قال لي : " انهض " . فنهضتُ . كانت الساعة تقترب من الثامنة والنصف حين نظرت إليه ، جلست في السرير فأنعشتني رائحة القهوة وجعلتني أصحو قليلاً ، فقد كانت ليلة البارحة طويلة ، أقصد أنني لم أشعر بها إلا وقد تجاوزت منتصف الليل بكثير ، كان يسألني عن أوضاعي وأوضاع أسرتي وأوضاع البلد ، وأنا أجيبه بكل صدق وصراحة ، هذا ما عرفْتُ به في الوطن فكيف هنا في الغربة ، فصديقي سافر ، أو هاجر إلى باريس سنة ثمان وسبعين ، وتسعمائة وألف .
- قم واغتسل ، ستصحو من سهرة البارحة ، البارحة كانت سهرتنا لطيفة ، أليس كذلك... ؟ - سأشرب القهوة أولا ، فهي ذات تأثير سحري علي ، إنها تجعلني أصحو حالما أنتهي منها . - سآخذك اليوم في رحلة طويلة بعض الشيء، سنزور ... اترُكها ... لك مفاجأة . كنت قد وصلت باريس يوم البارحة ، ويعلم اللـه كيف كان وصولي ، فقد استقبلني موظف المطار ، وهو يسالني بلغة لا أفهم منها إلا بضع كلمات ، يسأل ويعيد السؤال ، والناس خلفي ينتظرون دورهم ، وأنا وهو فقط ، هو يعيد عليّ السؤال ، وأنا أتلجلج ، ولا تسعفني لغة من هذه التي يتكلم بها موظف المطار . في النهاية ... أخرجت ورقة الدعوة ، وكيف أن صديقي سيستقبلني ، وهو هنا في مطار " أورلي " ينتظرني ... عند ذلك ... أشار بكامل كفه ... أن تفضل ، فأسرعت أتفضل من بوابة الخروج وأنا أقول " باريس مربط خيلنا " . متقدماً إلى حيث الجموع محتشدة ، لن أطيل عليكم ... فقد أخذني صديقي إلى منزله ، وكان الغروب بهياً ، يهطل على مساء باريس بالألوان الساحرة ، فيجعلني أشاهد شيئاً أو أشياء لم أرها في حياتي ، هذا ما قلته لنفسي ونحن نتجول في الحي الذي يسكنه صديقي . كاد الفنجان أن يقع من يدي ، وأنا أعصر قهوته في فمي ، أمسكت به كيلا يقع ، ونهضت أسوي نفسي ، طالباً منه أن يفتح النوافذ ، فقال لي بعد أن تغتسل ، فتوجهت إلى الحمام أفعل كما يريد صاحبي . خلال عشر دقائق أو ربع ساعة كنت جاهزاً ، وأخبرت صديقي بذلك ، فأجابني إذاً ننطلق، ومضينا ندوس على الدرج الخشبي المرتفع ، حتى وصلنا إلى الشارع . الشارع كان نظيفاً تماماً ، والمحلات مغلقة ، ما عدا بعض المقاهي ، فالمكتبات والمطاعم والأمكنة التي تبيع الأحذية والزهور والملابس ، كانت مغلقة ، فاليوم عطلة والناس هنا ينامون متأخرين ولا يستيقظون مبكرين ، فهم يقرؤون الصحف في أسرتهم ، كما فهمت من صديقي. أخذنا المترو ، فانطلق بنا لا يلوي على شيء ، كنا صامتين ، صديقي ينظر عبر النافذة وأنا أيضاً أنظر عبر النافذة ، ثم نزلنا في إحدى المحطات وغيرنا المترو إلى مترو آخر فانطلق بنا لا يلوي على شيء هو الآخر ، وكنا صامتين ، فلم يكن في القاطرة غيرنا ، لكن بعد ثلاث محطات صعدت فتاتان وجلستا على طرف يدي اليمنى ، كانت إحداهما ترتدي تنورة قصيرة ، نظرت إليها ، فنبهني صديقي إلى أنني في باريس ، فاعتذرت ، وتابعت النظر عبر النافذة. المحطات التالية كثر فيها البشر ، بدأ الناس يصعدون إلى حافلتنا ، وصرنا حوالي العشرة، حينذاك قال صاحبي " انهض " فنهضت ونزلنا مسرعّيْن . كان الطريق المتجه صوب الأعلى ينثر بصمت شلالاً من الزهور ، والفتيات الصغيرات يعزفن على القلب أنشودة الخلود ، هنا جماعة تصلي ، وهناك جماعة تبتهل ، وفي البعيد جماعة تعزف على الكمان ، وهنا عجوزان تطلبان الرحمة لنفسيهما قبل الموت ، وجميعهم يهفون إلى الروح بأرق الألوان وأزهاها وأجملها ، ونحن ، أو قل وأنا ما زلت أعاني من ألم خلف رأسي ، وصديقي يسير بخطى ، أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها سريعة . كانت مقبرة العظماء تقع على سفح تل أو جبل أو شيء من هذا القبيل ، تظللها الأشجار في الأعلى والورود والأزهار في السفح ، والفتيات الصغيرات بمعزوفاتهن وأناشيدهن يشبهن إحدى قرى نهر الدانوب ، وأنا وصديقي ناقتان تبحثان عن الماء في صحراء جفّ ماؤها وتعذر الحصول عليه ... عند ذاك طلبت من صديقي أن يخفّف السير ، رحمة بي ، ورفقاً بقدميّ اللتين لم تتعودا على مثل هذا السير . قال : " لم يبق إلا القليل " ... فتركته يسير وحيداً واستندت على حافة قبر ، ألهث لهاثاً متقطعاً . عاد صديقي بعد أن قطع مسافة لا هي بالقريبة ولا هي بالبعيدة ، أمسك يدي وشدّني ، إلى القبر المزين بباقة من الورود ، قال لي : " تفضل إنه قبر شوبان " . نظرت إليه ملياً ، كان في رأسي ألف شتيمة ، لكنني فضلت أن أعلكها لأننا في حضرة الموت ، قلت لـه : ألهذا دعوتنا ؟ . قال نعم ، بربك أليست مفاجأة حلوة ... قلت ولكنني لم أزر قبر أبي منذ خمس سنوات ، ضحك ، ضحك كثيراً حتى أقعى بجانب القبر ... وظل يضحك إلى أن خرجنا من مقبرة العظماء .
- قم واغتسل ، ستصحو من سهرة البارحة ، البارحة كانت سهرتنا لطيفة ، أليس كذلك... ؟ - سأشرب القهوة أولا ، فهي ذات تأثير سحري علي ، إنها تجعلني أصحو حالما أنتهي منها . - سآخذك اليوم في رحلة طويلة بعض الشيء، سنزور ... اترُكها ... لك مفاجأة . كنت قد وصلت باريس يوم البارحة ، ويعلم اللـه كيف كان وصولي ، فقد استقبلني موظف المطار ، وهو يسالني بلغة لا أفهم منها إلا بضع كلمات ، يسأل ويعيد السؤال ، والناس خلفي ينتظرون دورهم ، وأنا وهو فقط ، هو يعيد عليّ السؤال ، وأنا أتلجلج ، ولا تسعفني لغة من هذه التي يتكلم بها موظف المطار . في النهاية ... أخرجت ورقة الدعوة ، وكيف أن صديقي سيستقبلني ، وهو هنا في مطار " أورلي " ينتظرني ... عند ذلك ... أشار بكامل كفه ... أن تفضل ، فأسرعت أتفضل من بوابة الخروج وأنا أقول " باريس مربط خيلنا " . متقدماً إلى حيث الجموع محتشدة ، لن أطيل عليكم ... فقد أخذني صديقي إلى منزله ، وكان الغروب بهياً ، يهطل على مساء باريس بالألوان الساحرة ، فيجعلني أشاهد شيئاً أو أشياء لم أرها في حياتي ، هذا ما قلته لنفسي ونحن نتجول في الحي الذي يسكنه صديقي . كاد الفنجان أن يقع من يدي ، وأنا أعصر قهوته في فمي ، أمسكت به كيلا يقع ، ونهضت أسوي نفسي ، طالباً منه أن يفتح النوافذ ، فقال لي بعد أن تغتسل ، فتوجهت إلى الحمام أفعل كما يريد صاحبي . خلال عشر دقائق أو ربع ساعة كنت جاهزاً ، وأخبرت صديقي بذلك ، فأجابني إذاً ننطلق، ومضينا ندوس على الدرج الخشبي المرتفع ، حتى وصلنا إلى الشارع . الشارع كان نظيفاً تماماً ، والمحلات مغلقة ، ما عدا بعض المقاهي ، فالمكتبات والمطاعم والأمكنة التي تبيع الأحذية والزهور والملابس ، كانت مغلقة ، فاليوم عطلة والناس هنا ينامون متأخرين ولا يستيقظون مبكرين ، فهم يقرؤون الصحف في أسرتهم ، كما فهمت من صديقي. أخذنا المترو ، فانطلق بنا لا يلوي على شيء ، كنا صامتين ، صديقي ينظر عبر النافذة وأنا أيضاً أنظر عبر النافذة ، ثم نزلنا في إحدى المحطات وغيرنا المترو إلى مترو آخر فانطلق بنا لا يلوي على شيء هو الآخر ، وكنا صامتين ، فلم يكن في القاطرة غيرنا ، لكن بعد ثلاث محطات صعدت فتاتان وجلستا على طرف يدي اليمنى ، كانت إحداهما ترتدي تنورة قصيرة ، نظرت إليها ، فنبهني صديقي إلى أنني في باريس ، فاعتذرت ، وتابعت النظر عبر النافذة. المحطات التالية كثر فيها البشر ، بدأ الناس يصعدون إلى حافلتنا ، وصرنا حوالي العشرة، حينذاك قال صاحبي " انهض " فنهضت ونزلنا مسرعّيْن . كان الطريق المتجه صوب الأعلى ينثر بصمت شلالاً من الزهور ، والفتيات الصغيرات يعزفن على القلب أنشودة الخلود ، هنا جماعة تصلي ، وهناك جماعة تبتهل ، وفي البعيد جماعة تعزف على الكمان ، وهنا عجوزان تطلبان الرحمة لنفسيهما قبل الموت ، وجميعهم يهفون إلى الروح بأرق الألوان وأزهاها وأجملها ، ونحن ، أو قل وأنا ما زلت أعاني من ألم خلف رأسي ، وصديقي يسير بخطى ، أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها سريعة . كانت مقبرة العظماء تقع على سفح تل أو جبل أو شيء من هذا القبيل ، تظللها الأشجار في الأعلى والورود والأزهار في السفح ، والفتيات الصغيرات بمعزوفاتهن وأناشيدهن يشبهن إحدى قرى نهر الدانوب ، وأنا وصديقي ناقتان تبحثان عن الماء في صحراء جفّ ماؤها وتعذر الحصول عليه ... عند ذاك طلبت من صديقي أن يخفّف السير ، رحمة بي ، ورفقاً بقدميّ اللتين لم تتعودا على مثل هذا السير . قال : " لم يبق إلا القليل " ... فتركته يسير وحيداً واستندت على حافة قبر ، ألهث لهاثاً متقطعاً . عاد صديقي بعد أن قطع مسافة لا هي بالقريبة ولا هي بالبعيدة ، أمسك يدي وشدّني ، إلى القبر المزين بباقة من الورود ، قال لي : " تفضل إنه قبر شوبان " . نظرت إليه ملياً ، كان في رأسي ألف شتيمة ، لكنني فضلت أن أعلكها لأننا في حضرة الموت ، قلت لـه : ألهذا دعوتنا ؟ . قال نعم ، بربك أليست مفاجأة حلوة ... قلت ولكنني لم أزر قبر أبي منذ خمس سنوات ، ضحك ، ضحك كثيراً حتى أقعى بجانب القبر ... وظل يضحك إلى أن خرجنا من مقبرة العظماء .