( الفصل السادس من رواية قصة الخلق)
مر على رحيل أبي منتحرا في البحر الميت قرابة عام ونصف . قلت لمحمود " حبيبي اشتقت لأبي" محمود لا يرفض لي طلبا . وافق وهو يدرك تماما أن أبي لم يكن أبا فحسب ، بل أب وعشيق ، لكن ربما تخوّف قليلا من أنه لم يكن قادرا على القيام بالدور الذي كان يقوم به أبي، عواطف الأب مختلطة بوله العشق ! فقد أطرق للحظة قبل أن يعلن موافقته . هو في الحقيقة يدرك هذه الحال الشاذة ويحاول كل جهده لأن يكون لي أبا وعشيقا .. أعيش معه منذ أكثر من عام ، لا أفارقه إلا إذا شعرت أنه في حاجة إلى الوحدة والتأمل ليكتب .. أتركه ليوم أو يومين وأحيانا ثلاثة أيام ، أي إلى أن يهاتفني قائلا " حبيبتي اشتقت لك " في هذه الأيام الصعبة التي ازدادت فيها التهديدات بقتله ، قررت أن لا أتركه وحيدا ، إلا إذا أصر هو. وهولم يصركثيرا حتى اليوم ، غير أنه طلب إلي أن أنام وحدي ، وليس إلى جانبه ، فهو يقرأ في السرير، ويفكر في السرير ، ويكتب أحيانا في السرير كما كان يفعل قبل الكتابة على الكومبيوتر، ويتقلب كثيرا في السرير بحيث لا يمكن لأحد أن يخلد إلى الراحة والسكون إذا ما نام إلى جانبه ، عدا أنه لا يخلد إلى النوم بسهولة . أصعب شيء يواجهه في السرير هو أن يجلب النوم إلى عينيه ! وخاصة بعد أن توقف عن تناول الحبوب المنومة . أضحك عليه حين يخبرني أنه يشرع في العد عكسيا من المائة في عقله ، وحين يبلغ الرقم واحد دون أن يداعب النعاس جفنيه، يصعد بالعد إلى المائة . التنفس بعمق وممارسة الرياضة في السريريساعدانه على النوم أكثر من العد أحيانا .. محاولاته في النوم المغناطيسي تفشل دائما ، غيرأن الإسترخاء وتسليط النظرلدقائق على نقطة معينة في الحائط المواجه للسرير، يساعدانه على جلب النعاس أحيانا أيضا .. كذلك تخيل النوم في حقل وردي إلى جانب شلال، غير أن هذا التخيل إن لم يكن مركزا تقتحمه هواجس وأفكار وذكريات مختلفة لتشتته. نادرا ما ننام معا، كما في ليلة الرأس المقطوع، ولم يكن الأمر جديدا علي، فأبي نادرا ما نام معي طوال الليل في السرير.
كما كانت علاقتي بأبي وحتى بمحمود علاقة شاذة، ولومن وجهة نظر المجتمع فقط ، كان قبر أبي أيضا . فهو قبر يختلف عن القبور كلها، فهو ليس قبرا بين قبور، يضم تابوتا يحتوي على جثة ، بل سيارة مرسيدس حديثة تنطبق على جثته ، ونظراً لأنه تعذر إخراج السيارة من عمق يقارب أربمائة متر. فقد ارتأينا أن يبقى ضريحه في أعماق البحر، وسط ملوحة تزيد خمس مرات على ملوحة البحار العادية، وعشرات الأنواع من المعادن . واكتفينا أنا ومحمود وأخي بوضع شاهدة على أعلى الجرف المطل على الموقع ، تشير إلى الضريح وصاحبه في أعماق البحر.
الحال تكاد تكون ذاتها مع البحر نفسه . فهو بحر شاذ عن البحور كلها لعدم وجود حياة فيه لملوحة مياهه . إضافة إلى أنه يعتبر أخفض نقطة على الكرة الأرضية لانخفاضه قرابة أربعمائة مترعن سطح البحر. يتغذى من نهر الأردن شمالا ومن سيل ماعين شرقا ونهر وادي الموجب جنوبا ، إضافة إلى عشرات الينابيع الصغيرة إلى جانبية ، كنبعي عين جدي والفشخة غربا . غير أن هذه الينابيع والأنهارلا تكفي ليبقى دون نقص في مياهه .. فمياهه تنحسر باستمرار نتيجة التبخر العالي منه لشدة الحرارة في المنطقة ، ولشفط الكثير من مياه نهر الأردن من قبل اسرائيل، وثمة محاولات لربطه بمياه أحد البحرين : المتوسط والأحمر.
عدا ذلك يرتبط البحر الميت بأسطورة بلدتي سدوم وعمورة ، ، اللتين أمطر الله عليهما كبريتا ونارا وحجارة من سجيل، أو جعل عاليهما أسفلهما، كما في بعض روايات الكتب السماوية التي تطرقت جميعها إليهما، لكون رجالهما من اللوطيين الشاذين جنسيا ، فقد حاولوا اغتصاب ملكين كانا في زيارة النبي لوط .. فنزل غضب الله عليهما. ولم ينج غير لوط وابنتيه وزوجته. غيرأن الزوجة لم تكن مقتنعة بالإرادة الإلهية التي أمرتهم بمغادرة المنطقة دون الالتفات إلى الوراء ، أي لما سيحل بالبلدتين من دمار، فالتفتت وراءها لتتأكد مما جرى للبلدتين ، فحولها الله إلى صنم ! أمّا الفتاتان فقد تخوفتا أن ينقرض نسل أبيهما، فأسقتاه خمرا وأسكرتاه ، لتضاجعاه واحدة بعد الأخرى ، لتنجبا منه ابنين جاء منهما نسل العمونيين والمؤابيين !
ومما يقال عن هذه الأسطورة أن البلدتين المذكورتين أو جزء منهما يقع تحت مياه هذا البحر ، الذي من أسمائه المعروفة أيضا ما يرتبط باسم النبي لوط " بحيرة لوط ". وبهذا يكون ضريح أبي إلى جانب أضرحة قوم لوط ، وقد تدخل قصته الأساطير في المستقبل مع أنها ليست أسطورية ، لكن ربما تتدخل الآلهة أو إله القصص السماوية وحده إن كان واحدا، في حياتي أنا ومحمود ، لتحمل قصتنا شيئا يحيلها إلى اسطورة ، فأنا على الأقل أشترك مع ابنتي لوط في مضاجعة أبي وإن لم أسكره ، فقد كان يسكر وحده .
أوقفت سيارتي في آخر الشارع الترابي المنحدر نحو البحر، ونزلنا أنا ومحمود نتلمس طريقنا مرتدين ألبسة رياضية، عبر منحدر يباس تتخلله بعض الحجارة الصغيرة والمتوسطة، والقليل من الصخور المتناثرة . إنها الطريق التي سلكها أبي بسيارته نحو الهاوية ، والتي سبق لنا أنا ومحمود أن سلكناها مرتين ، مرة حين انتحر أبي ، ومرة حين وضعنا الشاهدة كعلامة تشير إلى مكان القبروالمقبور. كنا نصطحب باقة كبيرة من الورد ، أصر محمود على أن يحملها عني لأعرف كيف أجد طريقي ولا أتعثر في هذا المنحدر ، الذي يبدو أنه سيتحول إلى طريق معروف في المستقبل، لكثرة المنحدرين عبره ، ليس لزيارة ضريح أبي، بل للإقتراب من أقرب نقطة إلى البحر للتمتع بمنظره مستلقيا في الأعماق وأمواجه تتكسرعلى صخور الشاطئ. كنا في الزيارة السابقة قد أزحنا بعض الحجارة لنشكل ما يشبه طريقا ، وشرعنا أنا ومحمود في إزاحة ما يمكن إزاحته أو ابعاده، ونحن ننحدروننعطف بين الصخور ، حسبما ما تتطلب طريق الانحدار، التي كانت متعرجة ، وخاصة أسفل المنحدر حيث تنتصب صخور عملاقة تبدو كمنحوتات ، المرور بينها يشبه التجول في متحف طبيعي .
بعد قرابة نصف ساعة من السير المتعرج في المنحدربلغنا أعلى الجرف الذي هوت منه سيارة أبي. قرابة خمسين أو ستين مترا من الصخور تفصلنا عن البحر. توقفنا بصمت وخشوع أمام الشاهدة التي تحمل اسم أبي وتشير إلى قبره في أعماق البحر، ورحنا ننظر إلى النقطة التي يفترض أن يكون جثمان أبي بسيارته قد استقر فيها. قذفت باقة الورد بشكل قوسي بيدي الإثنتين حتى لا ترتطم بالصخور. رددت بعض الكلمات على مسمع من محمود، فيما كانت باقة الورد تسقط في المكان الذي قصدته، لتحملها الأمواج المتكسرة إلى الصخور أسفل الجرف، ولتعيدها المياه المرتدة من الموج إلى البحر " السلام عليك يا أبي الحبيب. السلام على جثمانك، السلام على رفاتك ، السلام على روحك النبيلة . لن أنساك ماحييت يا أبي الحنون ، الكريم ، الذي لم يبخل علي يوما بشيء مهما كان ، كما لم يبخل على أحد احتاج إليه، والذي حرص على أن يتركني ثرية ولا يدعني عرضة للعوز. سامحني يا أبي إن كان في حبي لك ما دفعك إلى الانتحار. فأنت الأب والحبيب الذي وجدت نفسي من ريعان طفولتي أغرق في حبه ، لا تلم نفسك يا أبي إن كنت الدافع إلى ذلك الحب المتمرد، فقد تكون مشيئة القدر هي من أرادت ذلك . اطمئن يا أبي فقد وجدت في محمود ما يعوضني عن غياب حبك عني .. وأنت أيها البحر كن رؤوفا بجثمان أبي ، وأحطه بما وهبك الخالق من قدرات الحفظ والصون . إن استطعت أن تخفف من تأثير الملوحة على جسده فافعل ، ولا تدع المعادن تتكدس على ضريحه بعشوائية ، دع الكلس والصوديوم والبوتاس والمنغنيز والكبريت وغيرها من المعادن تشكل أيقونات وردية حول الضريح ، وسأكون ممتنة لك أيها البحر"
تنفست بعمق بعد الفروغ من هذه الكلمات ، وألقيت رأسي على حضن محمود ودمعات حارة تنزلق على وجنتي.. لم يتفوه محمود بكلمة تعقب على ما قلته في السلام على أبي ، وراح يشدني إليه بكل حنان ويمسد على شعري.
جلسنا أمام الشاهدة قرابة ربع ساعة ، ونحن نرقب تكسر الموج على الصخور جراء رياح غربية خفيفة، دافعا باقة الورود إليها لتعود مع الماء المرتد إلى البحر. وتمنيت لو أن الباقة تعلق بالصخور وتظل واقفة في مكانها حتى لا تقذفها الأمواج بعيدا إذا ما هبت رياح جنوبية أو شمالية . كان الطقس حارا بعض الشيء غير أنه معقول مقارنة بالحر المعتاد في المنطقة . تدحرجت قطرات عرق على جسدينا .. شعرت بالعطش . أخرج محمود عبوة ماء من حقيبة الظهر التي كان يحملها . وقدمها لي.. محمود يحسب حساب كل شيء . وكان يعرف أننا سنعطش.
نهضنا للعودة ، نتلمس طريقا متعرجة عبر صخور عملاقة منتصبة . توقف محمود أمام إحداها . كانت تشبه نصبا انسانيا . قال إنها ربما تكون زوجة لوط إذا صحت الأسطورة . ضحكت ، فيما هو ينظر إلى البحر من نقطة أخرى، ليرى كم المساحة التي يمكن رؤيتها من هنا . كان المكان يشرف على منطقة شاسعة من البحر، وراح ينظر في اتجاه الجنوب السفلي متوقعا وجود ممرات يمكن أن توصل إلى الشاطئ دون أن تواجه جروفا يصعب اجتيازها . هتف مازحا :
" ما رأيك أن نسلك هذا الطريق إلى البحر لنتتبع مسيرة لوط وأسرته "
" ممكن في مرة أخرى بعد زيارة ضريح أبي، لعلنا نعثرعلى الكهف الذي ضاجعته فيه ابنتاه ، فأنا أرغب في ذلك ، كما إنني أفضل أن نستأجر قاربا في المرة القادمة لزيارة قبر أبي عن قرب ، وليس للنظر إليه من أعلى الجرف"
" لك ذلك حبيبتي ! "
تابعنا سيرنا صعودا في منعطفات بين الصخور .. سار محمود يمينا في طريق يصعد نحو الجنوب حيث بدت كومة صخور تعلو تلة مرتفعة بضعة أمتار عن مستوى الارض . تابعته بنظراتي دون أن أتبعه . اختفى بين الصخور للحظات وسمعت صوته يناديني " تعالي يبدو أن كهف لوط هنا" لم أصدق . هرعت . كان ثمة كهف بابه متوسط الحجم نسبيا، لكنه كبير وعميق من الداخل ، تعلو جدرانه نتوءات صخرية جميلة شكلها تساقط مياه من جدرانه عبر الأزمان. أخرج محمود مسدسه وحشاه ، مخافة أن يخرج علينا ذئب أو ضبع من وكر ما فيه . كان يمتد لقرابة ثلاثين مترا ، وتتسلل إليه أشعة الشمس من كوة جانبية أعلى جداره الجنوبي . بدا الطقس معتدلا فيه مقارنة بطقس الخارج. لم يخرج علينا من أوكار وجحور كثيرة فيه حيوانات أو أفاع. كانت فرصة لأن نستريح في الظل . جلسنا على صخرة مستطيلة نسبيا فيه . تساءلت:
- هل يمكن أن يكون هذا هو الكهف الذي واقعت فيه ابنتا لوط أباهما؟
- ممكن إذا صحت الأسطورة !
- ألا يمكن أن يكون للأسطورة أصل واقعي؟
- ممكن ، لكن ما هو غير ممكن أن يكون جميع رجال البلدتين لوطيين ، فكيف لم تتمرد النساء على هذه الحال؟
- ربما تقبلن الحال ولو على مضض !
- جميعهن ؟
- ممكن لمن يحببنها!
- والأخريات وإنجاب الأبناء والبنات ، كيف يمكن أن يتم لمجتمع لواطي ! ثم كيف يرتبط اسم نبي باللواط ؟
رحت أضحك وأنا أهتف !
- إنها مسائل محيرة فعلا، وخاصة أن معظم رجال البلدتين هرعوا لمضاجعة ملكين . لو توقف الأمرعلى رجلين أو بضعة رجال لأمكن تقبل الأمر. يبدو أنهم كانوا بلا أخلاق على الإطلاق.
- وهل يعقل أن يأخذ الله النساء والأطفال والشباب البريئين بجرم اقترفه رجال، فيبيد ويدمر الجميع ؟
- يبدو أن غضب الله كان فظيعا ما دفعه إلى عدم التمييز بين المجرم والبريء!
- وماذا عن الفتاتين من أين جاءتا بالخمر لتسكرا أباهما؟
- ربما حملتاه معهما لحظة الهروب. ليتنا أحضرنا معنا خمرا ! الجو مناسب لاحتساء الخمروالتمتع هنا!
- نعم ؟ تساءل محمود وهو يضحك متوقعا تبعات كلامي!
رحت أضحك بدوري وأنا أمد يدي متلمسة فخذه هاتفة :
- ولماذا لا حبيبي ، لنعد تواصلنا بأعماق التاريخ ، ونحيي أساطيره!
وراحت يدي تتوغل إلى ملتقى فخذيه !
- مجنونة! هتف وهو يضحك دون أن يحاول ابعاد يدي. وحين وجد أنني جادة في المسألة راح يدخل في الحالة شيئا فشيئا وما لبث أن احتواني وضمني إليه.
*****
أعتقد أنها كانت من أجمل المواقعات الغرامية لي ولمحمود أبو الجدايل . وعذرا لأنني كساردة لم أرو أسرار هذه المواقعة ، ليس لأن محمود شاهين لا يريد ، بل لأنني أخجل من سرد ذلك . كما أن المسألة تتعلق بخصوصيتنا أنا ومحمود أبو الجدايل وليس من الضروري أن تُعرف أسرار سلوكنا في الممارسات الغرامية.. ربما تطرق شاهين إلى جانب من ذلك في روايته السابقة " زمن الخراب " التي تشكل الجزء الأول من هذه الرواية . والغريب أنه لم يدخل على السرد ويأخذ بزمامه ليفضح أسرار مواقعتنا، وكأنه يحترم خصوصيتنا ! كما أنه لم يتح لمحمود أبو الجدايل أيضا ، أن يأخذ بزمام السرد ، ربما لإدراكه أن محمود أجرأ مني على السرد ، وقول الحقيقة ، وحتى هتك ألأستار!
*****
ارتدينا ملابسنا وخرجنا من الكهف نتلمس طريق الصعود، والخروج من هذا المتحف الطبيعي إلى الفضاء المكشوف . الصعود يتعب محمود لكبر سنة أكثر مما يتعبني.. لذلك كنت أسير بتمهل إلى جانبه. النزول الذي استغرق معنا قرابة نصف ساعة ، استغرق معنا أكثر من ضعفها في الصعود. كنت أضطر إلى التوقف إلى جانب محمود الذي كان يتوقف ليلتقط أنفاسه ويستجمع قواه ..
" أتعبتك معي حبيبي، لن نكرر هذه الرحلة ثانية"
" لا عليك حبيبتي سنكررها إن شئت "
بلغنا أخيرا السيارة حيث تركناها آخر الشارع الترابي. لاحظت ونحن نقترب منها أن عجلتيها الأماميتين منفستان. هتفت " اللعنة " وهتف محمود " اولاد الكلب " درت حول السيارة لأرى أن عجلاتها الأربع منفسة . اتكأ محمود على نافذة المقعد الخلفي الأيمن وراح يزفر أنفاسه ويشتم الدواعش بأقذع الكلمات .
- كيف عرفوا مكاننا ولاحقونا أولاد الكلب ؟
- من الجوال حبيبي؟
- لكني لا أشغل موقع وجودي!
- ربما لديهم تقنيات عالية يستطيعون عبرها معرفة موقعك حتى لو كان الهاتف مغلقا !
- معقول أن يكون عند هؤلاء الأوباش تقتيات عالية ؟
- أكيد لديهم جهات خارجية تدعمهم بتقنياتها .
أخرج محمود الهاتف من جيبه . ألقى عليه نظرة عابرة ثم طوّح به بعيدا في المنحدر الذي صعدنا منه . وراح يتأفف بانفعال. لأول مرة أراه منفعلا إلى هذا الحد، حتى ليلة الرأس المقطوع تمالك أعصابه ولم ينفعل هكذا .
- طول بالك حبيبي سأحل المشكلة .
أخرجت هاتفي واتصلت بأخي سليم . أخبرته ما حدث معنا وطلبت إليه ارسال سيارة لتقلنا. وإرسال قاطرة لشحن السيارة .
يحتاج الأمر إلى قرابة ساعة أو أكثر قليلا إلى أن تصل نجدة أخي لنا . شكرت الله أنهم لم يعبثوا أو يخرّبوا أبواب السيارة .. كما لم يتركوا انذارا كما في كل مرة ، أو أي أثر يشير إلى هويتهم . صعدنا لنجلس في المقعد الأمامي . جربت تشغيل السيارة فاشتغلت . قلت لمحمود سأجرب السير ببطء على عجلات غير منفوخة . حركت السيارة ببطء واستدرت بها لنسلك طريق العودة . بدا الأمر ممكنا وإن كانت الحركة مزعجة باهتزاز السيارة . سرت ببطء. قلت لمحمود ربما هذا أفضل من الانتظار، سنسير إلى أن تأتي نجدة أخي.
بعد قرابة عشر دقائق من السير المزعج طلب إلي محمود أن أتوقف أفضل من هذا السير.
توقفت . تساءلت :
- ألم يكن من الأفضل اخبار الشرطة؟
- لا أريد أن نبقى منتظرين إلى أن تحضر الشرطة وتحقق في الأمر، هذا الأمر قد يستغرق وقتا طويلا .. حسنا فعلت إذ اتصلت بأخيك . سأتمدد في المقعد الخلفي إلى أن تحضر نجدة سليم .
نهض محمود وتمدد في المقعد الخلفي، بينما تمددت أنا في المقعد الأمامي. أغمض محمود عينيه وحاول أن يغفو، بينما بقيت أنا يقظة .
وصلت نجدة سليم بعد قرابة ساعة وربع . أخبرنا السائق أن القاطرة في الطريق خلفه لشحن السيارة . صعدنا إلى السيارة وانطلقنا.. قابلنا القاطرة في طريقنا . أخبرت سائقها ومرافقيه أن يتابعوا طريقهم إلى أن يصلوا إلى السيارة ويقطروها .. وتابعنا سيرنا عائدين إلى عمان .
*****
مر على رحيل أبي منتحرا في البحر الميت قرابة عام ونصف . قلت لمحمود " حبيبي اشتقت لأبي" محمود لا يرفض لي طلبا . وافق وهو يدرك تماما أن أبي لم يكن أبا فحسب ، بل أب وعشيق ، لكن ربما تخوّف قليلا من أنه لم يكن قادرا على القيام بالدور الذي كان يقوم به أبي، عواطف الأب مختلطة بوله العشق ! فقد أطرق للحظة قبل أن يعلن موافقته . هو في الحقيقة يدرك هذه الحال الشاذة ويحاول كل جهده لأن يكون لي أبا وعشيقا .. أعيش معه منذ أكثر من عام ، لا أفارقه إلا إذا شعرت أنه في حاجة إلى الوحدة والتأمل ليكتب .. أتركه ليوم أو يومين وأحيانا ثلاثة أيام ، أي إلى أن يهاتفني قائلا " حبيبتي اشتقت لك " في هذه الأيام الصعبة التي ازدادت فيها التهديدات بقتله ، قررت أن لا أتركه وحيدا ، إلا إذا أصر هو. وهولم يصركثيرا حتى اليوم ، غير أنه طلب إلي أن أنام وحدي ، وليس إلى جانبه ، فهو يقرأ في السرير، ويفكر في السرير ، ويكتب أحيانا في السرير كما كان يفعل قبل الكتابة على الكومبيوتر، ويتقلب كثيرا في السرير بحيث لا يمكن لأحد أن يخلد إلى الراحة والسكون إذا ما نام إلى جانبه ، عدا أنه لا يخلد إلى النوم بسهولة . أصعب شيء يواجهه في السرير هو أن يجلب النوم إلى عينيه ! وخاصة بعد أن توقف عن تناول الحبوب المنومة . أضحك عليه حين يخبرني أنه يشرع في العد عكسيا من المائة في عقله ، وحين يبلغ الرقم واحد دون أن يداعب النعاس جفنيه، يصعد بالعد إلى المائة . التنفس بعمق وممارسة الرياضة في السريريساعدانه على النوم أكثر من العد أحيانا .. محاولاته في النوم المغناطيسي تفشل دائما ، غيرأن الإسترخاء وتسليط النظرلدقائق على نقطة معينة في الحائط المواجه للسرير، يساعدانه على جلب النعاس أحيانا أيضا .. كذلك تخيل النوم في حقل وردي إلى جانب شلال، غير أن هذا التخيل إن لم يكن مركزا تقتحمه هواجس وأفكار وذكريات مختلفة لتشتته. نادرا ما ننام معا، كما في ليلة الرأس المقطوع، ولم يكن الأمر جديدا علي، فأبي نادرا ما نام معي طوال الليل في السرير.
كما كانت علاقتي بأبي وحتى بمحمود علاقة شاذة، ولومن وجهة نظر المجتمع فقط ، كان قبر أبي أيضا . فهو قبر يختلف عن القبور كلها، فهو ليس قبرا بين قبور، يضم تابوتا يحتوي على جثة ، بل سيارة مرسيدس حديثة تنطبق على جثته ، ونظراً لأنه تعذر إخراج السيارة من عمق يقارب أربمائة متر. فقد ارتأينا أن يبقى ضريحه في أعماق البحر، وسط ملوحة تزيد خمس مرات على ملوحة البحار العادية، وعشرات الأنواع من المعادن . واكتفينا أنا ومحمود وأخي بوضع شاهدة على أعلى الجرف المطل على الموقع ، تشير إلى الضريح وصاحبه في أعماق البحر.
الحال تكاد تكون ذاتها مع البحر نفسه . فهو بحر شاذ عن البحور كلها لعدم وجود حياة فيه لملوحة مياهه . إضافة إلى أنه يعتبر أخفض نقطة على الكرة الأرضية لانخفاضه قرابة أربعمائة مترعن سطح البحر. يتغذى من نهر الأردن شمالا ومن سيل ماعين شرقا ونهر وادي الموجب جنوبا ، إضافة إلى عشرات الينابيع الصغيرة إلى جانبية ، كنبعي عين جدي والفشخة غربا . غير أن هذه الينابيع والأنهارلا تكفي ليبقى دون نقص في مياهه .. فمياهه تنحسر باستمرار نتيجة التبخر العالي منه لشدة الحرارة في المنطقة ، ولشفط الكثير من مياه نهر الأردن من قبل اسرائيل، وثمة محاولات لربطه بمياه أحد البحرين : المتوسط والأحمر.
عدا ذلك يرتبط البحر الميت بأسطورة بلدتي سدوم وعمورة ، ، اللتين أمطر الله عليهما كبريتا ونارا وحجارة من سجيل، أو جعل عاليهما أسفلهما، كما في بعض روايات الكتب السماوية التي تطرقت جميعها إليهما، لكون رجالهما من اللوطيين الشاذين جنسيا ، فقد حاولوا اغتصاب ملكين كانا في زيارة النبي لوط .. فنزل غضب الله عليهما. ولم ينج غير لوط وابنتيه وزوجته. غيرأن الزوجة لم تكن مقتنعة بالإرادة الإلهية التي أمرتهم بمغادرة المنطقة دون الالتفات إلى الوراء ، أي لما سيحل بالبلدتين من دمار، فالتفتت وراءها لتتأكد مما جرى للبلدتين ، فحولها الله إلى صنم ! أمّا الفتاتان فقد تخوفتا أن ينقرض نسل أبيهما، فأسقتاه خمرا وأسكرتاه ، لتضاجعاه واحدة بعد الأخرى ، لتنجبا منه ابنين جاء منهما نسل العمونيين والمؤابيين !
ومما يقال عن هذه الأسطورة أن البلدتين المذكورتين أو جزء منهما يقع تحت مياه هذا البحر ، الذي من أسمائه المعروفة أيضا ما يرتبط باسم النبي لوط " بحيرة لوط ". وبهذا يكون ضريح أبي إلى جانب أضرحة قوم لوط ، وقد تدخل قصته الأساطير في المستقبل مع أنها ليست أسطورية ، لكن ربما تتدخل الآلهة أو إله القصص السماوية وحده إن كان واحدا، في حياتي أنا ومحمود ، لتحمل قصتنا شيئا يحيلها إلى اسطورة ، فأنا على الأقل أشترك مع ابنتي لوط في مضاجعة أبي وإن لم أسكره ، فقد كان يسكر وحده .
أوقفت سيارتي في آخر الشارع الترابي المنحدر نحو البحر، ونزلنا أنا ومحمود نتلمس طريقنا مرتدين ألبسة رياضية، عبر منحدر يباس تتخلله بعض الحجارة الصغيرة والمتوسطة، والقليل من الصخور المتناثرة . إنها الطريق التي سلكها أبي بسيارته نحو الهاوية ، والتي سبق لنا أنا ومحمود أن سلكناها مرتين ، مرة حين انتحر أبي ، ومرة حين وضعنا الشاهدة كعلامة تشير إلى مكان القبروالمقبور. كنا نصطحب باقة كبيرة من الورد ، أصر محمود على أن يحملها عني لأعرف كيف أجد طريقي ولا أتعثر في هذا المنحدر ، الذي يبدو أنه سيتحول إلى طريق معروف في المستقبل، لكثرة المنحدرين عبره ، ليس لزيارة ضريح أبي، بل للإقتراب من أقرب نقطة إلى البحر للتمتع بمنظره مستلقيا في الأعماق وأمواجه تتكسرعلى صخور الشاطئ. كنا في الزيارة السابقة قد أزحنا بعض الحجارة لنشكل ما يشبه طريقا ، وشرعنا أنا ومحمود في إزاحة ما يمكن إزاحته أو ابعاده، ونحن ننحدروننعطف بين الصخور ، حسبما ما تتطلب طريق الانحدار، التي كانت متعرجة ، وخاصة أسفل المنحدر حيث تنتصب صخور عملاقة تبدو كمنحوتات ، المرور بينها يشبه التجول في متحف طبيعي .
بعد قرابة نصف ساعة من السير المتعرج في المنحدربلغنا أعلى الجرف الذي هوت منه سيارة أبي. قرابة خمسين أو ستين مترا من الصخور تفصلنا عن البحر. توقفنا بصمت وخشوع أمام الشاهدة التي تحمل اسم أبي وتشير إلى قبره في أعماق البحر، ورحنا ننظر إلى النقطة التي يفترض أن يكون جثمان أبي بسيارته قد استقر فيها. قذفت باقة الورد بشكل قوسي بيدي الإثنتين حتى لا ترتطم بالصخور. رددت بعض الكلمات على مسمع من محمود، فيما كانت باقة الورد تسقط في المكان الذي قصدته، لتحملها الأمواج المتكسرة إلى الصخور أسفل الجرف، ولتعيدها المياه المرتدة من الموج إلى البحر " السلام عليك يا أبي الحبيب. السلام على جثمانك، السلام على رفاتك ، السلام على روحك النبيلة . لن أنساك ماحييت يا أبي الحنون ، الكريم ، الذي لم يبخل علي يوما بشيء مهما كان ، كما لم يبخل على أحد احتاج إليه، والذي حرص على أن يتركني ثرية ولا يدعني عرضة للعوز. سامحني يا أبي إن كان في حبي لك ما دفعك إلى الانتحار. فأنت الأب والحبيب الذي وجدت نفسي من ريعان طفولتي أغرق في حبه ، لا تلم نفسك يا أبي إن كنت الدافع إلى ذلك الحب المتمرد، فقد تكون مشيئة القدر هي من أرادت ذلك . اطمئن يا أبي فقد وجدت في محمود ما يعوضني عن غياب حبك عني .. وأنت أيها البحر كن رؤوفا بجثمان أبي ، وأحطه بما وهبك الخالق من قدرات الحفظ والصون . إن استطعت أن تخفف من تأثير الملوحة على جسده فافعل ، ولا تدع المعادن تتكدس على ضريحه بعشوائية ، دع الكلس والصوديوم والبوتاس والمنغنيز والكبريت وغيرها من المعادن تشكل أيقونات وردية حول الضريح ، وسأكون ممتنة لك أيها البحر"
تنفست بعمق بعد الفروغ من هذه الكلمات ، وألقيت رأسي على حضن محمود ودمعات حارة تنزلق على وجنتي.. لم يتفوه محمود بكلمة تعقب على ما قلته في السلام على أبي ، وراح يشدني إليه بكل حنان ويمسد على شعري.
جلسنا أمام الشاهدة قرابة ربع ساعة ، ونحن نرقب تكسر الموج على الصخور جراء رياح غربية خفيفة، دافعا باقة الورود إليها لتعود مع الماء المرتد إلى البحر. وتمنيت لو أن الباقة تعلق بالصخور وتظل واقفة في مكانها حتى لا تقذفها الأمواج بعيدا إذا ما هبت رياح جنوبية أو شمالية . كان الطقس حارا بعض الشيء غير أنه معقول مقارنة بالحر المعتاد في المنطقة . تدحرجت قطرات عرق على جسدينا .. شعرت بالعطش . أخرج محمود عبوة ماء من حقيبة الظهر التي كان يحملها . وقدمها لي.. محمود يحسب حساب كل شيء . وكان يعرف أننا سنعطش.
نهضنا للعودة ، نتلمس طريقا متعرجة عبر صخور عملاقة منتصبة . توقف محمود أمام إحداها . كانت تشبه نصبا انسانيا . قال إنها ربما تكون زوجة لوط إذا صحت الأسطورة . ضحكت ، فيما هو ينظر إلى البحر من نقطة أخرى، ليرى كم المساحة التي يمكن رؤيتها من هنا . كان المكان يشرف على منطقة شاسعة من البحر، وراح ينظر في اتجاه الجنوب السفلي متوقعا وجود ممرات يمكن أن توصل إلى الشاطئ دون أن تواجه جروفا يصعب اجتيازها . هتف مازحا :
" ما رأيك أن نسلك هذا الطريق إلى البحر لنتتبع مسيرة لوط وأسرته "
" ممكن في مرة أخرى بعد زيارة ضريح أبي، لعلنا نعثرعلى الكهف الذي ضاجعته فيه ابنتاه ، فأنا أرغب في ذلك ، كما إنني أفضل أن نستأجر قاربا في المرة القادمة لزيارة قبر أبي عن قرب ، وليس للنظر إليه من أعلى الجرف"
" لك ذلك حبيبتي ! "
تابعنا سيرنا صعودا في منعطفات بين الصخور .. سار محمود يمينا في طريق يصعد نحو الجنوب حيث بدت كومة صخور تعلو تلة مرتفعة بضعة أمتار عن مستوى الارض . تابعته بنظراتي دون أن أتبعه . اختفى بين الصخور للحظات وسمعت صوته يناديني " تعالي يبدو أن كهف لوط هنا" لم أصدق . هرعت . كان ثمة كهف بابه متوسط الحجم نسبيا، لكنه كبير وعميق من الداخل ، تعلو جدرانه نتوءات صخرية جميلة شكلها تساقط مياه من جدرانه عبر الأزمان. أخرج محمود مسدسه وحشاه ، مخافة أن يخرج علينا ذئب أو ضبع من وكر ما فيه . كان يمتد لقرابة ثلاثين مترا ، وتتسلل إليه أشعة الشمس من كوة جانبية أعلى جداره الجنوبي . بدا الطقس معتدلا فيه مقارنة بطقس الخارج. لم يخرج علينا من أوكار وجحور كثيرة فيه حيوانات أو أفاع. كانت فرصة لأن نستريح في الظل . جلسنا على صخرة مستطيلة نسبيا فيه . تساءلت:
- هل يمكن أن يكون هذا هو الكهف الذي واقعت فيه ابنتا لوط أباهما؟
- ممكن إذا صحت الأسطورة !
- ألا يمكن أن يكون للأسطورة أصل واقعي؟
- ممكن ، لكن ما هو غير ممكن أن يكون جميع رجال البلدتين لوطيين ، فكيف لم تتمرد النساء على هذه الحال؟
- ربما تقبلن الحال ولو على مضض !
- جميعهن ؟
- ممكن لمن يحببنها!
- والأخريات وإنجاب الأبناء والبنات ، كيف يمكن أن يتم لمجتمع لواطي ! ثم كيف يرتبط اسم نبي باللواط ؟
رحت أضحك وأنا أهتف !
- إنها مسائل محيرة فعلا، وخاصة أن معظم رجال البلدتين هرعوا لمضاجعة ملكين . لو توقف الأمرعلى رجلين أو بضعة رجال لأمكن تقبل الأمر. يبدو أنهم كانوا بلا أخلاق على الإطلاق.
- وهل يعقل أن يأخذ الله النساء والأطفال والشباب البريئين بجرم اقترفه رجال، فيبيد ويدمر الجميع ؟
- يبدو أن غضب الله كان فظيعا ما دفعه إلى عدم التمييز بين المجرم والبريء!
- وماذا عن الفتاتين من أين جاءتا بالخمر لتسكرا أباهما؟
- ربما حملتاه معهما لحظة الهروب. ليتنا أحضرنا معنا خمرا ! الجو مناسب لاحتساء الخمروالتمتع هنا!
- نعم ؟ تساءل محمود وهو يضحك متوقعا تبعات كلامي!
رحت أضحك بدوري وأنا أمد يدي متلمسة فخذه هاتفة :
- ولماذا لا حبيبي ، لنعد تواصلنا بأعماق التاريخ ، ونحيي أساطيره!
وراحت يدي تتوغل إلى ملتقى فخذيه !
- مجنونة! هتف وهو يضحك دون أن يحاول ابعاد يدي. وحين وجد أنني جادة في المسألة راح يدخل في الحالة شيئا فشيئا وما لبث أن احتواني وضمني إليه.
*****
أعتقد أنها كانت من أجمل المواقعات الغرامية لي ولمحمود أبو الجدايل . وعذرا لأنني كساردة لم أرو أسرار هذه المواقعة ، ليس لأن محمود شاهين لا يريد ، بل لأنني أخجل من سرد ذلك . كما أن المسألة تتعلق بخصوصيتنا أنا ومحمود أبو الجدايل وليس من الضروري أن تُعرف أسرار سلوكنا في الممارسات الغرامية.. ربما تطرق شاهين إلى جانب من ذلك في روايته السابقة " زمن الخراب " التي تشكل الجزء الأول من هذه الرواية . والغريب أنه لم يدخل على السرد ويأخذ بزمامه ليفضح أسرار مواقعتنا، وكأنه يحترم خصوصيتنا ! كما أنه لم يتح لمحمود أبو الجدايل أيضا ، أن يأخذ بزمام السرد ، ربما لإدراكه أن محمود أجرأ مني على السرد ، وقول الحقيقة ، وحتى هتك ألأستار!
*****
ارتدينا ملابسنا وخرجنا من الكهف نتلمس طريق الصعود، والخروج من هذا المتحف الطبيعي إلى الفضاء المكشوف . الصعود يتعب محمود لكبر سنة أكثر مما يتعبني.. لذلك كنت أسير بتمهل إلى جانبه. النزول الذي استغرق معنا قرابة نصف ساعة ، استغرق معنا أكثر من ضعفها في الصعود. كنت أضطر إلى التوقف إلى جانب محمود الذي كان يتوقف ليلتقط أنفاسه ويستجمع قواه ..
" أتعبتك معي حبيبي، لن نكرر هذه الرحلة ثانية"
" لا عليك حبيبتي سنكررها إن شئت "
بلغنا أخيرا السيارة حيث تركناها آخر الشارع الترابي. لاحظت ونحن نقترب منها أن عجلتيها الأماميتين منفستان. هتفت " اللعنة " وهتف محمود " اولاد الكلب " درت حول السيارة لأرى أن عجلاتها الأربع منفسة . اتكأ محمود على نافذة المقعد الخلفي الأيمن وراح يزفر أنفاسه ويشتم الدواعش بأقذع الكلمات .
- كيف عرفوا مكاننا ولاحقونا أولاد الكلب ؟
- من الجوال حبيبي؟
- لكني لا أشغل موقع وجودي!
- ربما لديهم تقنيات عالية يستطيعون عبرها معرفة موقعك حتى لو كان الهاتف مغلقا !
- معقول أن يكون عند هؤلاء الأوباش تقتيات عالية ؟
- أكيد لديهم جهات خارجية تدعمهم بتقنياتها .
أخرج محمود الهاتف من جيبه . ألقى عليه نظرة عابرة ثم طوّح به بعيدا في المنحدر الذي صعدنا منه . وراح يتأفف بانفعال. لأول مرة أراه منفعلا إلى هذا الحد، حتى ليلة الرأس المقطوع تمالك أعصابه ولم ينفعل هكذا .
- طول بالك حبيبي سأحل المشكلة .
أخرجت هاتفي واتصلت بأخي سليم . أخبرته ما حدث معنا وطلبت إليه ارسال سيارة لتقلنا. وإرسال قاطرة لشحن السيارة .
يحتاج الأمر إلى قرابة ساعة أو أكثر قليلا إلى أن تصل نجدة أخي لنا . شكرت الله أنهم لم يعبثوا أو يخرّبوا أبواب السيارة .. كما لم يتركوا انذارا كما في كل مرة ، أو أي أثر يشير إلى هويتهم . صعدنا لنجلس في المقعد الأمامي . جربت تشغيل السيارة فاشتغلت . قلت لمحمود سأجرب السير ببطء على عجلات غير منفوخة . حركت السيارة ببطء واستدرت بها لنسلك طريق العودة . بدا الأمر ممكنا وإن كانت الحركة مزعجة باهتزاز السيارة . سرت ببطء. قلت لمحمود ربما هذا أفضل من الانتظار، سنسير إلى أن تأتي نجدة أخي.
بعد قرابة عشر دقائق من السير المزعج طلب إلي محمود أن أتوقف أفضل من هذا السير.
توقفت . تساءلت :
- ألم يكن من الأفضل اخبار الشرطة؟
- لا أريد أن نبقى منتظرين إلى أن تحضر الشرطة وتحقق في الأمر، هذا الأمر قد يستغرق وقتا طويلا .. حسنا فعلت إذ اتصلت بأخيك . سأتمدد في المقعد الخلفي إلى أن تحضر نجدة سليم .
نهض محمود وتمدد في المقعد الخلفي، بينما تمددت أنا في المقعد الأمامي. أغمض محمود عينيه وحاول أن يغفو، بينما بقيت أنا يقظة .
وصلت نجدة سليم بعد قرابة ساعة وربع . أخبرنا السائق أن القاطرة في الطريق خلفه لشحن السيارة . صعدنا إلى السيارة وانطلقنا.. قابلنا القاطرة في طريقنا . أخبرت سائقها ومرافقيه أن يتابعوا طريقهم إلى أن يصلوا إلى السيارة ويقطروها .. وتابعنا سيرنا عائدين إلى عمان .
*****