقامه من الطين .. وسقفه معروق ببقايا الأشجار، كان يضم أسرة جميلة هادئة تحيا فيه حياة مستقرة بين دفء الوطن وطبيعته الساحرة .
ولم يتبق فى القرية إلا النفر القليل ممن أصر على البقاء ومن الجرحى والمصابين الذين فقدوا الحركة وأصبحوا فريسة للعجز والقهر، وبعض الشباب المتحمس للقتال، وحفنة من الأطفال الذين فقدوا الأهل والمأوى ولم يعد لهم سوى ضجيج المدافع وأنين الطلقات، وصرخات الليل الموحش، وعلى فترات يتقلص العدد بعد أن يتسلل الناس ليلا هربا إلى القرى المجاورة إلى أن خرج معظم أصحاب القرية ليلا دون مقاومة .
ولم تكن سارة تعرف شيئا عن الطرق المؤدية للقرى المجاورة، أو تعرف دروب الطريق تجاه الجنوب، حيث الجبال والأودية والهضاب، والعبور ناحية الجيش اللبنانى، والاستقرار مع أهل القرية الذين يعرفونها إلى أن يحين موعد العودة من جديد .
لم تجد سارة ملاذا أمنا إلا فى صحبة الصغار وبعض المصابين، الذين توجهوا إلى ناحية القبور ومقامات الموتى .. وخطر لها طيف الليالي القمرية واللعب مع الصغار.. فتذكرت مقام " النبى روبين"، وتذكرت أياما كانت تقضيها فى رحابه مع الأطفال والكبار تبركا به، وكانت تسمع روايات كثيرة عن هذا النبى الذى سميت القرية باسمه، فهو أحد أبناء يعقوب عليه السلام، وأحد أخوة يوسف الأحد عشر كوكبا، الذين وردت قصتهم فى القرآن والكتب المقدسة .
فذهبت مع من ذهبوا إلى مقام " النبى روبين " ومكثت أياما لم تكن كافية لتهدأ غارة اليهود الصهاينة، الذين يريدون القرية خالية من أصحابها ويريدون تهجير الجميع تجاه الجنوب اللبنانى، واشتد الجوع والعطش واستمرت القذائف تنهال يمينا ويسارا فى اتجاه الحياة وفى ناحية المقابر .
ولم يقو الأطفال والمصابين على مقاومة جيش بأكمله فتسللوا جميعا ليلا باتجاه الجنوب تجاه لبنان، واستقبلهم الجيش اللبنانى وحملهم إلى منطقة المخيمات، وأطلق عليهم لقب لاجئين مع من لحق بهم من الفلسطنيين المهجرين من ديارهم، من أماكن أخرى وقرى عديدة استولى عليها الصهاينة وطردوا أصحابها .
وكلما تمر السنون تصعد سارة إلى قمة الجبل وتنظر باتجاه " النبى روبين" تتذكر أبيها وأمها وتتذكر أيام الطفولة ..
وتحلم بالعودة ..
وتحلم بالخلاص من لقب لاجئة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى