محمد عفيفي مطر - ألْفُ قيامةٍ لموتٍ واحد.. شعر

مرثيةٌ
في اغتيال شامل با سييف


- 1 -

[ اجتمع الشيوخ في الساحة ، جالسين ، في حلقات ليناقشوا الوضع ، لم يتحدث أحد عن كراهيتهم للروس ، لأن ما كان يشعر به الشيشانيون صغارا وكبارا ، كان شيئا أقوى من الكراهية ، ليست كراهية ، بل اشمئزازاً ونفوراً وحيرة في مواجهة هؤلاء الكلاب الروس وعنفهم الغبيّ ، والتطلع نحو محوهم كما تمحى الفئران والعناكب السامة والذئاب. ]
ليو تولوستوي (1)
رواية الحاج مراد 1910
رفَّتْ على وجهِ الصبيِّ فراشتانِ
وحطَّتا غمازتينِ تشعشعانِ
- إذا تبسَّمَ - بالحليبِ وشقشقاتِ الماءِ ،
تنغرسانِ - إن غضبت ملامحُهُ - كبرعمِ دمعتين .

(أسميتُكَ النجمَ الذي يعلو ،
يشقُّ غياهبَ المنفى توقُّدُهُ
أسميتُكَ النسرَ المحوِّم في سماءِ الروح ،
سدرةُ منتهى الأشعارِ مرقدُهُ
أسميتُكَ الحصباءَ والأعشابَ في جبل العشيرةِ ..
أنتَ راعيهِ وسيِّدُهُ
لستَ ابنَ أمِّكَ أو أبيك إذا نسيتَ ذراهُ
أو أُنْسيتَ أنكَ للرعاءِ وللخيول الخنجرُ الحامي
وللحطاب جمرتُهُ وموقدُهُ
حتفٌ لمن عاداهمو سيفٌ لمن كانت لهم يدُهُ
أسميتُكَ النبعَ المزفزفَ بالمياه ليشربَ
الطيرُ الشريدُ ويصطفي عشّاً
يزقزقُ من تكاثره تجدُّدُهُ

أسميتُكَ الغضبَ المقدَّسَ ،
فالرياحُ خيولُ أحرفِهِ الضوابحُ ،
والغيومُ دليلُ قلبكَ في الرحيل إلى
ثراكَ .. فأنتَ كثرتُهُ وواحدُهُ
يا ابني ويا ابن أبيكَ وابن أبيه ..
لاسمِكَ إرثُهُ الوقَّادُ في الثأرِ المؤرَّثِ
والجبالِ وفسحةِ الآفاقِ ،
والجَرْسُ الكظيمُ لكلِ نائحةٍ تردِّدُهُ.)

- 2 -
[ كانت هناك أمةٌ ( في الجولاج ) لم تستسلم أبدا ، لم تتطبع مع الحياة العقلية للاستسلام، ولم تكن جماعة من المتمردين ، بل كانت أمة بأكملها – أشير هنا إلى الشيشانيين - هؤلاء لم يحاولوا إرضاء أو استرضاء الزعماء ، وكانت أفعال هذه الأمة متشامخة ، وكانت في الحقيقة معادية ، وهناك شيء غير عادي يجب الإشارة إليه ، أنه لم يتمكن أحد من منعهم من الحياة على الطريقة التي كانوا يعيشون بها ، والنظام الذي حكم ( الجولاج ) طوال ثلاثة عقود ، لم يتمكن من إجبارهم على احترام قوانينه.]
سو لجنتسين ( أرخبيل الجولاج ).(2)
كانت أغاني المهد تصهلُ في براحِ القلبِ ..
فانبسطَتْ سماوات وأرضٌ ،
واشرأبَّتْ من خطى إيقاعِها الأوتادُ
والغاباتُ ، وانفسحت مرامحُ خيلِها ،
امتدت ملاعبُ طيرِها ونسورِها بين الطباقِ السبعِ ،
أمُّكَ فتَّحَت في معصراتِ الغيمِ أبوابَ الكلام :

• لا ينحني رجلٌ لغير الله والأعشابِ في
سجّادةِ الملكوت
والماءِ المزمزِمِ في الشقوقْ .

• أرضُ العشيرةِ والفطام بعيدةٌ بُعدَ الصِّبا
وقريبةٌ قربَ الغناءِ من الحناجرِ والرباب .

• الأرض حولك في اتِّساع القيدِ ،
في لغة القياصرةِ القدامى ظلمةُ المنفى ،
وفي لغةِ القياصرةِ الحُثالة رعدةُ الموتِ المُهان .

• الموتُ ، أقسى الموتِ ، أن تَنْحلَّ طيناً في
يد الخزّافِ يعجنُهُ ويُبدئُهُ وينفخ فيه من
أهوائِهِ وكأنه ما كان ذا شكلٍ ولا معنى .

• قلبٌ بلا جبلٍ تحومُ نسوره وتُضيءُ شمسٌ
في مرايا ثلجِهِ : حجرٌ ،
ورأسٌ لا يطنُّ به انحدار الماءِ في الوديان :
محضُ خَرابةٍ لا يستحق بهاءَ " قـلْبَقِ "(3) جدِّهِ ،
ويدٌ تُزَلْزِلُها من الخوف المهينِ نذالةُ النسيان ،
لا تقوى على حسمٍ بطعنةِ خنجرٍ :
مولودةٌ للقطْعِ ،

والشّفةُ التي لا تستطيبُ قراءةَ التجويد للدم
في صحائف أرضها ومتونِ أهليها :
بغيُّ خيانةٍ تلغو
ولم يُخْلَقْ لها شرفُ اللغة .

• في الغيمِ مهرٌ أشهبٌ
أرسانُهُ خَيْطَانِ من ريحٍ ومن مطرٍ ،
وفرشُكَ سرجُهُ ، فاحلمْ وباغِتْهُ وضفِّرْ
من صهيلِ البرقِ والأرسانِ واعقدْ
في حديدِ النافذة
أنشوطةً ، واحلم به حتى يحين الوقت .

• للنسرِ ما امتدَّ الفضاءْ
مِنْ فسحةِ الطيران في أهوائِه ودمائه
من أول الوكْرِ الممنَّعِ في الذرى
حتى انفجارِ النورِ تحتَ العرش ،
ما من سكةٍ لترابِ أهلك غير ما انتقشت بهِ
الحصْباءُ من دمكَ الذي انهملتْ
خُطاه على خطاكَ ،
وللرحيلِ إلى دمائكَ .. من دمائك نجمةٌ تَهْديكَ ..
فــارحلْ ..


- 3 -

[ ليس الشيشاني سوي قاتل ، وإذا لم يكن قادرا علي القتل فهو قاطع طريق ،
وإذا لم يكن هذا ولا ذاك فهو لص ،وإذا لم يفعل ذلك فهو ليس شيشانيا.]
الجنرال باراكوف
[ يجب القضاء قضاء مبرما علي الشيشانيين قطاع الطرق ، كالكلاب المسعورة ]
بوريس يلتسين (4)

أممٌ تكشَّفَ زيفُ ما عاشتْهُ من رعبٍ ومِنْ كَذبٍ
تفكِّكُ عن مغازِلِها حبالَ قيودِها
وتقيءُ ما اعتَلَفتْهُ - قهراً - من مَعالِف قاهريها
والسماءُ قريبةٌ وخناجر الشهداءِ
تنحِتُ أو تقشِّرُ ليلَها

والفجر يبزُغُ من أسنَّتِها
ويركضُ في فيافي الروح ..

هل تَعْرى الخليقةُ مثلما وُلِدتْ من الأسماء يومَ
النفخة الأولى بأربعة العناصرِ ؟!
والغرائزُ فتَّحتْ مكنونَها ؟!
غَطَّتْ غروزني والقرى فوق السفوحِ
هشيمَها بجروحِها
وتنظَّرَتْ غوثاً
وقد سقط الكلامُ على الكلامْ
كذِباً على كذبٍ ،
وأقنعةً تهرَّأَ لحمُها وتفسَّختْ من تحتها
جيفُ الملامح ، أوجهُ الأمواتِ تلغو ،

ليس يقبَلُها الردى ، لا ترتضيها الأرضُ
فهي بلا قبورْ
تعوي وتنبح في سهوب القتلِ .
والظلماتُ فيضُ دمٍ وأشلاءٍ ،
وسيفُ البرقِ يشْرَخُ في الجبالِ
مسالكَ البدء المجلجِلِ بالنشورْ
لغةً تُغافِلُ موتَها وتشق في الجبل الطريِّ مكامنَ
الشهقاتِ والزفراتِ
(أمُّكَ في أغاني المهد والترقيص كانت
تنتشي وتقولُ : ليس على مدى الأعمارِ
ألْيَنَ من صدورِ الأمهاتْ
إلا جبالُ الأهلِ والحصباءُ في طرقِ الرجوعْ.)

فادخُلْ عروقَ الصخرِ واصعد للذرى
ومكامن الشهداء من وكرٍ لوكرٍ ،
إنَّه البدءُ المجلجِلُ بالقيامة والنشورْ
فاصعدْ لتُكْمِلَ دورةَ الإحياءِ في طبع النسور ..


- 4 -

[ كيف يتسنى لإنسان شريف أن يعيش في وطن كهذا ]
الجنرال أليكساندر ليبيد .(5)
سقط الكلامُ على الكلامْ
رملاً على رملٍ ،
وأطلالاً من المعنى على معنى الرُكامْ
والكونُ منكدِرٌ كأنّ النطقَ والإشهادَ ما كانا ،
كأن العرشَ منغرسُ القوائم في ظلام الغمْرِ ،
تنسحبُ الخليقة في الأفولْ
ينْحَلُّ ما اشتبكت به الأشياءُ في تكوين جوهرها
ونسج جدالها المشبوبِ ،
كلُّ نقيضةٍ تَفْنى وتُفني أختَها

فالريحُ بابٌ موصدٌ ، والبئر أخيلةُ الأعالي ، والمياهْ
حُرَقٌ من الظمأِ المذوَّبِ في سراب الروحِ ،
والنيرانُ رعدةُ وحشةٍ في القشِّ والأحطابِ ،
والطينُ انتظارٌ ذاهلٌ ..
لا النطق يحييهِ
ولا الإشهادُ يطلقُهُ ..
أسيرٌ أنت في دمك الأسيرِ وأنتما والأهلُ
في البلدِ الأسيرْ
كان الثمانيةُ الذئابُ (6) تحلّقوا حول القصاع ،
ثريدُهم لحمُ الشعوبِ ، شرابُهم نفطُ الجياعْ
كانوا ، وكان القيصرُ الشحاذُ شيخُ المخبرين
يدعو اللصوصَ ليشربوا نَخْبَ اغتيالِكَ ..
كان رمحٌ من دمائك يشرَخُ الملكوتَ ،
فاعرج .. ليس من حرجٍ على الأعرج (7)
واعرج وطف " بالنقش بند "(8) ،
ارقصْ وظالِّعْ دورةَ الأفلاكِ
واخطف وردةَ الدم من حرائق قندهار
خُذْ عشبةً نبتت بجمجمة الشهيد على ذرى الكرْملْ
خُذْ وردةً من كف شحاذين حول النيلِ
واشربْ غصةً من طميـِهِ الأهطلْ
خُذْ سعْفةً من نخلة السيَّابِ
وامضغ تمرها المعجون بالنابالم والبارودْ
خُذ طُرَّةً من كسوةِ البيت العتيقِ
وآيةً من زُخرِفِ المحملْ
في الليلة الكبرى وساعةِ عرسك الموعودْ
قد تشهَقُ الأمم الذليلةُ شهقة الغضب الولودْ
يا راحلاً عكّازه برْقُ البُراقِ ورعدة الآفاقِ
تحتَ الأشهَبِ الأجدلْ (9)
من ذروة الأفلاك رجِّعْ وِرْدَكَ المورودْ :
" ما في الصبابة مَنْهَلٌ مُستعذَبُ
إلا ولي فيه الألذُّ الأطيــبُ
أو في الوصال مكانةٌ مخصوصَةٌ
إلا ومنزلتي أعـزُّ وأقـــربُ
أنا بلبلُ الأفراحِ أملأُ دَوْحَها
طرباً،وفي العلياءِ بازٌ أشهب."(10)

1 / 9 / 2006
رملة الأنجب

-----------------------------------------
هوامش وإشارات :
1 ، 2 ، 4 ، 5 : نصوص مأخوذة من كتاب " دفاتر العنف المقدس " ، تأليف الكاتب الأسباني خوان غويتيسولو ، ترجمة: د. طلعت شاهين .

3- القلبق : غطاء للرأس من فراء الأغنام ، يعد من معالم الملبس في منطقة القوقاز ، ومن التقاليد الشيشانية أن يرث الولد المسمى باسم الجد أو الأب قلبقه ، كأن الرأس ينتقل بالوراثة ، والحفاظ على شرف الاسم والقلبق دليل على استحقاق الوارث لما ورث .

6- في التحاق ذليل بكوكبة الثمانية العتاة من اللصوص العالميين ، كان "بوتين" يبشر المجتمعين في بطرسبورج بنبأ اغتيال المجاهد شامل با سييف .

7- كان المناضل الفذ قد فقد إحدى ساقية في معركة سابقة ضد جحافل الروس العنصريين المستعمرين .

8- نقش بند : نقش أسماء الله الحسنى وأوراد الذكر الصامت في الطريقة النقشبندية ، وهي الطريقة الصوفية التي قادت النضال الشيشاني طوال قرنين من الزمان قبل تولي الطريقة القادرية متابعة النضال ، بند : قلب .

9- الأشهب الأجدل : إشارة إلى لقب عبد القادر الجيلاني منشئ الطريقة القادرية : الباز الأشهب .

1- الأبيات من شعر عبد القادر الجيلاني .

ملحق
كتب تولوستوي روايته "الحاج مراد " عن بعض ملامح الحرب الوحشية والغزو الهمجي في منطقة القوقاز ، والتي يسيل الدم فيها منذ ما يقارب ثلاثة قرون ، وقد أورد في الرواية أغنيتين شاعتا على ألسنة الشعب ، أنقلها من الترجمة الإنجليزية ، كملحق للمرثية :


1- أغنية أم
كان صدري الأبيض قد اخترقته
طعنة نصل لامعٍ من الصلب
لكني أرقدت ابني الوضّاء ، ولدي الحبيب ،
على الجرح
حتى اغتسل جسده بدمي الدفّاق .

واندمل جرحي بغير دواءٍ من عشبٍ
أو حشائش
ولأني لم أخشَ الموت ،
فإن ولدي لن يخشاه أبدا ..


2- أغنية ثأر

سوف تجفُّ الأرض فوق قبري
وأنتِ ، يا أمي ، سوف تنسينني .
سوف ينمو العشب فوق المقبرة
ويخفف من حزنك يا أبي الشيخ .
والدموعُ ستجف من عينيْ أختي
ويتبدد الأسى من قلبها

ولكنّك ، يا أخي الأكبر ،
لن تنساني حتى تثأر لموتي
وأنت ، يا أخي الثاني ،
لن تنساني حتى ترقد إلى جواري .

وأنتِ ، أيتها الرصاصة
حارقةٌ وتحملين الموت
ولكن ، ألم تكوني طوْعَ أمري ؟


وأنت ، أيتها الأرض السوداء
سوف تغطينني ،
ولكن ، ألم أطأْكِ تحت حوافر حصاني ؟
ويا أيها الموت ، أنت باردٌ
ولكنني كنت سيدك .
ستنالُ الأرض جسدي
أما روحي .. ففي السماء .

تعليقات

أعلى