أمل الكردفاني- التهديد- قصة

- يحمل الجنود في جيوبهم صور حبيباتهم والكتب المقدسة، وحبيباتهم في غرف النوم يغازلن تجار الحرب..وتجار الدين.
- أيها الحقير...
لم أكن قادراً على منع نفسي من الضحك من كلامه القاسي هذا..غير أن الحدود ستتبدى أمام أنظارنا، كما أشار المهرب، وهو من البدو الذين يحفظون الصحراء عن ظهر قلب..السيارة الجيب كانت قوية بما يكفي لإيصالنا إلى هذه النقطة حيث يحيط بنا العدم..
- لن أستطيع أن أتحرك معكم أكثر من ذلك..
قال صديقي:
- ولكننا اتفقنا..
قبض المهرب على جنبه، ليُظهر مسدساً آلياً، أدركنا حينها أن علينا النزول دون إحداث جلبة..وقد فعلنا..
ابتعدت الجيب فقال صديقي:
- تاجر حرب صغير..
- لا تهمني فلسفتك هذه..يجب أن نصل..إن خوفاً ما بدأ يتسرب إلى نفسي..
لم تكن هناك غير كثبان الرمال من حولنا، وعلينا ان نتجاوز الكمائن التي يضعها حرس الحدود، والأهم أن نتجاوز رصاصات قناصتهم.
- مغامرة كبرى..
قلت وسرنا بأعين راصدة، مفتوحة رغم زخات الأتربة.
أشار:
- أنظر...
كانت سبابته تجاه الأرض، لم أرَ شيئاً، فقال:
- دقق النظر هناك..قرب تلك الحصاة البيضاوية الحمراء..
اتسعت حدقتاي واستبصرَت عظاءة صحراوية بلون الأرض. كانت قبيحة جداً ومخيفة.
- ربما تكون سامة..
هبط على أمشاطه وأخذ يراقبها وتراقبه.
- دعك منها..
ابتعدتُ قليلاً، ولكنه ظل جالساً على أمشاطه..
- لا تضيع الوقت...لن تستفيد شيئاً من مراقبتها...
اختفت العظاءة تحت الرمال، فنهض وتابعنا المسير..
- ستتبعان الشمس..
لم يكن الأمر بتلك البساطة، فقد كان المُهرب يحاول التملص منا عبر توجيهات بسيطة زائفة.
- من الجيد أنه لم يقتلنا..
وبعد مسيرة نصف ساعة، انفتحت أمامنا مستعمرة جعارين هائلة، إمتدت مساحتها قرابة أربعة كيلومترات. فوقف صديقي مشدوهاَ أمام جمالها.
- انظر كيف تتوزع كريات الروث متباعدة بمسافات مدروسة..
سألته:
- أيجب علينا أن ندور حولها أم ندهسها أثناء تخطينا لها..
لكنه لم يجب على سؤالي؛ إذ كان قد دخل المستعمرة وجلس على أمشاطه كعادته متأملاً ثم قال:
- هل تعلم أنها الحشرة الفلكية الوحيدة على الأرض..إنها تتحرك بناء على حركة النجوم.. بل وهي قاعدة إرصاد جوي قائمة بذاتها..لقد كان البشر يعرفون مناخ اليوم التالي عندما يشاهدون حيويتها أو ذبولها..انظر لهذه الآلاف من كريات الروث، إن الجعران يدفعها بقدميه ويتحرك بيديه ويستطيع دفع كرة روث يتجاوز وزنها وزنه بنسبة تسعين في المائة...
لفحت وجوهنا نسمة تختلط فيها البرودة بالحرارة، وتقدمت بعض السحب البيضاء في السماء وتلاصقت صانعة خطاً مستقيماً في الأفق الازرق..
- إنه العصر..علينا أن نصل قبل الغروب..
لكنه كان غارقاً في تأمل الجعارين السوداء اللامعة، ولم يكن أمامي سوى أن أعبر مستعمرتها محطماً ممتلكاتها بحذائي..ولكن بغير فوضوية..حينها اطلقت الجعارين صفيراً متقطعاً، فقال بجزل:
-إنها تنذر الباقين بوجود خطر..
قلت:
- لماذا أنت مهتم بمثل هذه الأشياء؟ هل تريد العمل في قناة فضائية وثائقية؟
مسح جبينه بكم قميصه وقال:
- ألن يكون عملاً رائعاً...؟ أنظر إلى هذه الكثبان التي تبدو ميتة..في الواقع هناك ملايين من الأحياء تحتها وفوقها..سنشاهد اشجار الصحراء التي تجاهد من أجل مقاومة الفناء...تماماً كما نفعل نحن الآن..غير اننا نهرب من صراع الإنسان..وأما هي فتهرب من صراع الطبيعة..
- إن الإنسان جزء من الطبيعة...
- أنظر....
تبدلت تربة الصحراء من الرمال إلى التربة الحصوية، كان هناك تلك صخري قصير الارتفاع، ربما لا يتجاوز عشرين متراً.. نظرت لأعلى حيث أشار لي فرأيت قطاً بأذنين طويلين..
- ليس قطاً..إنه ثعلب الصحراء..
- روميل..
- حسنٌ..لن يهاجمنا...فلنصعد ببطء..
قلت:
- كل ذاكرة الصحراء هي الموت...لقد حكم هتلر على رومل بالانتحار...ثم انتحر هتلر نفسه...
- تخيل لو درس هتلر الفن كما كان يرغب؟
بصعوبة حاولت تخيل ذلك...
- الإعلام المنتصر، لم يمنح مخيلتنا القدرة على رؤية الوجه الآخر لشخصية هتلر..لكن على كل حال، هاهي الحرب عندنا قد انطلقت..وهربنا نحن..وفي هذه الصحراء صراعاتها الخفية والمعلنة كذلك من أجل البقاء..
اختفى ثعلب الصحراء حين بلغنا سفح التل، فشاهدنا من على البعد الأسلاك الشائكة..
همس:
- الإنسان لا يصارع من أجل البقاء..فهو يمتلك آليات البقاء دون صراع...إننا نصارع لنصنع المعنى...لهذا قاتل هتلر وجوبلز ومونتجومري والكاميكاز...ولهذا نحن نهرب الآن...ولذلك أيضاً سأعمل في قناة وثائقية عن الحياة البرية..بل حتى الفقراء حين ينجبون...
رأيت خيطاً أسوداً يخترق سموم الهواء ويغيب مكتوماً في جمجمة صديقي..وسمعت صوتاً من مكبر صوت يصرخ محذراً:
- ابق مكانك..لا تتحرك...
رفعت يديَّ إلى أعلى والذعر يتفجر في أعماقي...
- الفرقة الجوية الثالثة تتحرك نحو الهدف..الساعة الخامسة والأربعون...
لم أجروء على الإلتفات لرؤية جثته، حتى عندما كانت الطائرة المروحية ترتفع بي وصوتها المزعج يصم أذني... غاب بلا معنى..تماماً بلا معنى..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى