الأسير رقم 2015
قصة محمد عارف مشّهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اهتزت يد الرجل العجوز القابض على عكازته كما القابض على الجمر ، مسح العرق عن جبينه بطرف ( حطّته ) ، تحت شمس تموز اللاهبة والقيظ الشديد . تلمّظ العجوز عطشا ، وتابعت ساقاه النحيلتين سيرها ، نحو شارع أسود يعطي بريقا اسفلتيا لامعا ، يزيد من انعكاس أشعة الشمس اللاهبة عمى وغبشا في عيني الرجل العجوز .
الشارع خال تماما من المارّة ، ولا سيارة تقل العجوز إلى حيث يريد . لا ظلّ يستظل به . لا ماء يغسل به وجهه ، فيبرد الوجه والجسم من قيظ الحر . كبرت أمنيات الرجل بالوصول إلى غايته . المكان بعيد ولا حافلة تجيء . أتعبته المسافة . أتعبته الطريق . أتعبه الاشتياق وأمنيات الوصول .
يجيء له زعيق خائف ينادي باسم العجوز ، يضع يده على عينه اليمنى ليمنع لهيب الشمس ، ينظر نحو مصدر الزعيق فيجده هو بذاته ، بالتأكيد هو . همس لنفسه وأضاف بصوت مسموع ، ليوثق استمرارية حياته في هذا القيظ ، فسأل مبتهجا :ـ ـ ـ حسن العبد الله ؟
* من ؟ سعيد الناجي . تساءل الرجل بفرح أيضا .
هرّول العجوز حسن باتجاه سعيد الناجي ، وارتمى في حضن تمتد يداه معانقا ، بكى ظلاّ الرجلين بصوت مسموع اشتياقا ، وكوّنا ظلاّ واحدا امتد على مساحة الشارع الأسفلتي حيث جلسا معاتبين .
ـ أين أنت يا رجل منذ أن كنّا أسيرين لم أرك ؟ سأل العجوز حسن
*لقد تمّ نقلي إلى السجن رقم خمسة تعرفه . قال سعيد
ـ كم بقيت في السجن ؟
ـ تعرف كنت محكوما بستة مؤبدات ، لكني خرجت بحكم مؤبد واحد ، مع تبادل الأسرى . وأنت أين ذهبت بعد أن تم فصلنا ؟
*أنا بقيت في السجن الأصلي وأكملت مؤبدا ونصف ... ماذا تفعل هنا يا ابن الناجي؟
ـ قبل أن أخبرك لماذا أنا هنا . ما أخبار بقية الرفاق سالم المحيسن
*الله يذكرك بالخير يا ابن المحيسن كنت فدائيا نشميا بحق . قال حسن وأضاف : مات في السجن رحمة الله عليه لم يحتمل التعذيب . تذكره لقد كان نحيلا .
ـ أذكره رحمة الله عليه . والولد المصري النحيل أيضا واسمه . أسمه ..... آه حنّا .
حنّا المصري ـ تذكرت ـ ورفيقه السوري مازالا في السجن أسيرين مع كمال العراقي وبقية الرفاق ؟
*نعم الرجال هم ؟
كم بقي لهم من مدة في الأسر ؟
فجأة سمعا صوت حافلة قادمة ، تتمايل في مشيتها متعبة كأسد هرم ـ تعبُّ الشارع ببطء إلى أن وصلتهما . اهتزت . تقدمت إلى الأمام خطوة عجل . تراجعت خطوة عجل أخرى ، وكديك ذبيح فارقت روحه جسده ، توقفت الحافلة مستسلمة لكوابحها ، وهمدت .
نهض سعيد الناجي متثاقلا . ودّع حسن العبد الله بعناق طويل ، واتجه نحو باب الحافلة . انزلق سعيد في الحافلة . تحركت الحافلة ببطء . ببطء . ببطء إلى أن اختفت الحافلة . وعينا حسن الدامعتين تعانق المدى نحو حقول البرتقال .