د. مصطفى الضبع - الورقة العاشرة.. قصة قصيرة

" المصري" هكذا عرفناه، لزمن طويل قبل أن نكتشف أن هذا ليس اسمه الحقيقي، في تواطؤ غير متفق عليه لم ننشغل بمعرفة الاسم قدر انشغالنا بمعرفة سبب الاسم المتداول، ضحك جدي كثيرا ونحن نتحلق حوله في أمسية باردة كاشفا سرا رآه بسيطا: هو أول من سافر مصر للتعليم، حصل على الثانوية العامة وكان طموحه كبيرا للدراسة، التحق بمعهد الخدمة الاجتماعية بالقاهرة، درس عامين قبل أن يعود بشهادة لا يحملها مثله في القرية، التحق بوزارة الشؤون الاجتماعية.
عاش حياته موظفا له مكانته بلدتنا النائمة في حضن الجبل، تستعد أمه لزيارة خاصة إلى سعيدة الحظ التي ستفوز بلقب زوجة المتعلم، كان سعيدا بحياة تمناها، حالما بزواج قريب ، حتى كان اليوم الموعود.
زميلة دراسة كانت قادمة في مهمة عمل في الصعيد، لم تكن تعرف غيره اتصلت به لينتظرها ويسهل لها مأمورية تستغرق أياما قليلة، على المحطة انتظرها مع عدد من زملاء العمل (كانوا تمثيلا أمينا لكل عائلات بلدة لكل عائلة نصيبها من الوظائف الحكومية ) ، من القطار هبطت ، لم تلحظ العيون المتطلعة لامرأة عصرية مثلها تهبط في بلد لا يرى فيها الرجل زوجته قبل الزواج (وأحيانا بعده ) ، الجميع كان يتابع الحدث التاريخي ، هبوط امرأة عصرية كاشفة الوجه والشعر ، وماسوى ذلك لم يكن أحد يهتم بما ترتديه من ملابس ، الذين شهدوا الحدث (المئات من أبناء القرية والقرى المجاورة ) لم يكونوا يتوقعون ما سيحدث بعد لحظات ، كطفل وجد أمه أو قل كمسافر يرى أهله أسرعت إليه ، كان أقصى ما يتوقعه أن تمد يدها لتسلم عليه ، لكنها باغتت الجميع : سلمت وارتمت عليه تطوقه في حضن شبه طويل ، كأنهم لم يتوقعوا لذلك لم يصدقوا ، بعضهم توقف به الزمن ما قبل اقترابها ، وبعضهم (القليل منهم) أدرج المشهد في ذاكرته ، والبقية (حفنة منهم تصلح لترويج كل ما يطفح به الخيال)لعب المشهد بخيالهم فنسجوا حكايات عن علاقة سابقة أثمرت ابنا جاءت تطالب بحقه ، وعن الصعيدي الذي غزا القاهرة بنسائها ، فخلف وراءه أطفالا بلا أب .
لم تكن الأحداث التالية مثار اهتمام إلا لسارد مثلي شغوف باستكمال حكاياته ومنحها قدرا من منطقيتها لتعيش.
عندما اكتشف حبي للقراءة (رآني كثيرا أنزوي تحت شجرة منفردا بكتاب) تمنيت أن يسألني ، وعرفت لاحقا إنه تعمد أن يتركني أقرأ لنفسي وليس لأحد غيري ، لا أتذكر متى جاءني مشجعا وداعيا لزيارته في غرفته المنفصلة عن بيتهم ، غرفة متعددة الأغراض ، مصلى ، مكتبة ، غرفة نوم ، مجلس للضيوف ، عالم مشحون أو قل جزيرة مغايرة الجغرافيا في وسط صحراء (نعم جزيرة في وسط صحراء أقصد التعبير تماما) ، مئات الكتب والمجلدات والمجلات والصحف مرتبة بعناية ، تمنيت أن يتركني هنا ، لكنه طمأنني أنه سيعيرني ما أريد فقط أحافظ على الكتاب وأعيده في موعد محدد ، فإذا تأخرت يسقط حقي في الإعارة .
كان يختار لي الكتب بعناية، ويحدد موعد إعادتها حسب حجمها، كنت حريصا على الالتزام حتى كنت أضطر إذا حل الوقت والكتاب لم ينته، كنت أسهر حتى الصباح لأصل للصفحة الأخيرة.
كانت الكتب متنوعة، وكنت أسافر لكل العالم وأرتحل في الوجود من طاغور إلى تولستوي، ومن ماركس إلى الغزالي، ومن أرسطو إلى المتنبي، ومن أوسكار وايلد إلى توفيق الحكيم، ومن النفري إلى أحمد شوقي .......
كنت سعيدا ، ولم أكن حريصا على شيء قدر حرصي على الاتيان على الكتب جميعها ، كنت خائفا أن يتوقف أو أن يموت أو أن يقرر الهجرة ،أو أن يتزوج ، يتزوج ؟ ، عبرتني الجملة لكنها عادت تضرب رأسي ، لماذا لم يتزوج ؟ أراه قد تجاوز الأربعين ، شعيرات بيضاء تعلن عن نفسها وعما تخفيه .
لم يكن لدي وقت لطرح الأسئلة عليه أو العودة لغيره في أسئلة أعرف اعتمادهم فيها على مرويات شعبية لا منطق لها (الجميع يعتنق حكاية عزوفه عن الزواج بعد واقعة المحطة) .
كنت ألاحظ تقدمه في السن، وعلامات الشيخوخة التي بدت تلح عليه، والشحوب الذي لم يعد يفارقه وعزلته التي بدأت تطول، كلما رأيته نبتت عشرات الأسئلة متشكلة في حزم لا تلين.
أمس كان علي الانتهاء من "هكذا تكلم زرادشت "، كان الليل صامتا حد الخوف، صفحات وانتهي من الكتاب وأنام حالما بكتاب جديد، كنت أقلب الصفحة حين وصلت للصفحة الخامسة والتسعين بعد المائة وقبل أن أقرأ الحروف الكبيرة السوداء الأختام السبعة أو نشيد البداية والنهاية من الألف للياء : سقطت ورقة وضعت بعناية، ترددت قليلا في فتحها، للحظات :
كان العنوان نفسه في أول الورقة وتحته عنوان آخر :
الورقة العاشرة:
كل ماكنت أطلبه أن أجد من يفهم أحلامي الصغيرة ، نعم كنت أطمح للزواج وبناء أسرة وكتابة الرواية التي أحلم بكتابتها ، الرواية التي ملكت علي تفاصيلي ، فقط كنت أنتظر الزواج ، أن يكون لديك قلب يسند حروفك ، وعقل يراك بدستوره الخاص ، فيراك كونا خاصا ، أن تشعر بالحب فقط يملا فراغك ، أن تجدها تلك التي تجل منك مشروعا لحياتها لا محورا للشر في تفكيرها ، لا أنكر أنني عانيت من مشكلات أصدقائي الزوجية ، وحلمت أن أكون مختلفا ، مع امرأة تراني كما أريد لا كما يريد العالم ومفاهيمه الموروثة ، نعم قررت الزواج لتكون لي زوجة أقرأ عليها نصوصا أصحو لأكتبها فأملأ بها فراغ الليل ، وأحاورها في مصير شخصياتي القلقة ، وأن عليها أن تدرك أنني لا أهمل المكيف المتعطل ولكني أيضا لا أستطيع التغافل عن تعطيل الدستور ومعاناة ورثة جيفارا ، و مأساة إبادة الأرمن وقضية ثقب الأوزون ، و العولمة ، وتجارة الأعضاء ، و حرب فيتنام ، وهزيمة يونيو وديكتاتورية كاسترو وحكمة طاغور ومأساة الحلاج .
كنت على يقين كوني أن الله يدخر لي من تحتوي جنوني ورؤيتي للكون، مساكين هؤلاء الذي يريدون من الآخرين أن يرتفعوا معهم لرؤية العالم من أعلى ، ما أغباهم هؤلاء الذين يرون الحياة من نوافذهم الضيقة ، الذين يعيشون حياتهم لحظات متفرقة بين نكد ونكد وبين صراع وصراع وبين جدل وجدل وبين أرق وأرق........
..................................................................................................
جاءت فغيرت تاريخي، وتاريخهم، لم أتوقع فعلها لذا لم أجهز رد الفعل استكانت في صدري لحظات توقفت الحياة وغطس الناس في النوم، كنت في أسانسير يصعد للسماء فيختفي الناس وضجيجهم وصراعاتهم، وانفتحت أمامي الصفحات الأولى من الرواية، تحركت البيوت والقطارات ورصيف المحطة، كل المستحيلات أصبحت طيعة، واسترخى المؤرقون تاركين لي أرقا دائما.
انتهت مهمتها وغادرت لكنها تركت لي خوفا مقيما، رهابا لازمني إلى اليوم ، هذا ما أبحث عنه فهل سأجد من توفره ، الخوف من التجربة مرير ، ماذا لو كان بإمكاننا أن نعرف نتائج قراراتنا المصيرية ؟ لماذا لا نعرف نهاية الطريق ؟ ولماذا لا نفهم ماتضعه الحياة أمامنا من حقائق ؟، لماذا نبدو منساقين وراء مصائرنا العنيدة؟.
في البداية اعتقدت أنني على شفا الحصول على أسئلة تجعلني قادرا على اكتشافه، لكنها الأسئلة ظلت تعذبني.
توقفت عن القراءة، كنت على يقين أن الورقة لم توضع نسيانا، بدت كأنها مكتوبة منذ ساعات، لم أنم قرأت الورقة حتى فقدت القدرة على رؤية الحروف.
في الصباح رحت إليه فلم يكن هناك، ولم يقف أحد على حقيقة غيابه.
ثلاث روايات غير مؤكدة :
- رواية أسرته: دخل الغرفة ولم يخرج.
- رواية مجهولة المصدر: خرج ولم يعد.
- رواية لم ينشغل بها أحد: خرج يبحث عما ضاع منه في أرض بعيدة.
لم تغير الروايات موضع الورقة ولم تغلق الكتاب الذي ظل مفتوحا على الكلمات التي تأنق في نسخها: "أنا العراف الممتلئ بالروح الكاشفة الذاهب صعدا على السلسلة المتعالية بين بحرين ، السائر بين مامضى وما سيأتي كغمامة كثيفة متملصة من جميع الأعماق الخانقة والمعادية لكل متعب ليس له ان يحيا وليس له ان يموت . أنا تلك الغمامة المعدة صدرها المظلم للمعات الأنوار المنقذة ، المتمخضة بالبروق المثبتة الضاحكة مما تثبت ............... أن يشعل يوما مستقبل الزمان" .


• العبارة بين الأقواس من كتاب " نيتشة : هكذا تكلم زرادشت ، ترجمة : فليكس فارس ص 195.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى