(1) المستطيل:
لا أزال، بعد سنوات في هذا البلد العربي، أتذكر كيف كانت البداية..
سألني الرجل في مكتب السفَر: كيف تشرح درسا كالمستطيل مثلا؟
تفاجأتُ حينها بمنظره. ظننتُه مصريا، لولا لهجته. شعره أسود جدا وطويل. لا يُغطي رأسه، ولا يلبس عباءة أو جلباب، بل الجينز والقميص المشجر.
قمتُ واقفا أمام سبورة بيضاء مُعلقة على الحائط. تناولتُ القلم الأزرق ورسمت مستطيلا. رأيتُ العيون المرشوقة فيّ. بدأتُ أتكلم وأُشير بيدي: المستطيل حولنا في كل مكان، في شكل السبورة والباب، وهذه اللوحة الجميلة جنب النافذة. له طُول وعَرض، الطول أكبر من العرض، هو طول لأنه الأطول.
أوقفني الرجل بإشارة حاسمة: زين والله. مُوفّق إن شاء الله.
لم أُصدق أن مقابلتي انتهت، وأن الرجل وافقَ بهذه البساطة على قَبُولي مُدرِّسا في مدارسه التي يملكها. الغريب أن لا أحد عقَّبَ أو سألني شيئا آخر، بمَنْ فيهم وكيل المدرسة المصري الذي حذَّرني منه الذين سبقوني في المُقابلة. لم يطلب مني فتحَ المصحف وقراءة آيات مثلما فعل مع آخرين، ولا سألني عن التدخين الذي أُمارسه بالفعل.
خرجتُ مع زملائي المقبولين، في طريقنا لتخليص أوراق من القنصلية، غير مُتخيل أبدا أن المستطيل، الذي لم أضعه في بالي من قبل، سيكون البِساط السحري الذي يحملني خارج هذا البلد، بعيدا عن الهَم والكَمد والموت البطيء.
..
كيف أشرح درسا كالمستطيل مثلا؟!
المستطيل هو دفتر تحضيري للدروس، أرضية غرفتي، المسند المُريح للظهر في المطاعم التي ندخلها لنأكل الكَبْسَة، وجه المدير تحت الشّماغ والعِقال في طابور الصباح.. غالبية النوافذ أيضا مستطيلة، مثل التي قفزتُ منها قبل سنوات لأكون هنا، ومثل التي أنتظرها بإرادتي المُعلَّقَة لتمنحني قفزة العودة.
**
(2) المُربع:
أراكَ واليوم يومك يا أستاذ "حمدي". أنت الخبير، وتعرف أن الموظف يكون نجما أو ملكا في يوم واحد ووحيد: يوم خروجه على المعاش. يسطع حضورك. تجتهد في إتعاب خديك بالابتسام في وجه هذا، والرد على هذه بمجاملات ودودة. تمشي على مهل في الطرقة الطويلة، بصحبة المدير، في طريقك للمكتب الواسع، لتجلس على الكرسي الجلدي العالي، وتسمع كلمات وكلمات عن أيامك وماضيك وعلاقاتك الطيبة. كنتَ تعرف أنهم جمعوا نقودا من بعضهم لشراء هدايا. كم دفعتَ أنت الآخر من أجل زملاء لا تذكر عددهم.. هي أيام تفوت والدور لفَّ ووقف فوق رأسك. لماذا تسكت؟ العيون عليك بعد أن سكتت الألسنة..
أخيرا تنطق. تشكرهم وتزيد مرة واثنتين. تحكي لهم عن أيام وناس، ودُنيا تغيرت عمّا كانت قبل ثمانية وثلاثين عاما. يأخذك الكلام إلى مُتتالية الحضور والانصراف والصادر والوارد وتقارير الموظفين السنوية والدرجات المالية. تختم كلامك بشُكرِهم من جديد واحدا واحدا. تنظر في وجوههم، تعرف أن كأس الدُّور مكتوب على الجميع. لن تخرج منك كلمة أخرى، تتركهم يعيدون ويزيدون. تُوسوِس لك نفسك بالحديث عن المربع، تأكلك من الداخل أمور غامضة متداخلة لتقول عن الذي رسمتَه لحفيدك بالأمس. في عفوية جاءك الولد بكراسة النشاط، وطلب أن ترسم له مُربعا وتُلوِّنه. أمسكتَ بالمسطرة ورسمتَ الأضلاع الأربعة المتساوية المُنتصبة فوق زوايا قائمة. لحظتها سرحَ فِكركَ وسافرتَ في أيامك، وفي الفراغ الكبير الذي ينتظرك بعد المعاش. تأمَّلتَ المربع: أضلاعه متساوية، صَح يا "حمدي".. المُربع له ضلع واحد يتكرر أربع مرات، وأنت لك ثمانية وثلاثون ضلعا مُتساويا، كل سَنة من سنواتك في الخِدمة تُمثل ضلعًا في شكل خُرافي متساوي الأضلاع. سنة واحدة تكررت نُسَخُها ثماني وثلاثين مرَّة. أنت رسمتَ للولد مربعا ولم ترسم لنفسك شكلا مُكوّنا من ذلك العدد الهائل من الأضلاع المُنتظِمة. لماذا تتهيأ للكلام من جديد؟ هل ستُحدِّث زملاءك عن نظرية المربع التي استحوذتْ على مُخك، ولا تزال تُعلن حُضورها المُلِح؟ لا يا أستاذ حمدي.. أظُنّكَ لن تفعل.
**
(3) الدائرة:
عند مركز الدائرة التي سنرسمها في منتصف الملعب، كنت مُرتكزا على قدميَّ، أدور ثابتا في مكاني، مُمسكا بالخيط من جانب، بينما يشدُّه أحدنا ويلف به لفَّة كاملة، ومن ورائه آخر يحمل الجردل ويرُشُّ الجير الأبيض على أثر الخط المعمول في تُراب الجُرن. اكتملتْ الدائرة الوحيدة بيضاء ناصعة، لا ينافسها القوسان المرسومان على حدود منطقتيّ الجزاء. جاء حامل الجردل ودلقَ في موضع قدميَّ لطعة بيضاء كبيرة نسبيا. هنا مركز الدائرة، النقطة التي ستبدأ منها أول ضربة كُرة بين اثنين، بعدها يكون التدافع والترقيص واللعب والفن والتكسير.
- لماذا لا تلعب معنا؟
يسألونني كثيرا بعد الانتهاء من التخطيط، أنا الذي لم أتجاوز موضعي عند نقطة البداية إلا إلى إكمال باقي الدائرة، أو على الأكثر حَمل جردل الجير. لم أُشارك في رسم باقي أجزاء الملعب، فما بالي باللعب الذي لم أحبه يوما.
أقول لهم دون أي اهتمام بإقناعهم: أنا مُستمتع بدوري عند نقطة ودائرة لولاهما ما كان للعب ضربة بداية، ولا للملعب جمال التخطيط.
أظل أراقبهم، تلمع وجوههم بالعَرق والحماس. تُدبدب أقدامهم الملتهبة فوق دائرتي وتكشطها، تُبعثر نُقطتي البيضاء قصيرة العمر، وتطمسها كأن لم تكن.
حسام المقدم
لا أزال، بعد سنوات في هذا البلد العربي، أتذكر كيف كانت البداية..
سألني الرجل في مكتب السفَر: كيف تشرح درسا كالمستطيل مثلا؟
تفاجأتُ حينها بمنظره. ظننتُه مصريا، لولا لهجته. شعره أسود جدا وطويل. لا يُغطي رأسه، ولا يلبس عباءة أو جلباب، بل الجينز والقميص المشجر.
قمتُ واقفا أمام سبورة بيضاء مُعلقة على الحائط. تناولتُ القلم الأزرق ورسمت مستطيلا. رأيتُ العيون المرشوقة فيّ. بدأتُ أتكلم وأُشير بيدي: المستطيل حولنا في كل مكان، في شكل السبورة والباب، وهذه اللوحة الجميلة جنب النافذة. له طُول وعَرض، الطول أكبر من العرض، هو طول لأنه الأطول.
أوقفني الرجل بإشارة حاسمة: زين والله. مُوفّق إن شاء الله.
لم أُصدق أن مقابلتي انتهت، وأن الرجل وافقَ بهذه البساطة على قَبُولي مُدرِّسا في مدارسه التي يملكها. الغريب أن لا أحد عقَّبَ أو سألني شيئا آخر، بمَنْ فيهم وكيل المدرسة المصري الذي حذَّرني منه الذين سبقوني في المُقابلة. لم يطلب مني فتحَ المصحف وقراءة آيات مثلما فعل مع آخرين، ولا سألني عن التدخين الذي أُمارسه بالفعل.
خرجتُ مع زملائي المقبولين، في طريقنا لتخليص أوراق من القنصلية، غير مُتخيل أبدا أن المستطيل، الذي لم أضعه في بالي من قبل، سيكون البِساط السحري الذي يحملني خارج هذا البلد، بعيدا عن الهَم والكَمد والموت البطيء.
..
كيف أشرح درسا كالمستطيل مثلا؟!
المستطيل هو دفتر تحضيري للدروس، أرضية غرفتي، المسند المُريح للظهر في المطاعم التي ندخلها لنأكل الكَبْسَة، وجه المدير تحت الشّماغ والعِقال في طابور الصباح.. غالبية النوافذ أيضا مستطيلة، مثل التي قفزتُ منها قبل سنوات لأكون هنا، ومثل التي أنتظرها بإرادتي المُعلَّقَة لتمنحني قفزة العودة.
**
(2) المُربع:
أراكَ واليوم يومك يا أستاذ "حمدي". أنت الخبير، وتعرف أن الموظف يكون نجما أو ملكا في يوم واحد ووحيد: يوم خروجه على المعاش. يسطع حضورك. تجتهد في إتعاب خديك بالابتسام في وجه هذا، والرد على هذه بمجاملات ودودة. تمشي على مهل في الطرقة الطويلة، بصحبة المدير، في طريقك للمكتب الواسع، لتجلس على الكرسي الجلدي العالي، وتسمع كلمات وكلمات عن أيامك وماضيك وعلاقاتك الطيبة. كنتَ تعرف أنهم جمعوا نقودا من بعضهم لشراء هدايا. كم دفعتَ أنت الآخر من أجل زملاء لا تذكر عددهم.. هي أيام تفوت والدور لفَّ ووقف فوق رأسك. لماذا تسكت؟ العيون عليك بعد أن سكتت الألسنة..
أخيرا تنطق. تشكرهم وتزيد مرة واثنتين. تحكي لهم عن أيام وناس، ودُنيا تغيرت عمّا كانت قبل ثمانية وثلاثين عاما. يأخذك الكلام إلى مُتتالية الحضور والانصراف والصادر والوارد وتقارير الموظفين السنوية والدرجات المالية. تختم كلامك بشُكرِهم من جديد واحدا واحدا. تنظر في وجوههم، تعرف أن كأس الدُّور مكتوب على الجميع. لن تخرج منك كلمة أخرى، تتركهم يعيدون ويزيدون. تُوسوِس لك نفسك بالحديث عن المربع، تأكلك من الداخل أمور غامضة متداخلة لتقول عن الذي رسمتَه لحفيدك بالأمس. في عفوية جاءك الولد بكراسة النشاط، وطلب أن ترسم له مُربعا وتُلوِّنه. أمسكتَ بالمسطرة ورسمتَ الأضلاع الأربعة المتساوية المُنتصبة فوق زوايا قائمة. لحظتها سرحَ فِكركَ وسافرتَ في أيامك، وفي الفراغ الكبير الذي ينتظرك بعد المعاش. تأمَّلتَ المربع: أضلاعه متساوية، صَح يا "حمدي".. المُربع له ضلع واحد يتكرر أربع مرات، وأنت لك ثمانية وثلاثون ضلعا مُتساويا، كل سَنة من سنواتك في الخِدمة تُمثل ضلعًا في شكل خُرافي متساوي الأضلاع. سنة واحدة تكررت نُسَخُها ثماني وثلاثين مرَّة. أنت رسمتَ للولد مربعا ولم ترسم لنفسك شكلا مُكوّنا من ذلك العدد الهائل من الأضلاع المُنتظِمة. لماذا تتهيأ للكلام من جديد؟ هل ستُحدِّث زملاءك عن نظرية المربع التي استحوذتْ على مُخك، ولا تزال تُعلن حُضورها المُلِح؟ لا يا أستاذ حمدي.. أظُنّكَ لن تفعل.
**
(3) الدائرة:
عند مركز الدائرة التي سنرسمها في منتصف الملعب، كنت مُرتكزا على قدميَّ، أدور ثابتا في مكاني، مُمسكا بالخيط من جانب، بينما يشدُّه أحدنا ويلف به لفَّة كاملة، ومن ورائه آخر يحمل الجردل ويرُشُّ الجير الأبيض على أثر الخط المعمول في تُراب الجُرن. اكتملتْ الدائرة الوحيدة بيضاء ناصعة، لا ينافسها القوسان المرسومان على حدود منطقتيّ الجزاء. جاء حامل الجردل ودلقَ في موضع قدميَّ لطعة بيضاء كبيرة نسبيا. هنا مركز الدائرة، النقطة التي ستبدأ منها أول ضربة كُرة بين اثنين، بعدها يكون التدافع والترقيص واللعب والفن والتكسير.
- لماذا لا تلعب معنا؟
يسألونني كثيرا بعد الانتهاء من التخطيط، أنا الذي لم أتجاوز موضعي عند نقطة البداية إلا إلى إكمال باقي الدائرة، أو على الأكثر حَمل جردل الجير. لم أُشارك في رسم باقي أجزاء الملعب، فما بالي باللعب الذي لم أحبه يوما.
أقول لهم دون أي اهتمام بإقناعهم: أنا مُستمتع بدوري عند نقطة ودائرة لولاهما ما كان للعب ضربة بداية، ولا للملعب جمال التخطيط.
أظل أراقبهم، تلمع وجوههم بالعَرق والحماس. تُدبدب أقدامهم الملتهبة فوق دائرتي وتكشطها، تُبعثر نُقطتي البيضاء قصيرة العمر، وتطمسها كأن لم تكن.
حسام المقدم