قطرات العرق تنولد من مسام جلده، مالحة جداً، العرق مخاض حقيقي ومستمر، مخاض للتعفن، تحت إبطيه، وبين فخذيه وإليتيه، وفروة رأسه. مكسواً بزحام اللزوجة، تلك التي تمتص الأتربة من الجو ، وتمتص أيضاً رائحة المنسحقين. سيمفونية متكاملة، يعزفها الجسد متنافراً مع محيطه. دقات القلب السريعة، الوخزات التي تتبادل أماكنها على ظهره وثدييه وباطن ذراعيه، الرؤية الضبابية تحت وهج شمس الظهيرة الماحقة بالجحيم. ارتعاشات السيقان وهي تزحف فوق الأتربة والأوساخ. القمامة في كل مكان، العطس في كل مكان، التمخط، والتبول تحت الحيطان التي اسودت من جفاف الأبوال، الغائط خلف شجيرات الحسك يابسة الأغصان. هناك دوماً رائحة خراء في الأفق، تحيط بكل الموجودات، برك المياه المغطاة بالطحالب الخضراء والبول وشحوم السيارات، ويرقات الضفادع ذات الرأس الذيلي القصير. وقربها - على حافتها تماماً- بائع الخضروات يفترش الطماطم والعجور، اكواماً صغيرة، مع لفافات للشطة وعجينة الفول السوداني، وخلفه هناك بائعة كسرة، سوداء هزيلة ومصابة بأنيميا حادة، تُخرج طرقات الكسرة ببطء شديد، وتسعل أثناء ذلك سعالاً مكتوماً...وبعيداً عن هذا الإكتظاظ بالتعفن، هناك بيوت مدفونة حتى ثلثها تحت الرمال، البيوت فاقعة الصفرة، بعضها بالطين وقليل منها بالبلوك، تصهرها الشمس من أعلى، وتختفي أي ظلال للحيطان الخربة وتحت هذه الحيطان يلف كلب هزيل جسده حول بعضه بألمِ مريض بالمصران..وغير بعيد شاة تقف وحيدة وسط الكثبان تتشمم الأرض وتمرمرها بشفتيها وكأنما تأكل النمل والحشرات..سيدتان تحملان فوق رأسيهما كراكيب عديدة، أشياء قبيحة ومتسخة ودبقة كالحلل المحترقة، وعلب صلصة تم تفريغها لتكون أكواب شراب، أو لتوضع عليها حبيبات الشاي أو السكر، معالق وسكاكين يدوية الصنع...يسير داخل حشد العرق، حذاؤه ملتهب بالسخونة، ما بين أصابع أقدامه داخل الحذاء يتمركز العفن اللزج، أنفاسه تنبعث من أسفل رئتيه منجرحة في طريق عبورها ثم انفلاتها إلى خارج ذاته، أجفانه متهدلة، وعيناه خائرتان، وجسده محطم...ولا خيار آخر...لا خيار أمام الجميع، يقول، ثم يمضي وقدماه تضعفان عن حمل جسده. يملس وجهه من منتصف نافوخه حتى أسفل وجهه ليعتصر عنه العرق، ويشعر بلزوجة الملح بين ياقة قميصه وجلد رقبته..هل هناك خيار أمامه أو امام هؤلاء؟ عقله كرة صفراء، فارغة إلا من سديم من شرر. لا خيار أمامه ولا أمام هؤلاء، يكاد يسقط حينما لا يتوقع عقله إنخفاضاً مفاجئا في تضاريس الكثبان الرملية، الكثبان صفراء مرهقة مثله.. تتخلى الشاة عن امتصاص حشرات الرمل، وترفع رأسها، تنتصب وقوفاً كجندي، ويراها من بعيد، تنظر للأفق، فينظر للأفق، ولا يأبه كلاهما بالآخر. سيمضي قربها قريباً وستجفل، وقد حدث ولكنها بدلاً عن أن تجفل دارت نصف دورة ونظرت إليه بحذر...هل هناك خيار؟ سألته بجدية ووجه صارم..التفت إليها ومضى أمامها وهو يرفع سبابته محركاً إياها يمينا ويساراً؛ لا لا يوجد خيار. السيدتان، كانتا تمشيان ببطء والكراكيب فوق رأسيهما، كانتا بعيدتين عنه، لكنهما توقفتا واستدارتا للخلف وصاحتا: هل هناك خيار؟ هزَّ رأسها فتطاير العرق؛ لا..لا يوجد خيار...وحين يقترب من الحيطان يرفع الكلب المصاب بالمصران رأسه وينبح، هل هناك خيار؟ لا يرد عليه، فينهض الكلب بخفه ويتبعه، يعبر هو الأزقة الواسعة المغمورة بالصهد. ثم يقف امام باب من الصفيح، يبدو انه كان مجرد لوح تم منحه ماهية باب. الوجود يسبق الماهية، يرفس الباب ويدخل إلى المنزل الطيني، متجها إلى الزير، فيجترع منه جرعات ماء كبيرة، وهو يتنفس بصعوبة، ثم يعمل عضلات ذراعيه الواهنتين ويحنى الزير وهو مقرفص تحته فيسيل الماء فوق فروة رأسه، الماء بارد.بارد..لطيف.. وحين يبتعد يقفز الكلب ويقرفص بدوره فوق البركة المائية الصغيرة المتبقية ويتمرغ فيها. يدلف هو إلى الغرفة ويتهالك على السرير الخشبي المجدول بحبال نباتية خشنة...ينظر إلى السقف بعينين جزعتين...هل هنالك خيار؟ تجثم سحابة من الظلام على صدره، وتنكتم أنفاسه ببطء، يقبض بكفيه على حنجرته، يتلوى بألم...يحاول الصراخ دون جدوى فينبح الكلب..يتمطى جسد الشاة لأعلى متحولاً لفتاة جميلة، وتنمو فوق البركة أعشاب خضراء تتوزع عليها زهرات ملونة، المرأتان حاملتا الكراكيب تضحكان وتقولان بصوت واحد: البعد الثالث. ثم تنتفخان لتتحولا إلى شجرتين عملاقتين بجزعين أسودين قاسيين وأوراق خضراء كثيفة...يستحم في بحيرة عرقه الصافية العذبة، ويرى أسماكا ملونة تدور حوله متراقصة.تزداد قبضتاه ضغطاً على حنجرته، ويزداد اختناقه..يريد أن يسعل، لكنه لا يستطيع. عيناه تحمران...وهناك على سقف الظلمة يقف كيان ما..يعرف أنه يقهقه بسخرية، لا يسمع القهقهات لكنه يشعر بها...ليس هناك خيار آخر، يقول الكيان، ويقهقه، فيقهقه معه. لن ينتهي حلمك أبداً..تقول الكثبان، الحلم بأن يكون لك خيار آخر..
يطلق صرخة رعب أخيرة...فينطفئ المشهد.
يطلق صرخة رعب أخيرة...فينطفئ المشهد.