فخري صالح - إميل حبيبي.. سيل الحكايات

يمثل عمل أميل. حبيبي(1) تيارا أساسيا في الرواية العربية المعاصرة, نوعا من تهجين الشكل الروائي الأوروبي بعناصر سردية, وغير سردية, مجتلبة من التراث العربي و الحكايات الشعبية وأشكال السرد الشفوي، وسيلته للخروج من قبضة الشكل السردي الخطي الذي استطاع نجيب محفوظ في ثلاثيته, وعدد آخر من رواياته التي تنتمي الى الخمسينات أن يعتصره ويقيم منه عمارته الروائية. لكن إميل حبيبي،على قلة ما أنتج من أعمال روائية, استطاع منذ كتب عمله شبه الروائي الأول «سداسية الأيام الستة ” أن يقيم بناء عمله الروائي عل مواد متنوعة متغايرة وان يشكل عادته السردية في دوائر متقاطعة: حكاية تجر الى حكاية بحيث ينسى القاريء الحكاية الأولى إذ ينجرف مع سيل الحكايات التي تذكر بأسلوب الف ليلة وليلة في الافضاء بقارئها الى سلسلة الحكايات التي تؤدي الواحدة منها الى الأخرى. والمتابع لأعمال إميل حبيبي عل مدار الأعوام العشرين الماضية سيجد أن الكاتب الفلسطيني الكبير لم يتخل في أي عمل من أعماله عن أسلوبه الذي بلغ ذروته في “المتشائل” والذي استطاع من خلاله شق طريق جديدة للرواية العربية.

وقد تمثل هذا الاسلوب في إدخال مواد غريبة على السرد الروائي التقليدي وجعلها عناصر أساسية في تشكيل نصه الروائي اضافة الى تخليه بصورة نهائية عن عنصر الحكاية التي تتنامى عبر السرد لتبلغ نهاية مرسومة محددة. بل إنه على النقيض من ذلك عمل, على مدار تجربته الروائية, على التخلي عن الحكاية وعناصر الحبكة التقليدية متيحا فضاء السرد لأكبر قدر من التعليقات الجانبية والحكايات الصغيرة والتفصيلات الثانوية والتأملات والنجوى الداخلية بحيث أصبحت رواياته قريبة من التيار الروائي الذي يدعي الآن في أدب ما بعد – الحداثة بالميتا – رواية, أو الرواية التي تتأمل ذاتها، لكن عمل إميل حبيبي يقيم في الوقت نفسا وشائج وصلات قربى مع النثر العربي القديم وكتب السير والتاريخ والف ليلة وليلة والمقامات, بحيث تكثر في نصوصا الأشعار المقتبسة والحكايات والمواد التاريخية والطرائف والأمثال في نوع من المحاكاة الساخرة التي تكشف عن المعنى الضمني الثاوي في الحكاية الأصلية التي يفتتح بها نصا الروائي. انه يعمل من خلال توسيع دائرة الحكاية وايراد تعليقاته عليها واغراقها بفيض من الحكايات الموازية والاقتباسات الشعرية والنثرية, على توجيه القاريء الى أصل الحكاية, الى معنى التراجيديا الفلسطينية وصراع البقاء الذي خاضته الأقلية الفلسطينية التي بقيت متشبثة بالأرض والوطن بعد كارثة 1948. ويوفر شكل نصه الروائي المبعثر المشتت, الذي يفتقد مركزا وبؤرة محددين, متسعا لسرد حكايات كثيرة معظمها مأخوذة من التجربة الحياتية للكاتب كما نتبين في عمله الروائي الأخير “سرايا بنت الغول “, وتعيد هذه الحكايات التي يتناسل بعضها من بعض, تأويل الحكاية الفلسطينية مرة بعد بعد مرة في نوع من السرد العنقودي الذي يتراكب بعضه فوق بعض طبقات في ” سداسية بداية الأيام السته”(2) يحكى الراوي ست حكايات تدور جميعها حول عودة الفلسطيني الى بعض من أهله من خلال واقعة الهزيمة عام 1967. انها عودة معكوسة تبدو فيها الهزيمة مفارقة ساخرة وتعليقا مواربا على التراجيكوميديا الفلسطينية. وتمثل حكاية الطفل مسعود، الذي كان والده من العرب الباقين وأعمامه من العرب المشردين, الحكاية _ المفتاح التي تكشف عن عمق هذه المفارقة الساخرة. ان الطفل الذي يظن, هو وابناء حارته, انه مقطوع من شجرة لا أعمام ولا أخوال يكتشف بعد الهزيمة أن له أعماما وأبناء أعمام, فيتيه على أقرانه بعمه وأبناء عمه الذين كتشف وجودهم بعد أن احتلت اسرائيل الضفة الغربية. لقد ´ضق هذا الاكتشاف عل حياته معنى جديدا ولكنه وضعه في لوقت نفسا في مأزق لن يجد له حلا؟ إذ أنه يؤمن بتأثير الأفكار لسياسية التي تحملها أخته, بضرورة انسجاب اسرائيل من لأراضي العربية التي احتلتها ولكن ذلك سيعيده الى حالته الأولى: مقطوعا من شجرة لا عم ولا ابن عم.

ينسج إميل حبيبي على بؤرة هذه الحكاية, التي تبدأ بأغنية فيروزية (لماذا نحن يا أبتي/ لماذا نحن أغراب / أليس لنا بهذا لكون / أصحاب وأحباب ), خمس حكايات أخرى عن العودة لمقلوبة لشطري الشعب الذي وحده الاحتلال: حكاية العائد الى.كرى حبه الأول ولكنه في غمرة جيشان عواطفه ينسى أنه المحب لعاشق المقصود بالحكاية ؟ وحكاية «أم الروبابيكا”التي عاشت على ذكريات الراحلين من أهل فلسطين تشتري أثاثهم لكي تتوحد مع ذكرياتهم: وحكاية البنت من الناصرة التي أحبت فتى مقدسيا انتظرته حتى يخرج من السجن: وحكاية «جبينة » التي عادت الى امها العجوز شبه المقعدة: وحكاية الصبية المقدسية التي تشاطرت السجن مع صبية حيفاوية.

في هذه الحكايات الست يضيء مشهد اللقاء لقاء شطري الشعب الذي مزقته النكبة وشردته في أقاصي الأرض, المعنى الضمني الذي يقيم في قلب هذه الحكايات ويكشف عن المفارقة الساخرة والفرحة الأسيانة للقاء شطري الشعب الممزق تحت حراب المحتل. ويبدو لي أن مشهد اللقاء هو الذي يوحد هذه القصص الست ويقربها كثيرا من النوع الروائي. انها تنويع على المعنى الضمني نفسا، ست حركات تنقل لنا أزمة الوجود الفلسطيني بعد هزيمة د،حزيران ه من خلال استعراض مشهد اللقاء المؤثر في سياق يكاد يعصف بالقلب والمشاعر وفي هذا السياق تتوحد الحكايات الست, التي تؤلف “سداسية الأيام الستة”، في قالب شبا روائي يكون فيه الراوي هو الخيط الناظم للفضاء الذي يظلل الحكايات والشخوص التي تسكنها.

لكن اذا كانت ” السداسية ” عملا يراوح بين «المجموعة القصصية »، و «النص الروائي » فإن النص التالي لحبيبي “الوقائع الغريبة فى ختفاء سعيد أبي النحس المتشائل “(3) يدشن عمارة جديدة في الرواية العربية المعاصرة ويفتح أفقا لتجديد حياة هذه الرواية ويوسع لها مسالك جديدة لم تسلكها من قبل. إن “المتشائل ” هي من بين الأعمال الروائية العربية التي استطاعت أن تفلت من أسر الشكل الروائي التقليدي الذي يعيد محاكاة العالم الواقعي بشخوصه ومجريات أحداثه من خلال حبكة نعرف مقدما هدايتها ونهايتها. وقد عمل حبيبي في نصه الروائي الشهير على التخلص من أسلوب المحاكاة ملتجئا الى أسلوب تمثيل العالم من خلال شخصيات غير مكتملة, بل إنها تبدو تخطيطات لشخصيات تغبر من خلال عدم اكتمالها عن الواقع الكابوسي الذي تروي عنه. إن “سعيد أبا النحس المتشائل” يمثل في الرواية الشخصية التي تتصفى عبرها الأحداث الكابوسية والمصير التراجيدي لشعب انشطر نصفين: شطر داخل الوطن وشطر خارجه, والمتشائل الذي يمزج في نظرته الى الحياة بين التشاؤم والتفاؤل ويغلب نظرة التفاؤل غير المبني على أسس واقعية على التشاؤم, شخصية مركبة كاشفة يميط المؤلف من خلالها. اللثام عن تجربة شعب.أنه يعمل على تكوين شبكة سردية معقدة تدور حول شخصية سعيد أبي النحس التي يبدو ظاهرها غير باطنها، ولكن المفارقات اللفظية والموقفية تكشف عن طبيعة ولاشها، وتكشف في الوقت نفسا عن كوميديا سوداء يعيشها شعب مشرد على أرضه وقد استعار حبيبي لبناء هذا العمل الروائي المركب, أساليب فن المقامة وفن الخبر واقتباس الأشعار والطرائف والأمثال وقام بصهرها في البنية السر دية للعسل. ونحن نلحظ بسبب هذه الوفرة من الأساليب وأشكال الحكي, كيف تتناسل الحكايات وتتوالد وتتفرع في نص إميل حبيبي، وكيف أن العناوين الفرعية التي وضعها لمؤلف للفصول الروائية القصيرة التي يفضي الواحد منها الى لآخر، تساعد على تكثيف أبعاد النص الدلالية وتعميق هذه الأبعاد واضفاء بنية مقطعية على «المتشائل ». ومن الواضح أن البنية المقطعية, التي تذكر بشكل القصيدة, تعطي لـ«المتشائل » شكلا فريدا تستقل فيه المقاطع عن بعضها البعض في الوقت الذي تتسلسل فيه الحكايات وتترابط من خلال شخصية المتشائل العجائبية غريبة الأطوار. لقد تولد هذا الشكل من أشكال الكتابة الروائية من لعبة التهجين التي ذهب بها إميل حبيبي شوطا بعيدا بحيث أصبح العمل الروائي معرضا للاساليب والأشكال, وتكسرت البنية الخطية وصار عل القاريء أن يولد المعنى بإعادة ترتيب المشهد الروائي واستنباط الدلالة من جملة المفارقات التي يحتشد بها فضاء العمل. وفي الحقيقة أن الغنى الدلالي الذي يتمتع به عمل مثل “المتشائل” ناشىء أيضا عن العلاقة الملتبسة بين الراوي الذي ائتمنه سعيد أبو النحس على سره وسعيد أبي النحس المتشائل. ثمة راويان اثنان في هذه الرواية هما سعيد والراوي الذي نحس في النص انه شديد القرب من الكاتب.وفي العلاقة الملتبسة التي تقوم بينهما تتولد المفارقة والمحاكاة الساخرة والتورية وجميع الصور البلاغية التي تكشف عن الحقيقة الروائية لشخصية المتشائل, المنقسمة على ذاتها ظاهرا، والساخطة الناقدة الساخرة الكاشفة عن الواقع المأساوي الذي لا يميط اللثام عنه إلا هذا الشكل من أشكال الكوميديا السوداء التي تتخذها الرواية أسلوبا تعبيريا لها.

إن إميل حبيبي في “المتشائل” يبتعد ما أمكنه ذلك عن بناء شخصية دائرية, كتلك التي شرح خصائصها الروائي الانجليزي الشهير أي. ام. فورستر في كتابه “أبعاد الرواية” وهو أمر يجعل شخصية “سعيد أبي النحس ” شخصية اشكالية معقدة ذات مظهر يخالف مخبرها وعالم داخلي يكشف عن كابوسية عيش الفلسطيني على أرضه بعد قيام دولة اسرائيل. ان شخصية “المتشائل ” وأفعالها, وما يرد على لسانها من اقتباسات وتلاعب بالألفاظ وتحويرات للموا قف والاخبار وتأويلات فقه. لغوية, تمثل وصفا مواربا لاحساس الفلسطيني بغربته داخل وطنه, ولعل محاولة التعبير عن العالم شديد الغرابة الذي وجد الفلسطيني نفسا فيه بعد قيام اسرائيل قد قادت إميل حبيبي الى اصطناع عالم عجائبي يشبه بصورة من الصور عالم فولتير في «كانديد» وعالم الكاتب التشيكي الشهير ياروسلاف هاشيك في «الجندي شفاييك », لكن الأكثر أهمية في هذه التجربة هو أن حبيبي قد اهتدى الى المزج بين الشكل الروائي الأوروبي وأساليب سردية متعددة, تستعين برواية الأشعار واصطناع المفارقات في المواقف والالفاظ واللعب بالكلمات, للخروج بشكل هجين يفني تجربة الشكل في الرواية.العربية. وبما أن الرواية شكل هجين بطبيعته, كما يرى ميخائيل باختين, فإن حبيبي يهتدي الى الخصيصة النوعية المميزة للنوع الروائي ويقوم بالاستفادة من معرفته الواسعة بالتراث العربي، بتطعيم شكل الرواية العربية في بداية السبعينات بما ينتهك هذا الشكل ويعيد ترتيب عناصره, وقد تنبه النقد العربي خلال هذه الفترة الى الأهمية الطليعية لهذه الرواية المدهشة فعدها تدشينا لافق جديد تتجه نحوه الرواية العربية.

فى العمل التالي” لكع بن لكع ” (4) نصادف الحكاية نفسها لكن في إطار جديد، حكاية الفلسطيني بشقيه المقيم والمشرد عن أرضه. لكننا في هذا النص نعثر على معالجة شبه مسرحية للحكاية التي يسميها المؤلف “حكاية مسرحية ” يتم فيها الجلوس “ثلاث جلسات أمام صندوق العجب “. وليس في النص بالطبع أي حكاية بالمعنى التقليدي للطمة سوى ما ترويه “بدور» وهي شخصية مركزية في هذا النص, عن ضياع ابنها ” بدر”, ولذلك فإن نعت هذا النص بانه “حكاية مسرحية ” ليس الا من قبيل إعطاء انطباع بالمزج بين النوعين الروائي والمسرحي، وبمسرحة التجربة واعادة النظر فيها من خلال الحوار والنقاش والتعليقات الجانبية التي تدلي بها الشخصيات في «لكع بن لكع”. وكما في «المتشائل ” يقيم حبيبي عمله على الاقتباس ورواية الأشعار ووضع العناوين الكاشفة لشفرات النص واللعب بالكلمات وتوليد الصور البلاغية من تورية وجناس وطباق ومفارقات لفظية وموقفية ومحاكاة ساخرة. ان عنوان النص نفسه مأخوذ من حديث شريف يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم “لا تقوم الساعة حتى يلي أمور الناس لكع بن لكع ” في إشارة دالة الى الواقع الذي تدير “الحكاية المسرحية” حديثها عنه وحوله. ولكن النص, رغم الاتكاء الواضح على الحديث الشريف, لا يستطيع أن يقنع قارئه بالعلاقة العضوية بين معناه الضمني وعنوانه. ثمة إشارات الى الواقع العربي ومسرحة للعلاقة بين الحكام والمحكومين لكن البؤرة الفعلية للنص تقوم على اعادة التمثيل الجزئية لمذبحة كفر قاسم, وهو مشهد يشع بالدلالات وينقذ هذا النص من تفككه ودورانه حول نفسه وعدم وجود فكرة محورية كحم أجزاءه. ثم نقاش حر يدور بين المهرج والشخصيات الأخرى واسترسال في وصف ردود أفعال الشخصيات بأسلوب قريب من التعليقات المسرحية, وتعليقات من الشخصيات تقطع السياق وتشتت الانتباه لكن النص لا يشع دلاليا ولا يستطيع أن يوصل رسالته الى القاريء كما فعل حبيبي في عمله الروائي المميز “المتشائل” رغم بنيته النصية المشتتة التي لا تشتمل عل مركز تتجمع فيه الاشعاعات الدلالية, والفارق بين «المتشائل » و «لكع بن لكع » ان النص الأول ينجح من خلال مغامرة الشكل التي يجترحها، بتكثيف الدلالة وخلق بؤرة للنص تفيض بالدلالة وتفني الشيمة المحورية التي يدور حولها النص الروائي. أما «لكع بن لكع” فتفرق في التعليقات الهامشية والمراثي الغامضة التي تتكرر على مدار النص دون أن يشعر القاريء بأن ثمة تعميقا لدلالات النص قد تحقق.

“أخطية” (5) هي نموذج الرواية التي تبدأ من حدث صغير ثم تتشعب في جميع الاتجاهات. انها رواية داخل رواية داخل رواية. واذا كنا نصادف الكثير من الروايات, حتى تلك التي تعتمد السرد الخطي وتشتمل على العناصر السر دية التقليدية والتي تتشعب فيها الروايات في اتجاهات عديدة, فإن رواية “أخطية “، وروايات إميل حبيبي جميعها, تتميز بتوليدها سلسلة من الحكايات الصغيرة التي يصعب علينا السيطرة على تشعبها الدلالي وانفتاحها على بعضها بعضا وتراكبها طبقات فوق طبقات وكما رأينا في «المتشائل » فان الراوي يسلمنا من حكاية الى حكاية في نوع من توسيع الشبكة السر دية وتوضيح قسمات الشخوص أو المعاني بتكثير الحكايات وتوليد الكلام وتشقيقه بعضه من بعض.

تقوم «أخطية ” على حدث صغير يتمثل في أزمة مرورية بسبب سهو السائقين الواقفين قريبا من ألا شارة الضوئية في أحد الشوارع الى مدينة حيفا في الثمانينات, والرواية هي محاولة لمعرفة سبب حدوث هذه الأزمة المرورية التي تسميها بـ “الجلطة” لكن الراوي يسترسل في حكاياته وتأملاته وخيالاته ليصل بالقاريء أخيرا الى «أخطية الكسيحة الخرساء» التي سقطت على صخرة بحرية وعاد الراوي ليبحث عنها بعد مرور حوالي أر بعين عاما بعد أن غابت وغيبها الزمان. ومن الواضح أن الكاتب يغزل خيوط عمله الروائي ليدفع قارئه الى وجهة دلالية محددة يتعانق فيها «أخطية – الفتاة المحلوم بها – الانسانة التي من لحم ودم » مع «أخطية – الرمز” أي فلسطين الضائعة قبل أربعين عاما. ان حبيبي يعيد في رواياته على الدوام تمثيل الشيمة المركزية في أعماله, وذلك عبر تقليب ذلك الجزء من التجربة الفلسطينية الداخلية – تجربة الفلسطينيين الباقين على أرضهم والذين رفضوا ان ” يتفرقوا أيدي سبأ”، بحسب المتشائل, ومن خلال إعادة النظر مرة بعد مرة في عقابيل الخروج الفلسطيني وما جره على الخارجين والباقين من ويلات وتقطع أواصر وحنين جارف. فلقد بقيت أخطية, التي تمكر عذاب الضمير وعقدة الذنب «وذهب الذين أحبهم » (ص 93) كما يقول الراوي.

تبدو رواية “أخطية” أقل تعقيدا وتشابكا دلاليا من «المتشائل», ولكنها تنبني مع ذلك من سلسلة من الاستشهادات والاقتباسات والحكايات المتراكبة صكها مثل سابقاتها من أعمال حبيبي, وهي تتألف من ثلاثة دفاتر: الدفتر الأول بعنوان «شخوص ” والثاني بعنوان «أخطية» والثالث بعنوان ” وادي عبقر»، وكل دفتر من هذه الدفاتر يتألف من فصول قصيرة تشتمل على حكايات تتوالد من بعضها البعض لتنتهي في الصفحات الأخيرة من النص الى انقشاع الوهم الذي تولد عما يسميا الراوي «نسيان الرحمة» الذي أنساه «أخطية ” ومن تكون وجعله يظن ساعة حدوث “الجلطة» انها يمكن أن تعود بعدا أر بعين عاما شابة صغيرة تجري حافية في الشارع ممزقة الثياب وهي تحمل بين يديها ابنتها الصغيرة التي ولدت «سفاحا». وليست الحكايات التي يوردها الراوي عن “عباس – عبدالكريم الذي عاد من أمريكا باحثا عن سره – حبه الدفين في قلبه وفي أعلى السور” وعن «عبدالكريم الرجل غريب الأطوار الذي يظهر في شارع معين ثابت من شوارع حيفا في ساعة محددة مضبوطة لا تتقدم ولا تتأخر كل يوم » ثم يعود الى بيته ليقفل على نفسه الباب منقطعا عن البشر أجمعين وكأن الزمان لم يتحرك ولم تحدث نكبة ولا نكسة, ليست هذه الحكايات سوى تعمق لدلالة النكبة وأثرها عل من بقي ومن هاجر.

ان شخصيات إميل حبيبي في رواياته جميعا، هي امثولات تمتلك معاني سطحية وعميقة وتشير الى نفسها في الوقت الذي تؤثر فيه الى خارج ذاتها صانعة بذلك شبكة رمزية – دلالية هي المقصودة من ايراد الامثلة والحكايات الرمزية والاشعار المقتبسة والحكم والتأويلات فقه – اللغوية لأسماء الأماكن وأسماء الأشخاص والفواكه والخضراوات والمأكولات التي يكثر ذكرها في عمل حبيبي الروائي. ولقد أشرت من قبل الى هامشية الحكاية الأولى التي يفتتح بها إميل حبيبي رواياته وكون هذه الحكاية مجرد ذريعة لقص حكايات أخرى وايراد نتف من الحكايات والأشعار والأمثال والنكات اللغوية المقتبسة. ان روايات حبيبي تصبح من ثم معرضا للمعا رف العلمية واللغوية وفقه – اللغوية وعلم اللغات المقارن مما يقيم بين هذا العمل والنثر اخربي القديم, نثر الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وابن الأثير وابن المقنع, الكثير من المشابهة والوشائج. ومن هذه المعارف المتراكبة المتواشجة يصنع الكاتب عمله الروائي «أخطية » الذي يتابع تجربته في «المتشائل» ويقدم تنويعا على الشكل الروائي الذي ابتدعه من تهجين السرد الروائي الأوروبي بأشكال السرد القديم التراثية. وما يفرق “أخطية” عن «المتشائل» هو الا يغال في الاسترسال والدخول من حكاية الى حكاية بحيث تندر الرواية بحثا تاريخيا في أصول الكلمات والألفاظ وتعدد دلالاتها بمرور الأيام والحقب.

اما فى عمله الأخير «سرايا بنت الغول» (6) فان حبيبي يستخدم أساليب سردية مستعارة من «ألف ليلة وليلة» (الحكاية داخل الحكاية ) والأشعار المقتبسة ومزج المادة التاريخية الواقعية بأحداث الرواية واستخدام الهوامش التي تضيء الخلفيات المكانية والزمانية للحكايات واللعب اللغوي والرسوم, وظهور شخصية المؤلف بأفعاله وتاريخه الواقعي في ثنايا السرد.

يضع الكاتب لهذا العمل عنوانا جانبيا هو «خرافية» وهي الحكاية الشعبية الشفوية التي ترويها العجائز الفلسطينيات في العادة وتكثر فيها الاستطرادات وتؤدي فيها الحكاية الى حكايات غيرها (7). ويكشف هذا الوصف الاصطلاحي النوعي عن الطبيعة الفعلية لانجاز إميل حبيبي الروائي إذ أن أعماله الروائية جميعا ذات بنية استطرادية تتعالق فيها مواد الحكايات والتعليقات والاقتباسات وتتوالد من بعضها بعضا كما تولد اللفظة من اختها في القصيدة الشعرية, وليست «سرايا بنت الغول ” سوى التطوير الأخير لهذا الشكل الروائي المهجن الذي ابتدعه إميل حبيبي منذ نشر «المتشائل» في بداية السبعينات. وهي تتكون من فصول أربعة تنقسم الى فصول أصفر مرقمة حيث يغير الكاتب طريقة عنونة الفصول الكبيرة والفصول المتفرعة عنها مكتفيا بالرقم على عكس ما فعله في رواياته وأعماله القصصية السابقة. ولكنه يحتفظ من مادة العنونة بالاقتباسات التي تفيء معاني الفصول وتوسع شبكة النص الدلالية: ولذلك فهو يصدر الفصول الاربعة باقتباس من الانجيل, أو فقرة من كتاب لالبرت آينشتاين. أو كلام لاخناتون أو آية قرانية. وهو كعادته في رواياته السابقة يبدأ الحكاية من أرض لا يشعر القاريء أنها ممهدة لإثمار قصة مسلية. ثمة تأمل جواني يعيد سرده على مسامعنا راو وسيط, بين الشخصية التي يروي عنها والقاريء, مما يبدد أية شبهة برغبة الكاتب في تسجيل سيرته الذاتية. ولسوف نتبين على مدار النص ان مادة السيرة الذاتية تذوب في سياق الحكايات الفرعية وتمحي منها ظلال اليقين التي عادة ما تخيم على أجواء السيرة الذاتية. ان,”سرايا بنت الغول ” تتضمن في ينيتها عناصر السيرة الذاتية لاميل حبيبي، كما أن فيها كشفا عن العناصر التي شكلت البنى الروائية لأعماله السابقة. ونستطيع أن نتيقن من ذلك عبر مقارنة الاشارات الواردة في “سرايا..” والمتعلقة بالروايات أو الشخصيات الرئيسية فيها بالروايات نفسها, أو بقراءة الهوامش التي تكثر في هذه الرواية لشرح الأعلام أو الحكايات أو الأساطير الواردة في المتن. وتساعد الهوامش المذكورة على اضفاء غموض ساحر على النص وعلى جعل القاريء يحار في الحاق هذا العمل بأي نوع: فهل هو سيرة كما يحلو للكاتب أن يردد بين حين وآخر ؟ هل هو بحث في معاني الأسماء الاسطورية وأسماء الأشياء والموجودات ومعاني الكلمات ودلالاتها التاريخية البعيدة ؟ هل هو رواية؟ ان جميع هذه الأسئلة المحيرة تجد جوابها في شكل الرواية التي يكتبها إميل حبيبي مازجا فيها عناصر متغايرة ومواد غريبة على النوع الروائي ليطلع في النهاية بعمل هو أدخل في باب النوع الروائي بسبب إدراكه للميزة الفعلية للنوع الروائي القائم على التهجين واستعارة مواد الأنواع والأشكال الأدبية الأخرى وغير الأدبية وتخليصها من هجنتها لتصبح عنصرا مكونا من عناصر العالم الروائي الخاص بالكاتب. و” سرايا بنت الغول”، التي تدور حول البحث عن معنى لتجربة الذات والصلة التي قد تنقطع أو لا تنقطع بالوطن وتأمل السياق السياسي _ الاجتماعي للتجربة, هي تلخيص لأشواق إميل حبيبي في إعادة قص الحكاية المركزية في عمله الروائي: حكاية الباقين على أرضهم من أهل فلسطين وصلاتهم بالمشردين غير المقيمين على أرضهم, وهي أيضا تلخيص لكشوفات الروائي الشكلية ولعبه بعناصر عالمه الروائي وتوليفه الحكايات واستعادته لهذه الحكايات في نص متشابك كثير الفروع والأغصان بحيث يصعب الدخول الى عالمه دون التوفر على ذخيرة معرفية بالسرد وعناصره.

ومن هنا يمكن القول, استنادا الى الاشارات السابقة الى مجمل عمل إميل حبيبي الروائي والقصصي ان روايته تشتمل على تعددية صوتية فعلية وذلك عبر ادخال حبكات موازية للحبكة الرئيسية في العمل الروائي ومن خلال استخدام الاقتباسات والتعليق على المشهد والمحاكاة الساخرة للاحداث و الشخصيات. ولا أظن أن هناك روائيا فلسطينيا آخر، وربما عربيا، نجح في استخدام أسلوب التهجين, ومحاولة الخروج من قبضة الشكل الروائي المستعار من الغرب, كما فعل إميل حبيبي. ان تجربته الروائية, التي كتب عنها الكثير، مازالت بحاجة الى إعادة نظر فيما يتعلق بالتطويرات الشكلية التي أدخلتها الى الرواية العربية, وقيما يتعلق بالتوازيات التي أقامتها بين شخصياتها وشخصيات روائية أخرى في الرواية العالمية, وقيما استفادته من أشكال السرد العربية التراثية, وما أحدثه ذلك التهجين العجيب من أثر على الشكل الروائي.

هوامش:

1- ولد أميل حبيبي عام 1921 في مدينة حيفا، وان كان أهله من قرية شفا عمرو الجليلية ولكنهم رحلوا في العقد الثاني من هذا القرن الى مدينة حيفا واستقروا هناك قبل أن يشرد قسم كبير من العاملة خارج فلسطين بعد نكبة 1948. انضم الى الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1940 وأصبح فيما بعد رئيسا لتحرير صحيفة «الاتحاد» الناطقة باسم الحزب وبعد سقوط مدينتي “الناصرة ” و” حيفا” عام 1948 انضم حبيبي الى الحزب الشيوعي الاسرائيلي (راكاح ) ومثل الحزب في الكنيسة الاسرائيلي طوال تسعة عشر عاما. أصدر مجموعته القصصية الأولى «سداسية الأيام الستة » عام 1968، وأصدر عام 1974 رواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشامل ». عام 1980 ظهرت حكايته المسرحية «لكن بن لكن ». كما ظهرت روا يته القصيرة «أخطية ” عام 1985. آخر ما نشره إميل حبيبي كان رواية «سرايا بنت الغول » (1992).

توفي أميل حبيبي في الثاني من شهر ايار 1996.

2- للاطلاع على هذا العمل انظر «سداسية الأيام الستة, الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل,… وقصص أخرى” منظمة التحرير الفلسطينية – دائرة الاعلام والثقافة بيروت, أب 1980.

3- للاطلاع على العمل انظر: المصدر السابق.

4- لكع بن لكع: ثلاث جلسات أمام صندوق العجب, منظمة التحرير الفلسطينية – دائرة الاعلام والثقافة ودار الفارابي بيروت 1980.

5- اخطية, كتاب الكرمل 1, نيقوسيا 1985.

6- سرايا بنت الغول, رياض الريس لكتب والنشر, لندن 1992.

7- يقول الكاتب في المقدمة التي وضعها لروايته, وسماها خطبة تيمنا بالمؤلفين العرب القدماء «انني كعادتي في رواياتي السابقة, لا أخطط لتداعيات الرواية قبل الشروع في كتابتها بل أرخي العنان للاسترسال الباطني حتى التسيب أحيانا. ولم أهتد الى حقيقة ” سرايا” هذه إلا في الصفحات الاخيرة. فذهلت كما ذهل شاعر معروف أقر أته المخطوطة من الحقيقة التي تكشفت أمامي. ولكنني لم أسمح لنفسي باخفائها مع أنها جاءت مناقضة للنهج الذي اخترته لحياتي من حيث اعتقادي انه من الممكن ومن المفيد «حمل بطيختين بيد واحدة»: الانشغال بالسياسة والانشغال بالأدب !

ولما كنت “مؤمنا” و”المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ” فقد أخرجت “سرايا بنت الغول ” من جنس الرواية الطويلة منذ البداية, فما هي اذن ؟ سميتها “خرافية ” فقد وجدتنا – نحن العرب الفلسطينيين, متخصصين وغير متخصصين نستعمل هذا التعبير – «خرافية » ـ لكل فعل مدهش. فاذا كان جرى تفسيره فذلك لاختصار التكرار في التفسير واذا لم يجر تفسيره فذلك للانتقال الى تداعياته دون الحاجة الى تقديم تفسيره.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى