شريف رزق - الشِّعرُ المنثُورُ

الشِّعرُ المنثُورُ

.. تفعيْلُ التََّأسيسِ للشِّعرِ خَارجِ الوَزْنِ .


" الوزنُ ليسَ مِنْ الفَصَاحَةِ وَالبَلاغَةِ في شَيءٍ ،
إذْ لوْ كَانَ لَهُ مَدْخَلٌ فيْهِمَا
لَكَانَ يجبُ في كلِّ قصيدتينِ اتَّفقتَا في الوَزْنِ
أن تتفقا في الفصاحة والبلاغة "

عبد القاهر الجرجاني
(دلائل الإعجاز) – ص : 302


تمهيـد

مِنْ العَسِيرِ - حَاليًا - على الكثيريْنَ أنْ يَتَصَوَّروا الشِّعرَ مُتَجَرِّدًا مِنْ ثَوَابتِهِ الأسَاسِيَّةِ التَّاريخيَّةِ وَيظلُّ شِعرًا .
وَهَذَا الَّذي يحدُثُ - حاليًا - يقتربُ - في كثيرٍ - وَبِشَكْلٍ عَامٍ - ممَّا حَدَثَ لأوَّل مرَّةٍ مُنذُ قَرْنٍ على التَّقريبِ . وَمُعْظَمُ ما يُثارُ منِْ غُبارٍ في هَذِهِ المعَامِعِ ، قَدْ أُثيرَ بالفِعْلِ مُنذئذٍ ؛ فعلى إثْرِ الاطِّلاعِ على مُغَامَرَةِ والت وايتمان - الَّتي أحْدَثَهَا في الشِّعرِ الأمريكيِّ في عَامِ 1855وَتَطَايرَتْ شَظَايَاهَا إلى كُلِّ الجهَاتِ ، تَوَالَتْ المقَالاتُ في صِحَافتِنَا الأدبيَّةِ ، تُحَاولُ الرَّبطَ بَيْنَ الشِّعر الحرِّ مِنْ الأوْزَانِ - عِنْدَ الإفرنجِ - وَبَعْضِ المقُولاتِ المبثُوثَةِ في تاريخنَا النّقديِّ وَلا تُقْصِرُ الشِّعرَ على الموزُونِ .
وَهَذَا الَّذي حَدَثَ في طَلائِعِ القَرْنِ الماضِي يُشْبِهُ مَا حَدَثَ منذُ سِتينيَّاتِهِ ؛ حَيْثُ حَاوَلَ الكثيرونَ إقَامَةَ الجسورِ بَيْنَ المحدِّدَاتِ الَّتي وَضَعَتْهَا سوزان برنار، في عَامِ 1958، وَأشْتَاتٍ مِنْ تُرَاثِنَا تَتَّسقُ مَعَهَا في الأطُرِ العَامةِ .
هَذِهِ الانطلاقَةُ الهادِرَةُ لِشِعرِ النَّثرِ سَتَتَحَدَّدُ مَعَالمهَا في ثَلاثِ مَرَاحِلَ ، تَرْتَبِطُ بحرَكَةِ الشِّعرِ العَالميِّ ، وَتُشِّكلُ تجليِّاتٍ ثلاثةً لِلمَشْروعِ الأسَاسِيِّ الأكبرِ، وَهُوَ الشِّعرُ نثرًا :
المرحَلَةُ الأولى :
تمتدُّ مِنْ بدايات القَرْنِ الماضِي ؛ وَحَتَّى الأربعينيَّاتِ ، وَقَدْ سَيْطَرَ عليْهَا النُّزوعُ الرُّومَانسِيُّ الوجدانيُّ بتدفُّقِهِ البَسِيطِ .
المرحَلَةُ الثَّانيةُ :
بَدَأتْ مُنْذُ أوَاخِرِ الثَّلاثينيَّاتِ وَحَتَّى أوَاخِرِ الأرْبعينيَّاتِ ، وَبهذَا العُمْرِ القَصِيرِ كَانَتْ كَالشِّهابِ الَّذي سَيَظَلُّ أثَرُهُ هَادِرًا في وَعْي النُّخبَةِ ، وَقَدْ سَيْطَرَ عليْهَا النُّزوعُ الحدَاثيُّ الطَّليعيُّ في تجلِّيهِ السِّرياليِّ على وَجْهِ الخُصوصِ .
المرحلة الثَّالثة :
بَدَأتْ مُنْذُ السِّتينيَّاتِ وَلاتَزَالُ قائِمَةً ، وَمُنْتَصِرةً ،وَيُسيطِرُ عليْهَا مختلَفِ التَّوجُّهَاتِ الحدَاثيَّةِ المُهَيْمِنَةِ على الشِّعرِ العَالميِّ ، وَعلى أيْدِي شُعَرَاءِ هَذِهِ المرْحَلَةِ أصْبَحَ لِشِعرِ النَّثرِ مَرْكزُ الخريطَةِ الشِّعريَّةِ ، غَيْرَ أنَّه مِنْ الخَطَلِ أنْ نَقْتَصِرَ دَائِمًا على المرْحَلَةِ الأخيرَةِ مِنْ أشْكَالِ التَّحوُّلاتِ الشِّعريَّةِ في خَريطَةِ الشِّعرِ النّثريِّ .وَمِنْ هُنَا تَأْتي أهميَّةُ الإلمامِ بمَا اعْتَرَى هَذَا المشروعَ في مَرْحَلَتِهِ التَّأسيسيَّةِ المؤسِّسَةِ ، وَهيَ الَّتي هَيْمَنَ فيْهَا مُصْطَلَحُ الشِّعرِ المنثورِ Blank verse ، وَأُثيرَتْ فيْهَا أهمُّ القَضَايَا الَّتي سَتَظلُّ تُثَارُ .

مَفْهُومُ الشِّعرِ المُحِيطُ بِمَشْهَدِ الشِّعرِ المَنْثُورِ
تجاوَرَتْ مَعَ تجارَبِ الشِّعرِ المنثُورِ محاوَلاتٌ تنظيريَّةٌ عديدَةٌ ، حَاوَلَتْ تَوْسِيعَ مَفْهُومِ الشِّعرِ ، وَتحديثِهِ ، على ضَوْءِ الآفَاقِ الجديدَةِ ؛ الَّتي ارْتَادَهَا الشِّعرُ المنثُورُ ، وَفَتْحَهُ على مَفْهُومِ الشِّعريَّاتِ الأوربيَّةِ الحديثَةِ ، وَمَا يَطْرَحُهُ الشُّعَرَاءُ مِنْ رُؤى جَديدَةٍ ؛ تَتَخَطَّى المفهُومَ التَّقليديَّ المتَوَارَثَ .
يَتَبَدَّى هَذَا المفهومُ الجديدُ ، في مَفْهُومِ إبراهيم اليَازجيِّ(1847– 1906) ؛ الَّذي رَصَدَ فيْهِ عِلاقَةَ الوَزْنِ بِالشِّعرِ بقولِهِ :
" الظَّاهرُ أنَّ الوَزْنَ ليْسَ في شَيءٍ مِنْ أرْكَانِ الشِّعرِ وَلا دَخْلَ لَهُ في مَاهِيَّتِهِ ، وَأصْلِ وَضْعِهِ ؛ لأنَّا إذَا تَفَقَّدْنَا الشِّعرَ القديمَ ؛ كَالْوَارِدِ في بَعْضِ أسْفَارِ التَّورَاةِ وَالنُّبوءَاتِ لمْ نجدْهُ مَبْنيًّا على أوْزَانٍ مُطَّردةٍ وَلا مُفَصَّلاً في أبيَاتٍ مُقدَّرَةٍ كَمَا هُوَ المتعَارَفُ اليَوْمَ . وَإنَّما كَانَ يَتَمَيَّزُ الشِّعرُ عِنْدَهُمْ بِنَبَاهَةِ أغْرَاضِهِ وَسموِّ مَعَانيْهِ وَالإكثَارِ فيْهِ مِنْ الصُّورِ الخياليَّةِ وَالتَّفنُّنِ في أسَاليبِ المجازِ مَعَ تَوَخِّي الألفَاظِ الفَصِيحَةِ وَالتَّراكيبِ البَلِيغَةِ ؛ الَّتي لمْ تَألفْهَا العَامَّةُ وَلمْ تَتَبَذَّلْ في اسْتِعمَالِ غيرِ الخَاصَّةِ ، وَأمَّا القافيَةُ فَلَمْ يُصْطَلَحْ عليْهَا إلاَّ في الأزْمِنَةِ المتأخِّرةِ ، وَالظَّاهِرِ مِنْ مَبَاحِثِ أهْلِ التَّحقيْقِ أنَّهَا أوَّلُ مَا اسْتُعمِلَتْ عِنْدَ العَرَبِ ، وَعَنْهُمْ أخَذَ غَيرُهُمْ مِنْ أصْحَابِ سَائرِ اللغَاتِ ، وَلعَلَّ أوَّلَ شِعْرٍ مُقَفَّى في العبرانيَّةِ هُوَ مَا جَاءَ في مَقَامَاتِ يهوذا بن سليمان الحريزيِّ ... الَّتي تحدَّى بها مَقَامَاتِ الحريريِّ ، فإنَّهُ بَنَاهَا على السَّجعِ وَأتَى بشِعْرهَا مَوْزُونًا على بَعْضِ الأبحرِ العَرَبيَّةِ ؛ كَالْوَافرِ وَالسَّريعِ وَالرَّجزِ، مَعَ القَوَافي المطَّردَةِ ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلكَ على أنَّ الفَرْقَ المعْتَبَرَ بَيْنَ الشِّعرِ وَالنَّثرِ إنَّمَا هُوَ مَعْنَويٌّ لا لَفْظيٌّ ، وَأنَّ الوَزْنَ وَالتَّقفيَةَ لا يَكْفيَانِ لِصَيرورَةِ الكلامِ شِعْرًا مَا لمْ يَكُنْ مُسْتَوفيًا لِلشَّرَائِطِ المعنويَّةِ حَتَّى يكونَ شِعرًا بِالمعنى قَبْلَ أنْ يَكونَ شِعرًا بِاللفظِ ."(1)
كَمَا يَتَبَدَّى هَذَا المفهومُ لَدَى مصطفى لطفي المنفلوطي (1872-1924)، وَهُوَ يَرْصُدُ عِلاقَةَ الشِّعرِ بآليَّاتِ نَظْمِ الشِّعرِ، وَبِالأوْزَانِ تحديدًا ؛ حَيْثُ رَأى أنَّ
" الشِّعرَ ، أمْرٌ وَرَاءَ الأنغَامِ وَالأوْزَانِ ، وَمَا النَّظمُ بالإضَافةِ إليْهِ إلاَّ كَالحلى في جيْدِ الغَانيَةِ الحسْنَاءِ ، أوْ الوَشْي في ثَوْبِ الدِّيبَاجِ المُعَلَّمِ ، فَكَمَا أنَّ الغَانيَةَ لا يُحْزِنُهَا عَطَلُ جِيْدِهَا ، وَالدِّيبَاجُ لا يُزْرِي بِهِ أنَّهُ غيرُ مُعَلَّمٍِ ، كَذَلكَ الشِّعرُ ، لا يُذْهِبُ بحُسْنِهِ وَرُوَائِهِ أنَّهُ غيرُ مَنْظُومٍ وَلا مَوْزُونٍ."(2)
وَمَعَ مَطَالِعِ القَرْنِ العِشْرينِ تَتَابَعَتْ المقَالاتِ في التَّعريفِ بطبائِعِ الشِّعرِ الأوربيِّ ، وَعَقْدِ المقَارَنَاتِ بينَهُ وَبَيْنَ الشِّعرِ العَرَبيِّ ، وَالدَّعوَةِ لِطَرَائقَ جَديدَةٍ على الشِّعرِ العَرَبيِّ تُلْحِقُهُ بحرَكَةِ الشِّعرِ العالميِّ ، وَمِنْ بَوَاكيرِ الدَّعَوَاتِ دَعْوَةُ الشَّاعرِ التُّونِسِيِّ عبد العزيز المسعودي - في مجلَّةِ: السَّعادَةِ العُظْمَى، في عَامِ 1902- إلى المزيدِ مِنْ التَّحرُّر وَالانْفِتَاحِ وَارْتيَاد الشِّعرِ في النَّثرِ؛ اقْتِدَاءً بمَا يُكْتَبُ في الشِّعرِ الغَرْبيِّ ؛ حَيْثُ أوْضَحَ أنَّ
" لِكُتَّابِ الإفْرنجِ وَمْنْ قَلَّدَهُمْ مِنْ كُتَّابنَا المعَاصِريْنَ أسَاليبُ غيرُ مُتَعَارَفَةٌ مِنْ قَبْل في الكِتَابَةِ الشِّعريَّةِ مِنْهَا اسْتِعْمَالُ الشِّعرِ في النَّثرِ ، فَتَرَى الكَاتِبَ يُوزِّعُ أنْوَاعًا مِنْ الكَلامِ مختلِفِ الموَاضِيْعِ فَوْقَ لَوْحِ التَّخيُّلِ ؛ لِيُرَكِّبَ مِنْهُ الجمْلَةَ المطلوبَةَ لَهُ في غَرَضِهِ المخصوصِ ،كَمَا يُفْرِغُ الرَّسَامُ أنْوَاعًا مِنْ الأدْهَانِ المحلولَةِ ، لإيجادِ اللونِ المنَاسِبِ لرَسْمِ شَكْلِ تَرْسِيمِهِ."(3)
وَقَدْ اضطلَعَتْ مجلَّةُ (الهلال) بدورٍ أسَاسيٍّ في التَّرويجِ لمبدَأ الشِّعرِ في النَّثرِ، ومِنْ ذَلكَ - على سَبيْلِ المثَالِ - في عَامِ 1904، مُوَازنَةٌ مَعْقُودَةٌ بَيْنَ وَاقِعِ الشِّعرِ الأوربيِّ وَوَاقِعِ الشِّعرِ العَرَبيِّ ، كانَ ممَّا جاءَ فيْهَا أنَّ
" فيكتور هوجو لمْ يَلْتَفِتْ كثيرًا لأوْزَانِ العَروضِ الَّتي نَظَمَ فيْهَا مَنْ تَقَدَّمَ عليْهِ مِنْ الشُّعرِاءِ ؛ بَلْ تَسَاهَلَ جدًّا في جَانبِ الألفَاظِ ، وَاسْتَحْدَثَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ أنْوَاعًا جَديدَةً ،وَوَضَعَ هَذِهِ القَاعِدَةَ ، " إنَّ الشِّعرَ ليْسَ في قَوَالبِ المعَاني ؛ وَإنَّمَا هُوَ في المعَاني نَفْسِهَا ؛ فَالشُّعرُ هُوَ الأمْرُ البَاطِنيُّ لِكُلِّ شَيءٍ في الوُجودِ " .
" وَهَذِهِ القَاعِدَةُ ليْسَتْ مجهولَةً بِالتَّمَامِ ، عِنْدَ أدَبَاءِ العَرَبِ ، وَلَعَلَّ ابْن رُشدٍ أشَارَ إليْهَا بقولِهِ عَنْ المحاكَاةِ في اللفظِ ؛" أعْنِي الأقَاويْلَ المُخيَّلَةِ غيرِ الموزُونَةِ ". وَحُكِيَ عَنْ حَسَّانٍ بنِ ثَابِتٍ حِيْنَمَا أتَاهُ ابنُهُ عبد الرَّحمن ، وَهُوَ صَبيٌّ، يَبْكِي وَيَقُولُ : " لَسَعَني طَائِرٌ"، فَقَالَ حَسَّانُ :" صِفْهُ يَا بُني" . فَقَالَ : " كَأنَّهُ مُلْتَفٌّ في بُرْدَيْ حَبْرَةٍ "، وَكَانَ لَسَعَهُ زنبورٌ ، فَقَالَ حَسَّانُ : " قَالَ ابْني الشِّعرَ وَرَبِّ الكَعْبَةِ " . فَمَقْصُودُ الصَّبيِّ أنَّ الطَّائرَ الَّذي لَسَعَهُ ، يُشْبِهُ في أجْنِحَتِهِ وَشَكْلِهِ المُنقَّشِ العَجِيْبِ الشَّخصَ الملتفَّ بِرِدَاءٍ مُوَشَّى وَمُصبَغٍ ، وَقَوْلُ حَسَّانٍ حُجَّةٌ على أنَّ الشِّعرَ لا يَنْحَصِرُ في الكَلامِ المقَفَّى الموْزُونِ ."(4)
وَفي أكتوبر مِنْ عَامِ 1905 بَدَأ جورجي زيدان (1861- 1914) في التَّكريسِ لمصْطَلَحِ الشِّعرِ المنثُورِ ، حِيْنَ قَدَّمَ لِنَصٍّ شِعريٍّ - سمَّاهُ " قَصِيدَةً منثُورَةً " - كَتَبَهُ أمين الرَّيحاني - في وَصْفِ غيَابِ الشَّمسِ بلبنان ، في يَوْمٍ مِنْ أيَّامِ الخريفِ عبَّرَ عَنْهُ بـ : الحيَاة أوْ الموت - مُوضِّحًا أنَّهُ يقدِّمُهُ مثالاً لهذَا النَّوعِ مِنْ الشِّعرِ ، وَيَضَعُ لهذَا التَّقديمِ عُنوَانَ: " الشِّعر المنثور في اللغَةِ العربيَّةِ " وَيُبَّينُ فيْهِ أنَّ
" الشِّعر عِنْدَ العَرَبِ الكلامُ المقفَّى الموْزُونُ ، فإنْ لمْ يَكُنْ كَذلكَ لا يعدونَهُ شِعرًا ، فَكَأنَّهُمْ عَرَّفُوا الشِّعرَ بلفظِهِ لا بمعنَاهُ ، وَأمَّا الإفرنجُ فيعرِّفونَهُ بمعنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مَنْظُومٌ وَمَنثُورٌ ، وَالمنظومُ قَدْ يَكُونُ مَوْزُونًا غيرُ مُقفَّى أوْ مُقفَّى غَيُر مَوْزُونٍ وَإنَّمَا العُمْدَةُ عِنْدَهُمْ على الخيَالِ الشِّعريِّ أوْ المعَاني الشِّعريَّةِ .(5)
وَجورجي زيدان بهذِهِ الخُطوَةِ ، قَدْ فَتَحَ البَابَ على مِصْرَاعيْهِ لِلولوجِ إلى عَوَالمِ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَالتَّعرُّفِ على هُويَّتِهِ المسْتَقلَّةِ ، وَكَيْفِيَّةِ اخْتِلافِهِ عَنْ النَّثرِ العَاديِّ المعروفِ ؛ فَسرعَانَ مَا تَبِعَهُ بولس شحادة (1882-1943) ، مُقرًّا بأنَّ زيدان ، قَدْ فَتَحَ " وَلا رَيْبَ بابًا وَاسِعًا في الشِّعرِ يَسْتَطِيعُ أنْ يلجَهُ كثيرونَ مِنْ شُعرائِنَا الَّذينَ سَئِمَتْ نفوسُهُمْ مُتابعَةِ طُرُقِ العَرَبِ في النَّظمِ وَرَغِبُوا في أنْ يُلقوا عَنْ عَاتِقِهِمْ تِلكَ القيودَ الثَّقيلَةَ "(6)، وَبالإضَافَةِ إلى هَذَا - الَّذي يهمُّنَا هُنَا على وَجْهِ التَّحديدِ - فإنَّ شحادةَ يدعو شُعرَاءَنا إلى أنْ يحذو حَذْوَ الإفرنجِ وَيَنْظِموا شِعرًا مَوْزُونًا لا قَافيَةَ لَهُ كَمَا كَانَ يَنْظِمُ شُعَرَاءُ الجاهليَّةِ قبلَ امْريء القيسِ ، وَكَمَا فَعَلَ مُلتُن وَشكسبير في مُعْظَمِ مَا نُشِرَ لهمَا ، وَبالتَّالي أخَذَتْ دَعوةُ شحادة بُعدًا آخَرَ، وَتحدَّدَتْ في مَسَاريْنِ:
الأوَّلُ: التَّشديدُ على مُؤازَرَةِ الشِّعرِ المنثُورِ .
الثَّاني: التَّرويجُ لمَا سَيُعرَفُ بِالشِّعرِ المُرسَلِ ؛ وَهُوَ مَا سَيرتَادُهُ : جميل صِدقي الزَّهاوي (1883-1936) ، وعبد الرحمن شُكري(1886-1958) ، ثمَّ محمد فريد أبو حديد (1893-1967) ثمَّ أحمد زكي أبو شَادي (1892-1955) .
وَسرعَانَ مَا أتَى توفيق إلياس خليل لِيَبْسطَ قَضِيَّةَ الشِّعرِ المنثُورِ ، في مَقالةٍ كَامِلةٍ بعنوَانِ: "الشِّعر المنثُور" ، كَانَ ممَّا جَاءَ فيْهَا أنَّ فيكتور هوجو وَصَفَ " الشِّعرَ وَنِسْبَتَهُ للبيْتِ أوْ الوَزْنِ في البَحْرِ فَقَالَ :(هُوَ كَالعَسَلِ ، وَالبيتُ كبيتِ الشَّمعِ) ، فَإذَا جرَّدنا العَسَلَ مِنْ بيتِ الشَّمعِ الَّذي يحتاطُهُ فَهَلَ يُبْطِلُ أنْ يكونَ عَسَلاً ؟ وَالجوَابُ كلاَّ ! "(7) وَيُدلِّلُ توفيق على ذَلكَ بأنَّ الإنْسَانَ الأوَّلَ الشَّاعرَ، قَالَ "الشِّعرَ وَهُوَ لمْ يَزَلْ في طَورِ الهمَجيَّةِ ، لمْ يُلَطِّفُ التَّمدُّنُ أخْلاقَهُ بعدُ ، وَلا ذَهَبَ بخشونَةِ تَصَوُّرِهِ وَسَذَاجَةِ تعبيرِهِ "(8)، وَيُضيْفُ أنَّنَا " وَجَدْنَا الشِّعرَ يأتي على مَقَاطِع مَوْزونَةٍ فَحَسِبْنَا ذَلكَ ضَروريًّا لَهُ ، وَلكنَّ الشَّاعرَ الأوَّلَ اسْتَعْمَلَهُ ليُلطِّفَ مِنْ خُشونتِهِ وَخُشونَةِ لفظِهِ وَيَسْهُلَ حِفْظُهُ وَاسْتِظهارُهُ ، قَالَهُ وَهُوَ لا يُميِّزُ بينَ الشِّعرَ وَالموسيقَى ، بَلْ كَانَا عِنْدَهُ كالشَّيءِ الوَاحِدِ "(9) ، ثمَّ يُميِّزُ بينَ الشِّعرَ المنثورَ ، وَالنَّثرَ العَاديَّ ، فَيَقُولُ " وَرُبَّ مُعْتَرضٍ يقولُ : إذَا فَصَلْنَا الشِّعرَ عَنْ الوَزْنِ وَالقافيَةِ فَمَا الفَارقُ بينَهُ وَبَيْنَ النَّثرِ؟ ، وَالجوابُ أنَّ الفروقَ تَبْقَى كَمَا هِيَ ؛ فالشِّعرُ كَمَا بيَّنَا قائمٌ بالأفْكارِ ؛ الَّتي تُعبِّرُ عَنْ الجمَالِ وَاسْتعمَالِ الصُّورِ المناسِبَةِ لذلكَ الجمَالِ مِنْ مجازٍ وَتشبيهٍ ، وَهُوَ قائمٌ بِتَهييجِ القَريحَةِ لدرجَةٍ يَرَى بهَا الشَّاعرُ التَّناسُبَ بينَ الأشياءِ واضِحًا جَليًّا فيترُكُ الوَصْلَ وَالعِلاقَاتِ البَسِيطَةِ في الكَلامِ ، فَيُصْبحُ كلامُهُ كثيرَ الدَّلالةِ وَإن قلَّ، وَهُوَ في كُلِّ مظاهِرِهِ يَضْربُ على أوتَارِ القْلبِ ويميلُ نحوَ النَّفسِ البَشَريَّةِ ، وَالنَّاثرُ بخلافِ ذَلكَ على خَطٍّ مُسْتقِيمٍ ، فَهُوَ وَإنْ طَلَبَ الجمَالَ وَتهيَّجَ ، لايَزَالُ يَرْمِي نحوَ العَقْلِ وَيَتَحَدَّثُ المنطقَ أرَادَ أمْ لم يُرِدْ ..وَسَوفَ يقومُ جَبَابرَةٌ في الشِّعرِ المنثُورِ فيُبدِعونَ كَمَا أبدَعَ نَوابِغُ الشُّعرَاءِ قديماً؛ فإنَّ العقولَ قَدْ اسْتَيقظَتْ لهذِهِ الحقائقِ وَأخَذَ الفِكرُ يبحثُ "، وَهَكَذَا يَسْتَشرِفُ توفيق إلياس ، في النِّهايةِ ، مُسْتَقْبَلَ شِعْرَ النَّثرِ .
وَعَاودَ جورجي زيدان الحديثَ عَنْ الشَّعرِ المنثُورِ عَامَ 1907، وَهُوَ يَعْرِضُ لِكِتَابِ السَّيد البكري: صَهَاريج اللؤلؤ (11)، فَقَالَ :
" الشِّعرُ عِنْدَ العَرَبِ : الكَلامُ المقفَّى الموزُونُ ، وَهُوَ تعريفٌ للنَّظمِ لا الشِّعرِ ، إذْ قَدْ يكونُ الرَّجلُ شَاعرًا وَلا يُحْسِنُ النَّظمَ ، وَقَدْ يكونُ ناظِمًا وَليْسَ في نظمِهِ شِعرٌ ؛ فالشِّعرُ بهذَا الاعْتبَارِ قِسْمَانِ : مَنْظومٌ وَمَنْثورٌ ، وَالشِّعرُ المنظومُ كثيرٌ في اللغَةِ العَربيَّةِ ، على اخْتِلافِ أعْصُرِهَا في الجاهِليَّةِ وَالإسْلامِ ، بَلْ هِيَ أكثرُ لُغَاتِ البَشَرِ شِعرًا ، أمَّا المنثُورُ فإنَّهُ نادرٌ فيْهَا وَلاسِيَّما النَّوع الوصفيّ أوْ القَصَصيّ منْهُ .. الشِّعرُ المنثُورُ ظلَّ نادرًا حَتَّى في إبَّانِ الحضَارَةِ وَمَازَالَ كَذلكَ إلى اليومِ . (12)
وَبالإضَافةِ إلى دَورِ مجلَّة:(الهلال) ، في التَّأسيسِ لوجودِ الشِّعرِ المنثُورِ، وَتَقبُّلِهِ ، نجدُ صَحيفَةَ:(السُّفورِ) ، المصْريَّةِ الأسبوعيَّةِ ، تضطلِعُ بالدَّورِ نفسِهِ ، اعْتِبَارًا مِنْ مُنْتَصَفِ العِقْدِ الثَّاني مِنْ القَرْنِ الماضِي ؛ فَتَتَوَسَّعُ في نَشْرِ تجاربِ الشِّعرِ المنثورِ ، لمجموعَةٍ مِنْ المبدعِينَ الَّذينَ ظَهَرُوا قُبَيْلَ انْدِلاعِ الحرْبِ العالميَّةِ الأولى ، وَمِنْهُمْ : محمد تيمور، ومحمود تيمور، وحسين فوزي ، ومحمد كامل حجَّاج ، وفائق رياض ، ومحمد شوقي .
وَلَدَى هَؤلاءِ يتجاورُ التَّرويجُ لمشْرُوعيَّةِ الشِّعرِ المنثورِ، مَعَ التَّحامُلِ على أنْظِمَةِ الأوْزَانِ العَروضِيَّةِ ، وَمِنْ ذَلكَ قَوْلُ محمد كامل حَجَّاج :
" نَرَى الشَّابَ حِيْنَمَا يميْلُ إلى الشِّعرِ ويبتدئُ في معالجتِهِ يقرأُ دَواوينَ البَهَاء زُهير وَابن مَعتوق وَالخفاجي وَالشَّبراوي وَابن الفارض ، وأمثالهم ، وَهُمْ أبعدُ عنْ الشِّعرِ بُعْدَ الأرضِ عَنْ السَّمَاءِ ، ليْسُوا إلاَّ وزَّانينَ . "(13)
وَهَذَا الرَّأي يَتَّسقُ مَعَ قَامَ بِهِ المهجريُّونَ مِنْ توجيهِ طاقاتهم لِلتَّنديدِ بأنظمَةِ الأوْزَانِ الخليليَّةِ ؛ فَقَدْ كَتَبَ ميخائيل نُعيمه في: الغِربَال :
"لَقَدْ وَضَعَ النَّاسُ لِلشِّعرُ أوْزَانًا مثلمَا وَضَعُوا طقوسًا لِلصَّلاةِ وَالعِبَادةِ ، فَكَمَا أَّنهم يتأنَّقونَ في زَخْرَفَةِ مَعَابدِهِمْ لتأتي لائِقَةً بجبروتِ مَعْبُودِهِمْ ، هَكَذَا يَتَأنَّقونَ في تركيْبِ لغَةِ الَّنفسِ لتأتيَ لائقةً بالنَّفسِ ، وَكَمَا أنَّ اللهَ لا يحفَلُ بالمعابدِ وَزَخْرفتِهَا ، بَلْ بِالصَّلاةِ الخارجَةِ مِنْ أعْمَاقِ القلْبِ ، هَكَذَا النَّفسُ لا تحفَلُ بِالأوزَانِ وَالقوافي ، بَلْ بدقَّةِ تَرْجمةِ عَواطِفِهَا وَأفْكَارِهَا ."(14)
وَكَتَبَ جُبْرَان خليْل جُبْران :
"لَوْ تخيَّلَ الخليْلُ أنَّ الأوْزَانَ الَّتي نَظَمَ عقودَهَا ، وَأحْكَمَ أوْصَالهَا ، سَتَصِيرُ مِقْيَاسًا لِفَضَلاتِ القَرَائحِ ، وَخُيوطًا تُعَلَّقُ عليْهَا أصْدَافُ الأفْكَارِ ، لنَثَرَ ِتلكَ العُقودَ ، وَفَصَمَ عُرَى تِلكَ الأوْصَالِ. "(15)
وَجُبْران كَانَ على وَعْي بأنَّ مَا يُنْجِزُهُ بقلمِهِ المرهَفِ نثرًا هُوَ شِعْرٌ ؛ فَقَدْ كَتَبَ :" أنظمُ الشِّعرَ وَأنثرُهُ "(16) وَكَتَبَ في مَقْطوعَةٍ بعنوانِ: صَوْت الشَّاعر- في آخِرِ كِتَابِهِ: دَمْعَةٌ وَابتسَامَةٌ - مُسْتَشِرفًا :" وَالَّذي أقوُلهُ الآنَ بلسَانٍ وَاحِدٍ بقولِهِ الآتي بألسنةٍ عديدَةٍ ." (17)
وَبالإضَافَةِ إلى دَورِ الهلال ، وَالسفور - وَأيْضًا: الحريَّة ، العِراقيَّة ؛ الَّتي لحِقَتْ بهمَا - تتبدَّى آرَاءٌ مُنْفَصِلَةٌ ، شَديدَةُ الأهميَّةِ ، قَدْ رَافَقَتْ انْطِلاقَ حَرَكَةِ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَسَاهمَتْ في وَضْعِ إطارٍ نظريٍّ لهَا ، اسْتِنَادًا إلى مَرْجِعيَّةٍ غربيَّةٍ أوْ عَربيَّةٍ، وَيأتي في طَليعَةِ هَذِهِ الآرَاءِ رَأي أمين الرِّيحاني (1876-1940)؛ الَّذي يُعرِّفُ فيْهِ الشِّعرَ المنثُورَ ، تعريفًا يَكْشِفُ المرجعيَّةَ النَّظريَّةَ لَهُ عِنْدَهُ :
" يُدْعَي هَذَا النَّوعُ مِنْ الشِّعرِ الجديْدِ vers Libres بِالفَرنسِيَّةِ ، وَبالإنجليزيَّةِ Free verse أيْ : الشِّعر الحرّ ، أوْ بالأحْرَى : المطْلَق ، وَهُوَ آخِرُ مَا اتَّصلَ إليْهِ الارتقاءُ الشِّعريُّ عِنْدَ الإفرنجِ ، وَبالأخَصِّ عِنْدَ الأمريكيّينَ وَالإنجليزِ ، فَمِلتُن وَشكسبير أطلقَا الشِّعرَ الإنجليزيَّ مِنْ قيودِ القَافيَةِ ، وولت ويتمان الأمريكيُّ أطْلَقَهُ مِنْ قيودِ العَروضِ كَالأوزَانِ الاصْطلاحِيَّةِ العرفيَّةِ ..وَولت ويتمان هُوَ مخترعُ هذِهِ الطَّريقَةِ ، وَحَامِلُ لوائِهَا ، وَقَدْ انْضَمَّ تحتَ لوائِهِ - بعدَ مَوتِهِ - كثيرٌ مِنْ شُعرَاءِ أوربا العَصْريِّينَ ، وَفي الولاياتِ المتَّحدَةِ اليومَ جمعيَّاتٌ " وتمنية "، ينضمُّ إليْهَا فريقٌ كبيرٌ مِنْ الأدباءِ المغالينَ بمحاسِنِ شِعرِهِ الجليلَةِ. " (18)
ولمعروف الرَّصَافي (1885- 1945)- بالإضَافَةِ إلى مجموعَةِ نصوصٍ مِنْ الشِّعرِ المنثورِ - رَأيٌ في طَبيعَةِ الشِّعرِ، يتبدَّى فيْهِ أقْوى الحُججِ على وُجودِ الشِّعرِ المنثُورِ في المفهومِ النَّظريِّ العَامِّ لِلشِّعرِ عِنْدَ العَرَبِ ؛ فَبَعْدَ أنْ يُبيِّنُ أنَّ الشِّعرَ قَدْ يكونُ في المنثُورِ كَمَا يكونُ في المنظومِ وَأنَّ العَرَبَ أكثَرَتْ إطْلاقَ اسْمِ الشِّعرِ على المنظومِ حَتَّى قَالَ المتقدِّمونَ مِنْ أهْلِ الأدَبِ في تعريفِ الشِّعرِ " أنَّهُ كَلامٌ ذُو وَزْنٍ وَقافيَةٍ " ، وَهُوَ تعريفٌ لِلأعمِّ الأغْلَبِ مِنْ الشِّعرِ وَهُوَ الشِّعرُ المنظومُ . نَرَاهُ يَسُوقُ لنَا الحجَجَ على وُجُودِ الشِّعرِ المنثُورِ، في مَفْهُومِ الشِّعرِ عِنْدَ العَرَبِ :
" وَمِنْ الدَّليلِ على أنَّ العَرَبِ لا يخصُّونَ الشِّعرَ بالمنظومِ ، مَا حَكَاهُ لنَا كِتَابُ الله عنْهُمْ مِنْ قولِهِ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وَسَلَّم أنَّهُ شَاعرٌ ؛ إذْ قَالوا في كَلامِ اللهِ تعالى أنَّهُ قولُ شَاعرٍ مَعَ أنَّهُمْ يَرَونَهُ غيرَ مَوْزُونٍ وَلا مُقَفَّى ، وَلمْ يَرُدْ اللهُ عليْهِمْ بأكثرِ مِنْ قولِهِ : وَمَا هُوَ بقولِ شَاعرٍ .
" وَلَوْ كَانَ الشِّعرُ عِنْدَهُم ، خَاصًّا بِذي الوَزْنِ وَالقافيَةِ لَلَزِمَ أنْ يُقالَ لهمْ في الرَدِّ عليْهِمْ : كَيْفَ يكونُ قولَ شَاعرٍ وَهُوَ كَمَا تَرَونَ عَديم الوَزنِ وَالقافيَةِ ؟ .
" وَممَّا يُرْوَى عَنْ الأصْمَعيِّ أنَّهُ قالَ : قُلْتُ لِبشَّار بن بُرد ، إنِّي رأيْتُ رِجَالَ الرَّأي يَتَعَجَّبونَ مِنْ أبياتِكَ في المشُورَةِ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أنَّ المشاوِرَ بينَ إحْدَى الحُسْنَيَينِ ؛ بَيْنَ صَوَابٍ يفوزُ بثمرتِهِ أوْ خَطَأ يُشَاركُ في مَكْرُوهِهِ ؟، فقلتُ له : وَاللهِ أنْتَ في كَلامِكَ هَذَا أشْعَرُ مِنْ أبياتِكَ .
" فَقَدْ جَعَلَ الأصْمَعيُّ وَنَاهِيْكَ بِهِ مِنْ إمامٍ في الأدَبِ كلامَ بشَّار المنثُور شِعرًا ؛ إذْ قَالَ لَهُ: أنْتَ في هَذَا الكَلامِ أشْعَرُ، وَاسْمُ التَّفضيلِ يَقْتَضِي المشَارَكَةَ وَالزِّيادَةَ ؛ فَهَذَا أيْضًا يدلُّ على أنَّهُمْ لا يخُصُّونَ الشِّعرَ بِالمنظومِ ، وَأنَّ الشِّعرَ عِنْدَهُمْ قَدْ يكونُ مَنْثُورًا ".(19)
وَإذَا كَانَتْ (الهلال) قَدْ تبَّنَتْ قَضيَّةَ الشِّعرِ المنثورِ ، وَرَوَّجَتْ لهَا فإنَّ (أبوللو) سَوفَ تحمِلُ قَضيَّةَ الشِّعرِ المنثُورِ- ضِمْنَ قناعَاتها الشِّعريَّةِ - وَتحتفِي بِطروحَاتهَا ، وَيَتَبَدَّى هَذَا بِشَكْلٍ خَاصٍّ في آرَاءِ أحمد زكي أبي شَادي (1892– 1955) ، وَفي نَشْرِهِ قَصَائدَ مَنْثُورَةً لحسين عفيف ولجميلة العلايلي؛ فَقَدْ أوْضَحَ أبو شَادي أنَّ :
" الشِّعرُ ليْسَ الكَلامَ الموْزُونَ المقفَّى ، حَسْبَ التََّعريفِ العَرَبيِّ القديمِ ، وَإنَّمَا الشِّعرُ هُوَ البَيَانُ لعاطِفَةٍ نَفَّاذةٍ إلى مَا خَلْفَ مَظَاهِرِ الحيَاةِ لاسْتكنَاهِ أسْرَارهَا وَللتَّعبيرِ عَنْهَا ، فَإذَا جَاءَ هَذَا البَيَانُ منظومًا فَهُوَ شِعرٌ مَنْظومٌ ، وَإذَا جَاءَ منثورًا فَهُوَ شِعرٌ مَنْثُورٌ ، وَجميْعُ الآدَابِ العالميَّةِ تعترفُ بهذينِ القِسْمَينِ لِلشِّعرِ .
" الشَّاعرُ النَّاضِجُ الشَّاعريَّة ، المتمكِّنُ مِنْ اللغَةِ ، الصَّافي الطَّبع ، لا يجوزُ لنَا أنْ نُلْقِي عليْهِ دروسًا في كيفيَّةِ اسْتِعْمَالِ القَوَافي وَالبحورِ، وَلَهُ مِنْ طَبْعِهِ الشِّعريِّ ، خَيرُ مُلْهِمٍ وَدَليلٍ ، وَإنْ المعاني الشِّعريَّةَ هِيَ الَّتي تَبْحَثُ عَنْ ثوبها اللفظيِّ ، وَليْسَ الثوبُ هُو الَّذي ينبغي أنْ يُسَيطرَ عليْهَا .
" الشِّعرُ المنثورُ نوعٌ مِنْ الشِّعرِ تعترفُ بِهِ جميعُ الأممِ الرَّاقيَةِ لكنْ عَلى مَنْ يَتَصَدَّى لكتابتِهِ أنْ يكونَ عظيمَ الشَّاعريَّةِ. "(20)
كَمَا نجدُ في مُقدِّمةِ دِيوانِ أحمد زكي أبي شَادي :الشَّفق الباكي ؛ الَّتي كَتَبَهَا النَّاشرُ حسن صالح الجداوي تَشْديدًا على أنَّ " وَاضِعَ عِلْمِ العَروضِ : الخليْلَ بن أحمد الفَرَاهيديَّ ، مِنْ عُلمَاءِ القَرْنِ الثَّاني لِلْهِجرَةِ ، لمْ يُحَتِّمْ على النَّاسِ اتِّباعَ آرائِهِ وَاسْتَنْتَاجَاتِهِ عَنْ أسَاليبِ العَرَبِ الجاهليِّينَ بَلْ اعْتَرَفَ بجوازِ المخَالفَةِ له حَتَّى أنَّ بعضَ المقلِّدينَ قالَ لأبي العتاهيَةِ (وَكَانَ مُعاصِرًا للخليْلِ) نَقْداً لِبَعْضِ شِعْرِهِ :" خَرَجْتَ فيْهِ عَنْ العَروضِ" ، فَقَالَ: " سَبَقَتُ أنَا العَروضِ. "(21)
أمَّا حسين عفيف(22)(1902– 1979) ، فَقَدْ عَرَّفَ الشِّعرَ المنثورَ عدَّةَ مَرَّاتٍ ؛ مِنْهَا أنَّهُ :
" يجري وِفْقَ قَوَالب عفويَّةٍ يَصُبُّهَا وَيَسْتَنْفِدُهَا أولاً بأوَّل ، لا يتوخَّى مُوْسِيقى الوَزْنِ ، وَلكنَّهُ يَسْتَمِدُّ نغمتَهُ مِنْ ذَاتِ نَفْسِِهِ ، لا يَشْرَحُ ؛ وَمَعَ ذَلكَ يُوحِي عَبْرَ إيجازِهِ بمعَانٍ لمْ يَقُلْهَا ، لَيْسَ كَشِعْرِ القَصِيدِ ، وَلا كنثرِ المقَالِ ، وَلكنَّهُ أسْلوبٌ ثالِثٌ ، وَمُعَاناتِهِ في أنَّهُ يأبى إلاَّ أنْ يَنْضَبِطَ ، دُونَ الاسْتِعَانةِ بِضَوَابِطََ . " (23)
وَيطرَحُ تَصَوُّرَهُ لِلشِّعرِ المنثُورِ، في مَوْضِعٍ آخَر، بقولِهِ إنَّهُ :
" الشِّعرُ الَّذي يَتَحَرَّرُ مِنْ الأوْزَانِ الموضوعَةِ ، وَلكنْ لا لِيَجْنَحَ إلى الفَوْضَى ، وَإنَّمَا لِيَسِيرَ وِفْقَ أوْزَانٍ مختلِفَةٍ ، يَضَعُهَا الشَّاعرُ عَفْوَ السَّاعَةِ وَمِنْ نَسْجِهِ وَحْدَهُ ، أوْزَانٍ تَتَلاحَقُ في خَاطِرِهِ وَلكنَّهَا لا تَطَّردُ ، غَيْرَ أنَّهَا برغمِ تبايُنِ وِحْدَاتها تَتَسَاوقُ في مجموعِهَا ،وَتُؤلِّفُ مِنْ نَفْسِهَا في النِّهايَةِ هارمونيا وَاحِدَةً ، تِلكَ الَّتي تكونُ مُسَيطِرَةً عليْهِ أثناءَ الكِتَابَةِ .. لهذَا فإنَّ الشِّعرَ المنثُورَ برغْمِ مَا فيْهِ مِنْ انْسِجَامٍ يَتَنزَََّهُ عَنْ عَيْبِ الوتيرَةِ الوَاحِدَةِ ، وَيُشِعُ في أضْوَاءٍ شَتَّى مُتَباينةٍ غَيْرِ مُسْتقرَّةٍ ، مُتَجَدِّدةٍ ، وَمُتلاصِقَةٍ أبدًا.. وَهُوَ بهذَا التَّنوُّعِ وَهَذِهِ الطَّلاقةِ أقْرَبُ أنْوَاعِ الكَلامِ إلى الطَّبيعَةِ ؛ إذْ أنَّ الطَّبيعَةِ قلَّمَا تَعْرِفُ التَّماثُلَ بَيْنَ وَحَدَاتها ، وَإنَّمَا هِيَ تَنْشِدُ التَّآلفَ في مجموعِهَا ، فأنْتَ مثلاً لا تجدُ في الشَّجرَةِ تماثُلاً بينَ أجْزائِها ؛ إذْ قَدْ يَشْرِدُ غُصْنٌ وَيَتَقلَّصُ آخَر، وَيَنْثَني فَرْعٌ وَيَسْتَوي فَرْعٌ ، وَلكنَّهَا في مجموعِهَا تبدو مُتآلِفَةً مُتَعَانِقَةً تنتهي إلى مَعْنى مِنْ التَّسَاوقِ يرتاحُ إليْهِ الذَّوقُ السَّليمُ. " (24)
وَحسين عفيف هُنَا يُركِّزُ على جُوانيَّةِ هَذِهِ الموسِيقا ، وَضَرورَةِ التَّوغُّلِ في أجْوَاءِ التَّجربَةِ وَالإصْغَاءِ إلى إيقاعَاتهَا الخفيَّةِ ؛ فَهُوَ يَطْرَحُ مُوسِيقا التِّكرارِ الخارجيَّةِ المحسوبَةِ بدقَّةٍ سَعْيًا إلى موسيقا أُخرى ، يَسْتَمِدُّهَا مِنْ طبيعَةِ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ ذَاتها ، وَهِيَ مُوسِيقا أبْعَد مَنَالاً مِنْ سَابقتِهَا وَكثيرًا مَا يَضِلُّ الشَّاعرُ أوْتارَهَا ، إذَا هُوَ لمْ يَنْدَمِجْ في فِكْرتِهِ أوْ لمْ يَكُنْ عَبقريًّا ."(25)
وَبعِيداً عَنْ تجمُّعِ أبوللو ظَلَّ لِقَصِيدَةِ الشِّعرِ المنثُورِ حُضورُهَا الجليُّ ، في المشْهَدِ الشِّعريِّ ؛ حَيْثُ نجدُ لويس عوض (1914-1990) يُضمِّنُ دِيوانَهُ :بلوتولاند ، نَصَّينِ ؛ حَدَّدَهُمَا في المقدِّمَةِ - الَّتي جَاءَتْ في شَكْلِ بَيَانٍ تَبْشِيريٍّ ، عَنْوَنَهُ بـ(حطِّموا عَمودَ الشِّعرِ)- باعْتِبَارِهمَا مِنْ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَجَاءَا في إطَارٍ يحتشِدُ بالإحَالاتِ المعرفيَّةِ ، ليْسَ مُرَاعَاةً لـ" وِحْدَةِ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ ، لكنْ وِحْدَةَ المعرفةِ الإنسَانيَّة "(26)، وَيُوضِّحُ أنَّهُ - في الشِّعرِ المنثُورِ- لمْ يتأثرْ بوالت وايتمان مُبْدِع الشِّعرِ المنثُورِ ، وَإنَّما بإليوت ، وأنَّ فَهْمَ هَذَا الشِّعرَ يحتاجُ إلى أُذُنٍ تَرْتَاحُ إلى مَازوركاتِ شُوبان الرَّقيقَةِ وَعَجَلاتِ القِطارِ الغَليظَةِ ، وَتَرْبطُ مَا بَيْنَ أنغامِ الوجودِ مَهْمَا اخْتَلفَتْ مَصَادِرُهَا ، وَرَأى لويس عوض أنَّه سَوْفَ يفهمُ هَذَا الشِّعرَ ، مَنْ يَرَى مَظَاهرَ الشِّعرِ في الوجودِ ، وَليْسَ فى النَّغمِ البربريِّ الرَّتيبِ ؛ الَّذي يُفْجِعُ آذَانَ المتحضِّرينَ ، ويجمعُ الهمجَ ؛ لِيرقُصُوا حَوْلَ النَّارِ ."(27)
أمَّا مارون عبُّود (1886-1962) فَقَدْ رَصَدَ حَرَكَةَ الشِّعرِ المنثُورِ في المشْهَدِ الشِّعريِّ ، وَحَدَّدَهُ ،وَحَدَّدَ الموقِفَ منْهُ بقولِهِ: " الشِّعرُ المنثُورُ بناءٌ بلا زَوَايا، فيْهِ جمالٌ مُطْلَقٌ ، لَهُ أعْدَاءُ الدَّاءِ حَيْثُ وُجِدَ ، فَعَدُّوهُ لعبةً يَتَلهَّى بها المقصِّرونَ عنْ الشِّعرِ (الرَّسميِّ) ، وَلَهُ أحبابٌ أوفيَاءٌ يَرَونَ فيْهِ مُتعَةً لا تُرَى في الشِّعرِ المقيَّدِ ."(28)
هَذِهِ المقولاتُ المتواليةُ - وَسِوَاهَا - وَاكَبَتْ تجربَةَ الشِّعرِ المنثُورِ مُنذُ بدايةِ تجلِّياتها الأولى ، وَشَكَّلتْ الإطارَ النَّظريَّ المؤسِّسِ لِشِعرِ النَّثرِ ، وَهُوَ مَا جَسَّدَ تدريجيًّا- أفُقًا جماليًّا مُغَايرًا ، وَبِكْرًا، لِلشِّعريَّةِ العَربيَّة ، يَتَّسِمُ بالحريَّةِ وَالتَّدفُّقِ ، وَقَدْ تجلَّى هَذَا بقوَّةٍ في نماذجَ أنْجِزَتْ ، على مِسَاحَةِ نِصْفِ قرنٍ ؛ تَبْدَأُ مِنْ العِقْدِ الأخيرِ مِنْ القَرْنِ التَّاسِع عَشَرَ وَحَتَّى أرْبعِينيَّاتِ القَرْنِ العِشْريْنَ ، وَهِيَ الفترةُ الَّتي شَهَدَتْ تَوَهُّجَ حَرَكَةِ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَاسْتِقْرَارِهَا في فَضَاءِ الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، مُؤسِّسةً مَشْروعَ الشِّعرِ نثرًا ، لِلمَرَّةِ الأولى في مَشْهَدِ الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، في خِطَابٍ شِعْريٍّ جَديدٍ ، تَتَوَاشَجُ فيْهِ عَنَاصِرُ(شِعْر)يَّةٌ وَأخْرى (نَثْرِ)يَّةٌ ؛ لِتَشْكِيْلِ هَذَا النَّوعِ الشِّعريِّ الجديدِ .

الرِّيادَةُ في الشِّعرِ المَنْثُورِ
يَلْحَظُ الباحِثُ في تاريخِ الأدَبِ العَربيِّ ، وَلعًا وَاضِحًا لَدَى مُؤرِّخِي الأدَبِ : القُدَامَى وَالمُحدثِينَ بِالوُقوفِ على البِدَايَاتِ ؛ فَيَتَحَدَّثونَ عَنْ أوَّلِ مَنْ نَطَقَ بِالعَربيَّةِ المُبِيْنَةِ ، وَأوَّلِ مَنْ نَطَقَ بِالشِّعرِ ، وَأوَّلِ مَنْ قَصَّدَ القَصَائِدَ ، وَأوَّلِ مَنْ وَقَفَ على الأطْلالِ ، وَأوَّلِ مَنْ اسَتَهَلَّ قَصِيدَتَهُ بِالتَّشبيْبِ بِالنِّسَاءِ ، وَأوَّلِ مَنْ تَكَسَّبَ بِالشِّعرِ، وَأوَّل مَنْ بَدَأ شِعْرَ التَّفعيلَةِ ، وَأوَّلَ مَنْ كَتَبَ الشِّعرَ بِنَثْرٍ ، وَالوَاقِعُ أنَّهُ لا يُمْكِنُ لأحَدٍ أنْ يُجْزِمَ مَنْ أوَّلُ شَاعرٍ خَرَجَ على الأوْزَانِ ، وَكَتَبَ الشِّعرَ بالنَّثرِ ؛ فَمَسِيرَةُ الشِّعرِ العَرَبيِّ لا تَعْرِفُ هَذِهِ الأحْكَامَ القَاطِعَةَ ،" لأنَّ الشِّعرَ هُوَ نَتِيْجَةُ تَرَاكُمَاتٍ تاريخيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ وَحَضَاريَّةٍ لا تَتَوَقَّفُ "(29) وَحَرَكَاتُ الكَشْف الكُبْرَى في التَّاريخِ لَيْسَتْ مجرَّدَ مُغَامَرَاتِ أفْرَادٍ مُغَامِريْنَ ، وَإنَّمَا هِيَ تعبيرٌ عَنْ قَلقٍ جُغْرَافيٍّ وَإنْسَانيٍّ كبيرٍ ، تُصِيْبُ بَعْضَ المجتَمَعَاتِ في أزْمِنَةِ التَّحوُّلاتِ الكُبْرَى" (30)، وَتَحَقُّقُ هَذِهِ الشُّروطِ هُوَ مَا يجعلُ النَّصَّ نِتَاجَ مَرْحَلةٍ يُشَاركُ في صِيَاغَتِهَا وَيُرْسِي مَعَالمهَا عَديدُونَ .
وَأقْدَمُ مَا بَيْنَ أيدِينَا مِنْ نُصوصٍ قُدَّمتْ تحتَ مُصْطَلَحِ الشِّعرِ المنثُورِ، هُوَ نَصُّ: "التَّقوى"، لِنقولا فيَّاض (1873- 1958) ، الَّذي كَتَبَهُ سَنَةَ 1890.(31 )
وَلكنَّ ميخائيل نُعيمه - في مُقدِّمتِهِ لِلْمَجموعَةِ الكامِلَةِ لمؤلَّفاتِ جُبْرَان خليْل جُبْرَان العَربيَّةِ - يُشِيرُ إلى رِيَادَةِ جُبْرَان في الشِّعرِ المنثُورِ ؛ حَيْنَ يقولُ أنَّهُ " بَيْنَ 1903 و 1908 أخَذَ يَنْشُرُ في جَريدَةِ المُهَاجرِ ، مَقَالاتٌ مِنْ الشِّعرِ المنثُورِ، تحتَ عنوانِ: " دَمْعَة وَابْتِسَامَة " ، وَهَذِهِ المقَالاتُ هِيَ الَّتي جمِعَتْ في عَامِ 1914 ، وَنُشِرَتْ في كِتَابٍ بعَينِ العُنوَانِ ." (32)
بَيْنَمَا يَرَى البَعْضُ أنَّ خليْلَ مُطْرَان (1872- 1949) هُوَ الَّذي بَدَأ " باصْطِلاحِ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَكَتَبَ بمضَمْونِهَ(33) ، حِيْنَما كَتَبَ نَصَّهُ:(شِعْرٌ مَنْثُورٌ- كَلِمَاتُ أسَفٍ)(34) ، في تأبينِ الأدِيبِ إبراهيم اليَازجيِّ ، المتوفَّى يوم 28/12/1906 .
لكِنَّ الَّذي عليْهِ إجماعُ الدَّارسِينَ ، أنَّ رِيَادَةَ الشِّعرِ المنثُورِ، تعودُ إلى أمين الرِّيحاني ، بتجربتِهِ:(الحيَاةُ وَالموتُ أوْ الطَّبيعَة في لبنان) ، الَّتي نَشَرَهَا في مجلَّةِ (الهلال)، في الأوَّلِ مِنْ أكتوبر(تشرين أول)1905، بمقدِّمةٍ لجورجي زيدان ؛ عَرَّفَ فيْهَا بِالشِّعرِ المنثُورِ، وَشَدَّدَ فيْهَا على دَورِ الرِّيحاني ، في إدْخَالِ الشِّعرِ المنثُورِ إلى العَربيَّةِ .
يقولُ مارون عبُّود:" الرِّيحاني أبو الشِّعرِ المنثُورِ في الأدَبِ العَربيِّ ، وَهُوَ الَّذي مَهَّدَ الطَّريقَ لجبْرَان وَعَبَّدَهَا، وَلكِنَّ جُبْران طَارَ بهذَا الأسْلوبِ على أجْنِحَةِ رياحِ الفَنِّ وَالإلهَامِ ، وَلمْ يَقَعْ إلاَّ على الذُّرَى"(35) ،وَتَقُولُ سَلمى الخضْراء الجيوسِي :" إنَّ مُؤرِّخِي الأدَبِ يَتَّفِقُونَ على أنَّ أمين الرِّيحاني أوَّلُ مَنْ كَتَبَ الشِّعرَ المنثُورَ؛ لِذلكَ أُطْلِقَ عليْهِ لَقَبُ "أبي الشِّعرِ المنثُورِ"(36)، وَيَتَّفقُ مَعَ مارون عبُّود وَسَلمى الخضْراء الجيوسِي كُلٌّ مِنْ : منير الحسَامي(37)، وَأنيس الخُوري المقْدِسِي(38)، وَمحمَّد عبد المنعم خفاجِي(39)، وَنَادِرَة جميل السَّراج(40)، وَعِيْسَى ميخائيل سَابا(41)، وَأمين ألبرت الرِّيحاني .(42)
وَنَقْرَأ للرِّيحاني نَفْسِهِ:
" طَاَلعْتُ المعلَّقَاتِ ، فَحَالَتْ الألفاظُ في أكْثَرِهَا دُونَ المعَاني ، وَطَالَعْتُ دَوَاوينَ الحمَاسَةِ ، فَكُنْتُ أظُنُّني وَأنَا أتنَّقلُ مِنْ دِيوَانٍ إلى آخَرٍ ، أنِّي أُطَالِعُ دِيوَانًا وَاحِدًا تَعَدَّدتْ أسَامِيْهِ ، وَقَرَأتُ ابنَ الفَارضِ فأسِفْتُ على فَلْسَفَةٍ رُوْحِيَّةٍ صُوفيَّةٍ تَتَقَاذفُهَا أمْوَاجُ الألفاظِ وَتجعلُهَا غريقَةَ الجناسِ على الدَّوامِ ، وَفتَّشتُ في الدَّواوينِ العَربيَّةِ عَنْ اسْتِعَارَاتٍ يمتازُ بهَا هَذَا الشَّاعرُ عَنْ أخيْهِ ، وَعَنْ وِجْهَاتٍ لِلنَّظرِ جَديدَةٍ ، وَعَنْ صُوَرٍ في الشِّعرِ تُمثِّلُ مَا وَرَاءَ المحسوسِ وَالمنظومِ فَلَمْ أجِدْ غيرَ التَّقيُّدِ ، وَالتَّبدُّلِ ، وَمَا يُؤْسَفُ لَهُ أيْضًا أنَّ بهذِهِ الدَّواوينِ ، وَلا أسْتَثْني مِنْهَا دِيوان المتَنَبِّي وَلا لزومِيَّاتِ المعريّ ، شَيْئًا مِنْ النَّثرِ المنظُومِ ، وَاسْتَغْوتْني الأوْزَانُ مَرَّةً فَنَظَمْتُ قَصِيدَةً مُكسَّرةً ، أثرْتُ فيْهَا خَوَاطرَ الشُّعرَاءِ المدرسيِّينَ ، وَلمْ يَكُنْ قَصْدِي غير اكْتِشَافِ السَّببِ في عُقْمِ تصوُّرِ الشُّعرَاء وَتَبَذُّلهمْ ، فَتَحَقَّقتُ أنَّ التِزامَ القَافيَةِ الوَاحِدَةِ وَالأوْزَانِ الوَضْعيَّةِ يحولُ غالبًا دُوْنَ البَسْطِ وَالتَّدفُّقِ فَيُضطَرُ الشَّاعرُ أنْ يُلْجِمَ قريحتَهُ لئلاَّ تَعْثَرُ في البيْتِ فَتُكْسَرُ رَأسُهَا ، أوْ يُشَذِّبَ المعاني الجديدَةَ لِتُلائمَ الصِّيغَ القديمةَ أوْ يختارُ أهْوَنَ الأمورِ فَيُجِيئُنَا بالنَّثرِ المنظُومِ ، لِذَلكَ قُلتُ : لا صِيغَ قَديمَة وَلا قَوَافي وَلا أوْزَانَ ، وَبَدَلَ النَّثرِ المنظُومِ جِئْتُ بِالشِّعرِ المنثُورِ ، الَّذي يَشْهَدُ على مَا في لَوْحِ الوجودِ مِنْ مُوحِياتِ المعَاني وَالاسْتِعَارَاتِ وَالأفكارِ الجديدَةِ ، وَإذَا فيْهِ شَيءٌ مِنْ الغُموضِ في بَعْضِ الأحْيَانِ ، فَذَلكَ لأنِّي أرَى في الحيَاةِ مَالا يُرَى مِنْهَا ، وَأسْمَعُ في الأصْوَاتِ القريبَةِ صَدَى أصْوَاتٍ بعيدَةٍ عَنْ الكونِ الظَّاهِرِ ، إنْ هُوَ إلاَّ رَمْزٌ لكونٍ آخَرٍ خَفِيٍّ . "(43)
وَعلى الرَّغمِ مِنْ أنَّ الرِّيحاني كَانَ مَسْبُوقًا- بتجربَةِ نقولا فيَّاض - إلاَّ أنَّ معاني الرِّيادَةِ قَدْ تجسَّدَتْ فيْهِ ، بحقٍّ ؛ فَهُوَ الَّذي قَدَّمَ المفهُومَ ، وَرَعَاهُ ، وَارْتَبَطَتْ بِهِ قَضِيَّةُ الشِّعرِ المنثُورِ، في بِدَايَاتها ، وَأجمعَ مُعَاصِرُوهُ على رِيَادتِهِ ، وَأنَّهُ بدايَةُ الحركَةِ وَرَائدُ التَّيارِ ، مُنْذُ كَتَبَ نَصَّهُ:(الحيَاةُ وَالموتُ ، أوْ الطَّبيعَةُ في لبنان) ؛ فَكَانَ الشَّرَارَةَ ، الأسَاسِيَّةَ لانْطِلاقِ تيَّارِ الشِّعرِ المنثُورِ، وَكَانَتْ تَقْدِمَةُ جورجي زيدان لِلنَّصٍّ إيْذَانًا بِانْطِلاقِ السِّجَالِ حَوْلَ قَضِيَّةِ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَهِيَ التَّقدمَةُ الَّتي جَاءَتْ تحتَ عُنوانِ: (الشِّعر المنثور في اللغَةِ العربيَّةِ) "(44)، وَجَاءَ فيْهَا ، أنَّ " الشِّعر عِنْدَ العَرَبِ الكلام المقفَّى الموْزُون ، فإنْ لمْ يَكُنْ كَذلكَ لا يعدُّونَهُ شِعْرًا ، فَكَأنَّهُمْ عَرَّفُوا الشِّعرَ بلفظِهِ لا بمعنَاهُ ، وَأمَّا الإفرنجُ فَيُعرِّفونَهُ بمعنَاهُ دُونَ لفظِهِ ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مَنْظومٌ وَمَنْثورٌ ، وَالمنظُومُ قَدْ يكونُ موزونًا غيرَ مُقَفَّى ، أوْ مُقَفَّى غيرَ مَوْزُونٍ ، وَإنَّمَا العُمْدَةُ عِنْدَهُمْ على الخيَالِ الشِّعريِّ أوْ المعاني الشِّعريَّةِ " ، ثمَّ انْتَقَلَ زيدان إلى تقديمِ الرِّيحاني ، فَذَكَرَ أنَّهُ " مُوْلعٌ باللغَةِ العَربيَّةِ وَآدابها فأحَبَّ أنْ يُدْخِلَ فيْهَا الشِّعرَ المنثُورَ ، وَهُوَ مِنْ أقْدَرِ شُعَرائِنَا على ذَلكَ ؛ فَبَعَثَ إلينا بِقَصِيدَةٍ يَصِفُ فيْهَا غيَابَ الشَّمسِ بلبنان، في يومٍ مِنْ أيَّامِ الخريفِ، عَبَّرَ عَنْهَا بالحيَاةِ أوْ الموتِ ، نَنْشُرَهَا مِثالاً لهذَا النَّوعِ مِنْ الشِّعرِ ".
وَقَدْ ابْتَدَأ الرِّيحاني نَصَّه على هَذَا النَّحوِ :

الحَيَاةُ وَالمَوْتُ
" أوْ الخَريفُ وَغِيَابُ الشَّمسِ في لبنان"(45)

عَادَتْ أيَّامُ الأمْطارِ وَالعَوَاصِفِ وَالإعْصَارِ ، أيَّامُ الانزوَاءِ في البيتِ حَوْلَ النَّارِ ، أيَّامُ جلودِ الصُّوفِ وَالمَوقدِ وَمَا يَصْحَبُهَا مِنْ القصَصِ وَالأخْبَارِ ، قَدْ تَصَاعَدَتْ الرِّيَاحُ العَجاجَةُ إلى قمَّةِ صنينَ ، فاسْمَعْ صَدَى هبوبهَا في الأوديَةِ، اسْمَعْ حفيفَ الأوْرَاقِ البَاليَةِ الَّتي تتقاذفًهَا في الأهْوَاءِ ،وَاسْمَعْ نَقْرَ الهَوَاءَ على الزُّجَاجِ وَهبوبِهِ فَوْقَ القرميدِ، وَتَنَصَّتْ لِدَويِّهِ بَيْنَ الأشْجَارِ، وَحَوْلَ البيوتِ مِمَّا يُشِيرُ إلى حَادثٍ هائلٍ حَدَثَ في الطَّبيعَةِ .
نَعَمْ إنَّنَا في الخَريفِ أيُّهَا المَرحُونَ في ربيعِ الحَيَاةِ، نَحْنُ في المَرْحَلةِ الأخيرَةِ مِنْ السَّنةِ ، وَمَا العَويلُ المُخِيفُ الَّذي يملأ الجبالَ وَالأدويَةَ وَالبحَارَ إلاَّ بُكاءَ الزَّمَانِ حَوْلَ فِرَاشِ ابْنَتهِ المُشْرفَةِ على المَوْتِ ، على أنَّ السَّكينَةَ - الزَّوَابعَ – الانْحِلالَ – التَّحوُّلَ – كُلُّ هَذه حَسَنةٌ في عَيْنِ
البُلبلِ الَّذي يُغَرِّدُ الآنَ في قَفَصِهِ مَسْرُورًا
تعالَ مَعي، وَمَتِّعْ نَظَرَكَ بهَذَا المَشْهَدِ الهَائلِ الَّذي يدعو إلى الصَّمتِ وَالتَّخشُعِ وَالابتهَالِ، انْظُرْ كَيْفَ يَنْتَشِرُ نبأ المَوْتِ بَيْنَ الأشْجَارِ في ظِلالِ الصُّخورِ فيخرُج مِنْ هَذِهِ أصْوَاتٌ كأنَّهَا طنينُ الأجْرَاسِ ، وَمِنْ تِلكَ ألحانٌ مُحْزنةٌ تَحْسَبُهَا خَارجة ًمِنْ ألفِ أرْغنٍ مَعًا . انْظُرْ كَيْفَ يَتَمَوَّجُ الزَّيتونُ وَعلى أغْصَانِهِ الرّصَاصِيَّةِ نثارٌ فِضْيٌّ كَالنُّجومِ الَّتي تَظْهَرُ بَيْنَ الغيومِ السَّودَاءِ في الليْلةِ الليلاءِ . انْظُرْ كَيْفَ يُلاعِبُ الهَوَاءُ أغْصَانَ الخَرنُوبِ وَالتُّوتِ فينفُخُ فيْهَا رُوحًا حَيَّةً فتَهِيجُ مِنْ لَمْسِهِ فَتَتَمَايَلُ وَتَتَسَانَدُ كَأنَّهَا تَتَدَاعَبُ . انْظُرْ كَيْفَ يَتَوَالى الحُبُّ وَالبُغْضُ، كَيْفَ تَتَضَارَبُ الأغْصَانُ وَتَتَقَاتَلُ فتُحْجِمُ تَارَةً وَتَهْجمُ أخْرَى وَتَقَعُ وَتَقُومُ كَأنَّهَا عَسْكرٌ في سَاحَةِ القتَالِ ، انْظُرْ كَيْفَ تَتَنَاثَرُ منْهَا الأوْرَاقُ ذَاتَ اليميْنِ وَذَاتَ اليَسَارِ فَتَحْملُهَا رُسُلُ الرِّيَاحِ لِتُكِّللَ بهَا السَّنَةَ وَهيَ في حَالِ الاحْتِضَارِ ، وَرَقةٌ بَاليَةٌ مِنْ شَجَرَةٍ مُضْطَربَةٍ تَحْمِلُهَا العَوَاصِفُ إلى حَيْثُ لا نَعْلَمُ ،أهَذِهِ الحَيَاةُ ؟ أهَذَا هُوَ المَوتُ ؟ وَلكِنْ اسْمَعْ
إنَّ البُلبُلَ يُغَرِّدُ في قَفَصِهِ مَسْرُورًا "

وَكَانَ نَشْرُ هَذَا النَّصِّ ، وَتَقْديم زيدان لَهُ ، بِدَايةً لانْطِلاقِ قَضيَّةِ الشِّعرِ المنثُورِ ؛ فَتَتَالَتْ – في(الهلال) - دَعَوَاتٌ التَّأييدِ وَالمسَاجَلَةِ ؛ فَكَتَبَ بولس شحادة ، ثمَّ توفيق إلياس خليل ، وَعَاوَدَ جورجي زيدان الكِتَابَةَ ، ثمَّ انْتَشَرَتْ خَارجَ (الهلالِ) ، في أنحاءٍ عَديدَةٍ .

مُوَاجَهَةُ انْبثاقِ الشِّعرِ المَنْثُورِ
أثَارَتْ ظَاهِرَةُ الشِّعرِ المنثُورِ عَاصِفَةً نقديَّةً مِنْ حَوْلها ؛ فَقَدْ رَفَضَهَا بعضُ مَنْ يُنْظَرُ إليهِمْ ؛ حَاليًا، على أنَّهُمْ مِنْ رُوَّادِ الشِّعرِ المنثُورِ؛ ففي عَامِ 1915 شَنَّ إبراهيم عبد القادر المازنيُّ (1889-1949) - في كِتَابِهِ:(الشِّعرُ : غَايَاتُهُ وَوَسَائِطُهُ) - هُجُومًا شَديدًا على ظَاهِرَةِ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَوَصَفَهَا بأنَّهَا
" مَسْألَةٌ رَكبَ النَّاسُ فيْهَا جَهْلٌ عظيمٌ وَدَخَلَ عَليْهِمْ مِنْهَا خَطأٌ فَاحِشٌ ؛ وَهِيَ: هَلْ يمكِنُ أنْ يَكونَ النَّثرُ شَعرًا ؟ ، فَقَدْ رَأى أكْثَرُ النَّاسِ في هَذَا البَلدِ المنحوسِ ، أنَّ الوَزْنَ ليْسَ ضَروريًّا في الشِّعرِ، وَأنَّ مِنْ الكَلامِ مَا هُوَ شِعرٌ وَليْسَ مَوْزُونًا ، حَتَّى لَقَدْ دَفَعَتْ السَّخَافةُ وَالحمْقُ بَعْضَهُمْ إلى مُعَالجةِ هَذَا البَابَ الجديدَ مِنْ الشِّعرِ، وَهُمْ يحسَبُونَ أنَّهُمْ جَاءُوا بشَيءٍ حَسَنٍ وَابْتَكَرُوا فنًّا جَديدًا..
" إنَّ النَّثرَ قَدْ يكونُ شِعريًّا - أيْ شَبِيْهًا بِالشِّعرِ في تَأثيرِهِ - وَلكنَّهُ ليْسَ بِشِعْرٍ ، وَأنَّهُ قَدْ تَغْلُبُ عليْهِ الرُّوحُ الخياليَّةُ ، وَلكِنْ يُعوزُهُ الجسْمُ الموسيقيُّ ، وَأنَّهُ كَمَا لا تَصْويرَ مِنْ غيرِ ألْوَانٍ ، كَذَلكَ لا شِعْر إلاَّ بِالوَزْنِ ..
" إذَنْْ فَالوَزْنُ ضَروريٌّ في الشِّعرِ، وَليْسَ هُوَ بِالشَّيءِ المصْطَلَحِ عليْهِ وَلكنَّهُ جَوْهَريٌّ لابُدَّ مِنْهُ ، وَإنْ شِئْتَ فَقُلْ هُوَ جُثْمَانُ الشِّعرِ، وَليْسَ يكفِي أنْ تَدْعُوَهُ ثوبًا يخلعُهُ الشَّاعرُ على مَعَانيْهِ ، فتُشِير بِذلكَ إلى أنَّهُ شَيءٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ الشِّعرِ؛ لأنَّ الإنْسَانَ لمْ يخترعْ الوَزْنَ – لاو لا القَافيَةَ - وَلكنَّهُمَا نَشَأَ مِنْهُ ، وَلا شِعْر إلاَّ بهمَا أوْ بِالوَزْنِ على الأقلِّ ..
" وَقَدْ يَكونُ النَّثرُ شِعريًّا جَائِشًا بِالعَوَاطِفِ وَلكنَّهُ ليْسَ شِعْرًا. "(46)
كَذَلكَ شَنَّ مصطفى صادق الرَّافِعِي - الَّذي يَرَى عبد الفتَّاح أبو مدين ، مثلاً - أنَّهُ " أبْدَعَ رَوَائِعَ أدبيَّةٍ في الشِّعرِ المنثُورِ "(47)، وَالَّذي يَضَعُهُ كُلٌّ مِنْ أحمد كمال زكي (1927- 2007)، وَمحمَّد عبد المطَّلب (1937- ) ، وعبد القادر القِط (1916-2002) ، وَكمال نَشْأت (1923- 2010) ، مَعَ الرِّيحاني وَجُبْرَان وَمُطْرَان وَمَيِّ وَغَيْرِهِمْ ، ممَّنْ أبْدَعُوا في الشِّعرِ المنثُورِ (48)- يَكْتُبُ في المقطَفِ ، عَدد يناير1926، مَا يلِي:
" نَشَأَ في أيَّامِنَا مَا يُسَمُّونَهُ الشِّعرَ المنثُورَ ، وَهِيَ تَسْمِيَةٌ تَدُلُّ على جَهْلِ وَاضِعِهَا وَمَنْ يَرْضَاهَا لِنَفْسِهِ ؛ فليْسَ يَضِيْقُ النَّثرُ بالمعاني الشِّعريَّةِ ، وَلا هُوَ خَلا مِنْهَا في تَاريخِ الأدَبِ ، وَلكِنَّ سِرَّ هَذِهِ التَّسمِيَةِ أنَّ الشِّعرَ العربيَّ صِنَاعةٌ مُوسِيقيَّةٌ دَقيقَةٌ يَظْهَرُ فيْهَا الاخْتِلالُ ..وَلا يُوفَّقُ إلى سَبْكِ المعَاني فيْهَا إلاَّ مَنْ أمَدَّهُ اللهُ بأصَحّ طَبْعٍ وَأسْلَم ذَوْقٍ وَأفْصَح بيَانٍ ، فَمِنْ أجْلِ ذَلكَ لا يحتَمِلُ شَيئًا مِنْ سَخَفِ المعَاني ، مَعَ شِيءٍ مِنْ هَذِهِ العِللِ وَأشْبَاهِهَا ، وَتَرَاهُ يُلْقِي بمثْلِ(السُّعدى) مِنْ الفَلَكِ الأعْلَى إلى الحضِيضِ ، لا يُقِيمُ وَزْنًا وَلا يَرْعَى له محلاًّ، وَلا يقبَلُ فيْهِ عُذرًا ، وَلا رُخْصَةً .. فَمَنْ قَالَ الشِّعرَ المنثُورَ، فَاعْلَمْ أنْ مَعْنَاهُ عَجْزُ الكَاتبِ عَنْ الشِّعرِ مِنْ ناحِيَةٍ ، وَادِّعَاؤه مِنْ نَاحِيَةٍ أخْرَى ."(49)

أمَّا الأبُّ لويس شيخو(1859-1927) فَلا يَرَى في الشِّعرِ المنثُورِ، سِوَى زَخَارِفِ السَّطحِ :
" إنَّنَا كثيرًا مَا لقينَا في هَذَا الشِّعرِ المنثُورِ، قِشْرَةً مُزَوَّقةً ليْسَ تحتَهَا لُبَابٌ ، وَرُبَّمَا قَفَزَ صاحبُهَا مِنْ مَعْنى لَطِيْفٍ إلى قَوْلٍ بَذِيءٍ سَخَيْفٍ ، أوْ كَرَّرَ الألفَاظَ دُونَ جَدْوَى ، بَلْ بِتَعَسُّفٍ ظَاهرٍ ، وَمِنْ هَذَا الشَّكلِ كَثيرٌ مِنْ المروِّجِيْنَ لِلشِّعرِ المنثُورِ مِنْ مُصَنَّفاتِ الرِّيحاني وَجُبْرَان وَتَبعتِهِمَا فَلا تَكادُ تجِدُ في كِتَاباتهمْ شَيئًا ممَّا تَصْبُو إليْهِ النَّفسُ في الشِّعرِ الموَزْونِ الحرِّ(..)."(50)

البَحْثُ عَنْ مَرْجعيَّةٍ لِلشِّعرِ المَنْثُورِ
بَدَأتْ رِيَاحُ التَّغييْرِ تهبُّ مِنْ أوَاخِرِ القَرْنِ التَّاسع عَشَرَ لِتَغْييرِ المشْهَدِ الشِّعريِّ العَرَبيِّ ، وَكَانَتْ البِدَايَةُ بعقدِ مُقَارَنَاتٍ بَيْنَ الأدَبِ العَرَبيِّ ، وَالأدَبِ الأفرنجيِّ ، وَمِنْ ذَلكَ مَقَالَةُ نجيب حدَّاد: (مُقَابلَةُ الأدَبِ العَرَبيِّ بِالأفرنجيِّ)، في مجلَّةٍ:(البيَان) ، في عَامِ 1897، وَمَقَالَةُ أحمد أفندي كامِل:(بلاغَةُ العَرَبِ وَالإفرنْجِ) ، في مجلَّةِ:(المقطف) في عَامِ 1900، ثمَّ بَدَأتْ مجلَّةُ(الهلال) في نَشْرِ سِلْسَلةٍ مِنْ المقَالاتِ المتَتَابعَةِ ، في الفَتْرَةِ مَا بَيْنَ بِدَايةِ يوليو1902 إلى يوليو1904، بِعُنوَانِ:(تَاريخُ عِلْمِ الأدَبِ عِنْدَ الإفرنجِ وَالعَرَب)، بِتَوقيعِ: كاتِب فَاضَل ، ثمَّ جُمِعَتْ هَذِهِ المقَالاتُ في كِتَابٍ ، بِالعُنَوانِ نَفْسِهِ ، صَدَرَ عَنْ مَطْبَعَةِ الهلال في عامِ1904، لروحي الخالديِّ (المقدسِيِّ) (1864- 1913) .
ثمَّ بَدَأ جورجي زيدان ، اعْتِبَارًا مِنْ 1905 ، الدَّعوةَ إلى وَضْعِ تَعْريفٍ عَصْريٍّ لِلشِّعرِ العَربيِّ ؛ حَيْثُ رَأى أنَّ تَعْريفَ القُدَمَاءِ هُوَ لِلنَّظمِ لا لِلشِّعرِ، وَأشَارَ إلى تَقْسِيمِ الشِّعرِ عِنْدَ الأوربيِّينَ إلى مَنْظُومٍ وَمَنْثُورٍ، وَهَكَذَا بَدَأتْ المرجِعيَّةُ الغَربيَّةُ ، تَظْهَرُ بقوَّةٍ ، وَبَرَزَ النَّموذَجُ الغَربيُّ مِقْيَاسًا لِتَطْويرِ الشِّعرِ العَرَبيِّ ، وَقَاعِدَةً مِعيَاريَّةً لَهُ .
وَتَبْرزُ المرْجِعيَّةُ الغَربيَّة ، أيْضًا ، عِنْدَ أمين الرِّيحاني ، في تَعْريفِهِ لِلشِّعرِ المنثُورِ ؛ اسْتِنَادًا إلى شَكْلِ الشِّعرِ الحرِّ كَمَا أنجزَهُ وايتمان ، وَيُظْهِرُ الرِّيحاني تَقْديرًا خَاصًّا ، وَتمثُّلاً لِتَجْربَةِ وايتمان ؛ حَيْثُ يُبْدِي طُمُوحَهُ أنْ يَصْنَعَ في شِعْرِنَا مَا صَنَعَهُ وايتمان في الشِّعرِ الأمْريكيِّ ؛ فَالرِّيحاني تَرَكَ النَّموذَجَ العَرَبيَّ لِيرتمِي في فَضَاءِ النَّموذَجِ الغَربيِّ ، وَهُوَ يُرْجِعُ هَذَا إلى رَغْبَتِهِ في إطْلاقِ الشِّعرِ العَرَبيِّ (مِنْ قيودِ العَرُوضِ) ، وَالتَّحرُّرِ مِنْ هَيْمَنَةِ النَّسقِ الثَّابتِ المتكرِّرِ سَعيًا إلى مَا دَعَاهُ(الارْتِقَاءَ الشِّعريَّ) ، وَيَبْرزُ النَّموذَجُ الغَربيُّ ،كَذَلكَ وَرَاءَ تعريفِ أبي شَادِي له ، وَهُوَ مَا رَكَّزَ عليْهِ ، أيْضًا ، محمَّد عبد الغني حسن (1907- 1985) ، في رَصْدِهِ لِتجربَةِ الشِّعرِ المنثُورِ عِنْدَ شُعَرَاءِ المهْجَرِ ؛ حَيْثُ أوْضَحَ أنَّ "رَغْبَةَ شُعَراءِ المهْجَرِ في الانْفِلاتِ مِنْ قيودِ الشِّعرِ قَدْ حَدَتْهُمْ إلى ضَرْبِ الشِّعرِ المنثُورِ ، أوْ النَّثرِ الشِّعريِّ ، وَكِلا الضَّربيْنِ لونٌ مِنْ أثرِ المحاكَاةِ لِلشِّعرِ الغَربيِّ ، وَعَجِيبٌ أنْ يترُكَ شُعرَاءُ المهْجَرِ تقليدَ شِعْرِ آبائِهِمْ لِيقلِّدُوا شِعْرَ الغربيِّينَ في أثْوَابِهِ الجُدُدِ.(51) وَيُركِّزُ كُلُّ مَنْ تَنَاوَلوا الرِّيحاني على تمثُّلِهِ مَسْعَى وايتمان؛ اسْتِنَادًا إلى مَا أعْلَنَهُ الرِّيحاني ذَاتُهُ (52) ، وَمِنْ هَؤلاءِ أدونيس (1930 -) الَّذي يَرَى ، بِدَايةً ، أنَّ " اللقاءَ مَعَ الغَرْبِ على الصَّعيدِ الأدَبيِّ ، وَلَّدَ مَوْقفًا نقديًّا "(53)، وَمِنْ هَذَا الموقِفِ النَّقديِّ دَعْوةُ أمين الرِّيحاني لِلشُّعرَاءِ العَربِ أنْ يُعْنَوا بمَا يُسَمِّيه "الحقائقَ الكونيَّةَ وَالبَشريَّةَ ".. ذَلكَ أنَّ الشِّعرَ العَربيَّ لمْ يعُدْ " في مجمَلِهِ غيرَ أصْدَاءٍ لأصْوَاتِ الشُّعرَاءِ الماضِيةِ وَأشْبَاحٍ لألوانِهِ وَأشْكَالِهِ "(54) ، وَمِنْ هَذَا الموقِفِ كَذلكَ أنَّهُ " لا يمكِنُ التَّعبيرُ عَنْ " مَضْمُونٍ " جَديدٍ "بِشَكْلٍ " قديمٍ ، فَتَغيُّرُ " المضْمُونِ "يَسْتَدْعِي ، إذاً، تَغيُّر " الشَّكلِ ". وَقَدْ اقْتَصَرَتْ الدَّعوةُ إلى تغييرِ الشَّكلِ على مجرَّدِ التَّحررُِّ مِنْ أشْكالِ النَّظمِ التَّقليديَّةِ - وَبخاصَّةٍ التَّحرُّر مِنْ القافيَةِ ، وَتَضَمَّنَ ذَلكَ إمْكَانُ الكِتابَةِ الشِّعريَّةِ بطريقَةٍ جديدَةٍ غيرِ طريقَةِ الوَزْنِ، وَهِيَ مَا سمَّاهَا أمين الرِّيحاني بطريقَةِ "الشِّعرِ الحرِّ الطَّليقِ "..وَهَذِهِ الطَّريقَةُ تَلْتَمِسُ مِقْيَاسَهَا وَمَصْدَرَهَا في الشِّعرِ الأوربيِّ."(55 )
وَهَذَا يَكْشِفُ أنَّ هَذِهِ البِدَايَاتِ مَثَّلَتْ اسْتِبْدَالَ نموذَجٍ بِنَمُوذَجٍ ؛ فَأصْبَحَتْ التَّجربَةُ الغربيَّةُ مِعْيَارًا بديلاً لِلتَّجربَةِ العَربيَّةِ الرَّاسِخَةِ ، كَمَا يُوَضِّحُ أيضًا أنَّ الخروجَ على الشَّكلِ الشِّعريِّ العَربيِّ الرَّاسِخِ جَاءَ نتيجَةً لِلتَّفاعُلِ مَعَ أشْكَالِ الشِّعرِ المخْتَلِفَةِ في اللغَاتِ الأخْرَى ، وَهُوَ مَا أكَّدَتْ عليْهِ سَلْمَى الخضْرَاء الجيوسِي (1928- ) بِقَوْلهَا :" كَانَ الأثرُ النَّاجِمُ عَنْ احْتِكاكِنَا بالثَّقافةِ الغَربيَّةِ حَاسمًا في جميعِ الحرَكَاتِ الَّتي اسْتَهْدَفَتْ تغييرًا جذريًّا في القَصِيدَةِ العَربيَّةِ ؛ فمنذُ مَطْلعِ القَرْنِ رَاحَ الرِّيحاني يُحَدِّثُ العَرَبَ عَنْ إمكانِ كتابَةِ الشِّعرِ بالنَّثرِ وَعَنْ شِعرِ والت وايتمان الَّذي تأثَّرَ بِهِ ."(56)
وَلمْ تَقْتَصِرْ المرجِعيَّةُ الغَربيَّةُ على التَّجَاربِ الشِّعريَّةِ الطَّليعيَّةِ الحديثَةِ ؛ فَهُنَاكَ مَنْ أرْجَعَهَا إلى أقْدَمِ العُصُورِ ، وَمِنْهُمْ محمَّد عبد المنعم خفاجِي (1915- 2006) الَّذي يَرَى أنَّ" الشِّعرَ المنثُورَ " أقْدَمُ مِنْ " الشِّعرِ المنظُومِ " في مختلَفِ اللغَاتِ ، وَأمْثَالُهُ كثيرَةٌ في الآدَابِ السُّومريَّةِ وَالبَابليَّةِ وَالمصْريَّةِ القديمةِ وَغَيْرِهَا ."(57)
وَمِنْهُمْ كَذَلكَ حُسين عفيف ، الَّذي يُرْجِعُ بدايَاتِ " الشِّعرِ المنثُورِ إلى لغَةِ الكُتُبِ السَّماويَّةِ وَطَلاقَتِهَا وَمُوسِيقَاهَا الَّتي لا تخضَعُ لقافيَةٍ أوْ وَزْنٍ ، وَيَرَى أنَّ " مَزَاميرَ دَاود وَنشِيدَ الإنْشَادِ لِسُليمانَ همَا أقْدَمُ شِعْرٍ غنائيٍّ بِاعْتِرَافِ دَائرَةِ المعَارفِ البريطانيَّةِ ، وَهمَا مِنْ الشِّعرِ المنثُورِ"(58)، وَلِيُؤكِّدَ حُسين عفيف مَوْقِفَهُ يُضِِيْفُ :" الشِّعرُ أسْبَقُ مِنْ الأوْزَانِ ، لأنَّ الأوْزَانَ مِنْ صُنْعِ البَشَرِ في حِيْنِ أنَّ الشِّعرَ وُجِدَ مَعَ الحيَاةِ ، وَمَادَامَ الشِّعرُ قَدْ اسْتَطَاعَ فيْمَا مَضَى أنْ يعيشَ حِينًا مِنْ غيرِ أوْزَانٍ ، فَهُوَ بعدَ أنْ وُجِدَتْ يَسْتَطيعُ أنْ يَعِيشَ بدونها(59)، غَيْرَ أنَّهُ مِنْ الملاحَظِ أنَّ الرَّأي الَّذي يُعِّبرُ عَنْهُ كُلٌّ مِنْ محمَّد عبد المنعم خفاجِي وَحُسَين عفيف يَتَّسِمُ بالعُمومِيَّةِ وَالاتِّسَاعِ ، وَهُوَ مَا يَتَخَطَّى مَفْهُومَ الشِّعرِ المنثُورِ- الَّذي تحقَّقَ في مَطَالعِ القَرْنِ العِشْرينَ - إلى خَصِيْصَةِ الشِّعريَّةِ ؛ بدليْلِ أنَّه لا يُوجَدُ نتاجٌ يحمِلُ الخصَائِصَ النَّوعيَّةَ لِلشِّعرِ المنثُورِ ، فيْمَا بَيْنَ ذَلكَ التُّرَاثِ التَّليدِ المشَارِ إليْهِ ، وَمَا أرْسَاهُ مُبْدِعو الشِّعرِ المنثُورِ ، في بِدَايَاتِ القَرْنِ العِشْريْنَ بكثَافةٍ : شِعرًا وَتَنْظِيرًا .

مَرجعيَّةُ الأدَاءِ الشِّعريِّ في قَصَائدِ الشِّعر المَنْثُورِ الرَّائدَةِ
لَقَدْ كَانْ للاطِّلاعِ على تجربَةِ الشَّاعرِ الأمريكيِّ والت وايتمان(1819-1892): أوْرَاق العُشْب ؛ الَّتي أصْدَرَهَا فى عام 1855، وَأثْبَتَ فيْهَا إمكانيَّةَ إنجازِ شِعرٍ مُتحرِّرٍ مِنْ الأوْزَانِ وَالقَوَافي ، أثَرهَا العَمِيق في تحفيْزِ قُدَرَاتِ الرِّيحاني، ثمَّ جُبْرَان، إلى إيجادِ شَكْلٍ مُوَازٍ لمَا ابْتَدَعَهُ وايتمان ، في الأدَبِ العَرَبيِّ ، وَفي سَبيلِ البَحْثِ عَنْ لغَةٍ مُلائِمَةٍ بَرَزَتْ مَسَارَاتٌ ثَلاثَةٌ :-
- أوَّلهَا يعودُ إلى يَنَابيعِ النَّثرِ الفَنيِّ العَرَبيِّ وَيمزجُهُ بآليَّاتٍ رُومَانسِيَّةٍ مَسِيحيَّةٍ .
- وَثَانيْهَا يعودُ إلى يَنَابيعِ التَّعبيْرِ القُرآنيِّ ، مُسْتَلْهِمًا إيقاعَاتِهِ وَتَرَاكيبَهُ وَبَلاغَتَهُ .
- وَثَالثُهَا يعودُ إلى طَرائِقِ الأدَاءِ في الكِتَابِ المقَدَّسِ مُسْتَمَدًّا منْهُ الرُّوحانيَّةَ وَالتَّدفُّقَ ، وَآليَاتِهِ التَّعبيريَّةَ .

المَسَارُ الأوَّلُ :
يُجَسِّدُهُ نَصُّ : التَّقوى ، لنقولا فيَّاض ، وَيَنْهَضُ الأدَاءُ ، فيْهِ ، على اسْتِغْلالِ طَاقَاتِ السَّجعِ وَالازْدوَاجِ ، وَتِكرَارِ بَعْضِ الصِّيغِ وَالأبنيَةِ الصَّرفيَّةِ ، وَيَعْتَمِدُ مِنْ ناحيَةِ الشَّكلِ على آليَّاتِ النَّثرِ الفَنيِّ ، وَمِنْ ناحيَةِ مَنْهَجِ الأدَاءِ وَطَبِيْعَتِهِ على " أسْلُوبٍ مَسِيْحِيٍّ وَاضِحٍ ، مُتَأثرًا بِالرُّومانتيكيَّةِ الفَرَنْسِيَّةِ ، فكلُّ سَطْرٍ ، أوْ كلُّ فقْرَةٍ ،كُتِبَتْ مُسْتَقِلَّةً عَنْ الأخْرَى.(60)
وَمِنْ هَذَا النَّصِّ نقرأُ:
" السَّلامُ عليْكِ أيَّتُهَا الحَسْنَاءُ الزَّاهيَةُ المُتَهَاديَةُ في مَطَارفِ الجَلالِ المُتَوََّجَة بإكليْلِ الكَمَالِ
الظَّاهِرَةُ لا مِنْ القُصُور البَارزَةُ لا مِنْ الخدُور
المُقْبلةُ نَحْوَنا لا كالمُهَى الطَّالعَةُ عليْنَا لا كالسُّهَى
مَا أجْمَلَ مُحَيَّاكِ وَأطيَبَ رَيَّاكِ وَألطفَ حُميَّاكِ ".

المَسَارُ الثَّاني :
يَتَمَثَّلُ في عَوْدَةِ الرِّيحاني إلى لُغَةِ القُرْآنِ الكريمِ ، وَإلى إيقَاعَاتِ سورِهِ المكيَّةِ ؛ الَّتي اعْتَمَدَتْ على جملٍ صَغيرَةٍ ، مُتَوَازنَةٍ ، مُقفَّاةٍ ، وَتَنَاصَتْ تجربتُهُ أحْيَانًا مَعَ آياتٍ قُرآنيَّةٍ ، وَكَأنَّ الرِّيحاني قَدْ وَجَدَ في هَذَا المنبعِ الخصِيْبِ المُحْكَمِ أوْفقَ أدَاءٍ لطبيعَةِ تجاربِهِ - وَيُلاحِظُ المتأمِّلُ شِعرَ الرِّيحاني المنثُورَ فيْمَا بَيْنَ (1907-1910)(61) احْتَذَاءَهُ لإيقاعَاتِ وَأسَاليْبِ القُرَآنِ الكريمِ ؛ فَقَدْ كَانَ الرِّيحاني يميلُ إلى الإيقَاعِ الصُّلبِ المحْكَمِِ الَّذي يتلاءَمُ مَعَ طبيعَةِ تجاربِهِ الحادَّةِ ، وَلمْ يَكُنْ الرِّيحاني يميْلُ إلى النَّثرِ الوجدانيِّ المتدفِّقِ البَسِيْطِ ، بَلْ كَانَ " مِنْ أعْنَفِ خُصُومِ الرُّومَانتيكيَّةِ وَالأسْلُوبِ الرُّومانتيكيِّ"(62)، وَظَهَرَ حِرْصُهُ على تحقيْقِ التَّوازي بَيْنَ الجمَلِ المقفَّاةِ ، وَتَوَازي البُنَى الصَّرفيَّةِ وَالصِّيغِ النَّحويَّةِ ، وَتِكرَارِ بَعْضِ الوَحَدَاتِ، وَبَعْضِ الأسَاليبِ ، وَلمْ يَسْتَفِدْ الرِّيحاني مِنْ أنظمَةِ الأسْلوبِ القُرآنيِّ فَقَط ، بَلْ مِنْ شَكْلِ القَصِيدَةِ العَرَبيَّةِ . وَيبدُو ذَلكَ في نَصِّ :الثَّورَةِ ؛ الَّذي منْهُ :
هِي الثَّورَةُ وَيومُهَا العَبُوسُ الرَّهيْبْ
ألويةٌ كالشَّقيْقِ تموجُ تُثيرُ البعيـدَ تثيْرُ القريْبْ
وطبولٌ تُردِّدُ صَدَى نشيدٍ عَجيْبْ
وَأبْوَاقٌ تُنادي كلَّ سميـْعٍ مجيْبْ
وَشَرَرُ عيونِ القَوْمِ يَرْمي باللهيْبْ
وَنَارٌ تَسْألُ هَلْ مِنْ مَزيدْ؟ وَسَيْفٌ يُجيْبُ وَهْـولٌ يُشِيْبْ
وَيْـلٌ يومئـذٍ للظَّالميـْنْ وَيْلٌ لهُمْ مِنْ كلِّ مَريْدٍ مَهيـنْ
طَلاَّبٍ للحَقِّ عنيْدٍ مَديـنْ وَيْلٌ لِلمُسْتعزِّيْنَ وَالمُسْتأمِنيْنْ
هيَ سَاعةٌ للظَّالمينْ
هيَ الثَّورَةُ وَأبناؤهَا الحُفَاةُ وَصِبْيَانُهَا المُسْتَرْجلونَ العُتَاةُ
وَرِجَالُهَا الأشُـدَّاءُ الأبـَاةُ وَنِســَـاؤهَا المُتَنمـِّـرَاتُ
وُخَطبَاؤهَا وَخَطيبَاتُهَا الفَصِيْحَاتُ وَزُعمَاؤهَا وَزَعيماتُهَا المُتَمَرِّدَاتُ
وَيْلٌ يومئذٍ للظَّالمينْ
أنْذَرْتُهمْ بأغـْلالٍ وَسِعيـرْ بقنابلَ تفجَّرُ وَيومٍ عَسِيرْ
يومَ لا يُنْهَونَ وَلا يُأمَرُونْ وَلا يُطَلَقونَ فيهربــُونْ
وَيْلٌ يومئذٍ للظَّالمينْ (63)
يَقْتَربُ الرِّيحاني اقترابًا وَاضِحًا مِنْ إيقاعيَّةِ النَّظمِ القُرآنيِّ ، في هَذِهِ المرْحَلَةِ ، وَرُبَّمَا كَانَ اقْترابُهُ ناجمًا عَنْ الاقْتِرَابِ المباشِرِ مِنْ جماليَّاتِ النَّصِّ القُرآنيِّ ، أوْ ناتجًا عَنْ اطِّلاعِهِ على تجربَةِ أبي العَلاءِ المعريِّ ، في كِتابِهِ : الفُصُول وَالغَايَات ، أثْنَاء تَرْجمتِهِ له كِتَابيْنِ إلى الإنجليزيَّةِ .

المَسَارُ الثَّالثُ :
يَتَمَثَّلُ في رجوعِ جُبْرَان خليْل جُبْرَان إلى آليَّاتِ الكِتابِ المقَدَّسِ التَّعبيريَّةِ ؛ لِيَسْتَخْلِصَ مِنْهَا أدَوَاتِهِ الَّتي تَنْهَضُ على الانْسِيابيَّةِ ، وَالتَّدفُّقِ الغِنَائيِّ ، وَالتَّوازَنِ بَيْنَ الجُمَلِ ، وَتِكْرَارِ بَعْضِ الجمَلِ وَبَعْضِ الصِّيغِ وَبَعْضِ الأسَاليبِ ؛ الَّتي وَجَدَتْ فيْهَا تجاربُهُ الوجدانيَّةُ خَلاصَهَا ويُلاحِظُ المتأمِّلُ لتجربة الشِّعرِ المنثورِ، عِنْدَ الرِّيحاني وَجُبْرَان أنَّ " جُبْرَان كَانَ أكثرَ مُشَارَكَةً لوايتمان مِنْ الرِّيحاني (64)، وَأنَّ جُبْرَان وَوايتمان اعْتَمَدا على الإيقَاعِ الشَّخصيِّ وَأصَالتِهِ وَصِدْقِهِ "(65)، وَجُبْرَان لمْ يَشْتَرِكْ مَعَ وَايتمان في المفْهُومِ النَّظريِّ للشِّعرِ فَقَطْ ؛ بَلْ تَعَدَّاهُ إلى الاستفادَةِ مِنْ المصْدَرِ نفسِهِ ؛ وَهُوَ الكِتابُ المقَدَّسُ ، وَقَدْ لاحَظَ ميخائيل نُعيمه أنَّ الشِّعرَ المنثُورَ في كِتَابِ جُبْرَان :" دمعة وابتسامة "، يحاولُ في الكثيرِ مِنْ نَبَرَاتِهِ محاكَاةَ مَزَامِيرِ دَاودِ وَنَشِيدِ سُليمانَ وَسِفْرِ أيُّوب وَمَرَاثي أرْمِيَا وَتخيُّلاتِ أشْعِيَا وَعِظَاتِ النَّاصريِّ ، وَلا عَجَبَ فَقَدْ كَانَ للتَّورَاةِ في نَصِيبِهَا العَرَبيِّ وَالإنجليزيِّ أبْعَدَ الأثرِ على الأسْلًوبِ الَّذي اخْتَارَهُ جُبْرَان لِنَفْسِهِ (66)، كَمَا لاحَظَ عبد الكريم الأشتر أنَّ مُبْدِعي الرَّابطَةِ القلميَّةِ العَشَرَةَ ، وَهُمْ مَسِيحيُّونَ كُلُّهُمْ ، قَدْ وَجَدُوا " أنَّ أسْلُوبَ الكِتَابِ المقَدَّسَ المترجَمِ إلى العَربيَّةِ ، هُوَ المثالُ الأدَبيُّ الأوُّلُ " (67)، وَأنَّ " تأثُّرَ جُبْران وَكَانَ رئيسًا لهذِهِ الرَّابطَةِ بأسْفَارِ التَّورَاةِ الشِّعريَّةِ وَاضِحٌ "(68)، وَهَذَا مَا شَدِّدَ عليْهِ موريه أيضًا ،كَمَا أرْجَعَ اهْتِدَاءَ جُبْران إلى شِعريَّةِ الكِتابِ المقَدَّسِ إلى اطِّلاعِهِ على عَمَلِ والت وايتمان ؛ حَيْثُ " اسْتَخْدَمَ وايتمان وَجُبْران تكنيكاتِ الإنجيْلِ الشِّعريَّةِ ، مِثْلَ تَوَازِي الأفْكَارِ وَانْتِظَامِهَا وَتِكْرَارِ العِبَارَاتِ وَتَوَازُنهَا ..وَاسْتَخدَمَ الشَّكلَ المقْطَعِيَّ ، وَاللوَازمَ ، وَأسَاليبِ التَّعَجُّبِ ، وَالكَلِمَاتِ المتتابعَةِ الَّتي تَبْدَأ بحرفٍ وَاحِدٍ ، وَالكَلِمَاتِ المتَشَابهَةِ في حُروفِ العِلَّةِ . وَقَدْ تَوَافَقَ هَذَا الأسْلُوبُ مَعَ حَالاتِ التَّأمُّلِ وَالإحْسَاسِ المتدفِّقِ وَالعَوَاطِفِ الحالمةِ وَالمكتَئِبَةِ " .(69)
وَهَذَا نموذَجٌ مِنْ شِعرِ جُبْران ، ينمُّ عَنْ تأثُّرِهِ بهذِهِ الثَّقافَةِ :
"اسْكُتْ يَا قلبي فالفَضَاءُ لا يَسْمَعُكَ .
اسْكُتْ فالأثيرُ المُثقَلُ بالنُّواحِ وَالعَويلِ لنْ يَحْمِلَ أغانيْكَ وَأناشِيْدَكَ.
اسْكُتْ فأشْبَاحُ الليْلِ لا تَحْفَلُ بهَمْسِِ أسْرَارِِكَ وَمَوَاكبُ الظَّلام لا تقفُ أمَامَ أحْلامِكَ.
اسْكُتْ يَا قلبي ، اسْكُتْ حَتَّى الصَّبَاح ، فمَنْ يَتَرَقَّبُ الصَّبَاحَ صَابرًا يُلاقي الصَّباحَ قويًّا، وَمَنْ يَهْوَى النُّورَ فالنَّورُ يَهْوَاهُ .
اسْكُتْ يَا قلبي وَاسْمَعْني مُتكلِِّمًا.
في الحُلْمِ رَأيتُ شَحْرُورًا يُغِّردُ فَوْقَ فوهةِ بُرْكانٍ ثائرٍ
وَرَأيتُ زَنْبَقةً تَرْفَعُ رَأسَهَا فَوْقَ الثُّلوجِ .
وَرَأيتُ حُوريَّةً عاريةً تَرْقُصُ بَيْنَ القُبورِ .
وَرَأيْتُ طِفلاً يلْعَبُ بالجَمَاجمِ وَهُوَ يَضْحَكُ .
وَرَأيْتُ جَمِيعَ هَذِهِ الصُّورِ في الحُلْمِ ،وَلمَّا اسْتَيْقَظتُ وَنَظَرْتُ حَوْلي
رَأيْتُ البُرْكانَ هَائجًا وَلكنَّني لَمْ أسْمَعْ الشَّحرورَ مُغرِّدًا وَلا رَأيتُهُ مُرَفْرفًا .(70)
يُبِّينُ هَذَا النَّصُّ اعتمادَ جُبْرَان على اللوازِمِ التَّكراريَّةِ ، الَّتي يبدأُ بها جُمَلَهُ الشِّعريَّةَ - لتُشكِّلَ قافيةً مَقْلُوبَةً - وَاعْتِمَادَهُ على التَّراكيبِ المتكرِّرةِ ، وَهُوَ يَسْتَخْدِمُ إيقَاعَ الدَّفقةِ الشُّعوريَّةِ ؛ فَتَطُول السُّطورُ أوْ تَقْصُرُ حَسْبَهَا "، وَتكونُ النَّتيجَةُ : تَرْجمةً كِلاميَّةً لموسِيْقَى الوَزْنِ الكَامِنَةِ في أعْمَاقِ الشَّاعرِ ، وَأمَامَ هَذَا العُنْصرِ الجديدِ المُتمثِّلِ في " الدَّفعَةِ " الخاصَّةِ بالجمَلِ الَّتي لا تخضَعُ إلاَّ لِلْمَشَاعرِ الَّتي تُمْلِيهَا ، تَتَرَاجَعُ العَنَاصِرُ الوَزنيَّةُ التَّقليديَّةُ " (71)، وَهَذَا المنهجُ الإيقاعيُّ يَعْكِسُ انْتِمَاءَ جُبْران إلى إيقَاعِ الدَّاخلِ ؛ حَيْثُ باطِنيَّة التَّجربَةِ النَّابضَةِ ، وَمِنْ الملاحَظِ أنَّ البنيةَ التَّكراريَّةَ - الأثيرَةَ في الشِّعرِ المنثُورِ - عِنْدَ جُبْران ذَات أوَاصِر عَمِيقَةٍ بطَرَائقِ الكِتابِ المقَدَّسِ الإيقاعيَّةِ وَالتَّصويريَّةِ .
فعلى مُسْتَوى الإيقَاعِ ، يَتَوافقُ مَطْلَعُ هَذَا النَّصِّ ، مَعَ مَطْلَعِ الإصْحَاحِ الثَّالثِ وَالثَّلاثينَ ، مِنْ سِفْرِ أيُّوب ؛ الَّذي يُفْتَتَحُ هَكَذَا :
"وَلكِنْ اسْمَعْ الآنَ يَا أيُّوبُ أقْوَالي وَأصْغِ إلى كَلامِي
هَا أنَذَا قَدْ فَتَحْتُ فَمِي ". (72)
وَعَلى مُسْتَوَى التَّصويرِ، نجدُ أنَّ صُورَ جُبْران ، مُتَوَافِقَةٌ مَعَ أجْوَاءِ مَرَاثِي إرميَا ؛ الَّتي يَبْدَأ إصْحَاحُهَا الأوَّلُ بمَا يَلِي :
" كَيْفَ جَلَسَتْ وَحْدَهَا المَدينَةُ الكثيرَةُ الشَّعْبِ ؟
كَيْفَ صَارَتْ كَأرْمَلةٍ العَظيمَةُ في الأمَمِ ؟
السَّيدةُ في البُلدَانِ صَارَتْ تَحْتَ الجِزيَةِِ
تبكي في الليْلِ بُكاءً وَدُمُوعُهَا على خَدَّيهَا
ليْسَ لهَا مُعَزٍّ مِنْ كلِّ مُحِبِّيْهَا .
كلُّ أصْحَابهَا غَدَرُوا بهَا . صَارُوا لهَا أعْدَاءً
طُرُقُ صُهيون نَائِحَةٌ لعَدَمِ الآتيْنَ إلى العيْدِ
كلُّ أبْوَابِهَا خَرِبَةٌ."(37)
غَيْرَ أنَّ جُبْران لمْ يَسْتَفِدْ مِنْ آليَّاتِ الكتابِ المقَدَّسِ وَحْدَهَا ؛ بَلْ تَعَدَّاهَا إلى " رَمْزيَّةِ (نيتشه) و(طاغور) و(بليك)(74)، وَمَزَجَ ذَلكَ بحسِّهِ الفِطريِّ للتَّصويرِ ؛ فإلى جَانِبِ الغنائيَّةِ تُعَدُّ السِّمَةُ الشِّعريَّةُ الأثيرَةُ عِنْدَهُ هِيَ : التَّصوير؛ فَجُبْرَانُ " يُفكِّرُ وَيُحِسُّ مِنْ خِلالِ الصُّورِ وَحْدَهَا . مَا تَكَادُ تَلْمَعُ في رَأسِهِ خَاطِرَةٌ حَتَّى تَشِفَّ عَنْ صُورَةٍ ، وَلا يَتِمُّ انفعالُهُ وَلا يُسْتَنْفَدُ حَتَّى يَتَجَسَّدَ في صُورَةٍ أوْ أكْثَر؛ فَالصُّورَةُ عَمُودُ التَّعبيرِ عِنْدَهُ ، وَتُوشِكُ أنْ تَكونَ غَايتَهُ أيْضًا في كثيرٍ مِنْ الأحيَانِ ، ثمَّ قَدْ لا تَكْفِيْهِ صُورَةِ الفِكْرَةِ أوْ الإحْسَاسِ فيلجَأ إلى تَشْبِيْهِهَا بِصُورَةٍ أخْرَى ، وَمِنْ هُنَا كَثُرَتْ التَّشابيْهُ في كِتَابتِهِ حَتَّى اعْتُبِرَ رسََّامًا أكثرَ منْهُ كاتِباً ".(75)
إنَّ هَذِهِ المسَارَاتِ الثَّلاثةَ مَثَّلَتْ بداياتٍ ثلاثٍ ، وَمُنْطَلَقَاتٍ جَديدَةً مِنْ مَنَاطِقَ قَدِيمةٍ ، وَترتيبُهَا التَّاريخيُّ كَالتَّالي :
نقولا فيَّاض : في عام1890، في دِيوانِهِ :رَفِيْف الأقْحُوَان ؛ الَّذي أصْدَرَ أوَّلَ طبعَةٍ منْهُ عامَ1900 .
أمين الرِّيحاني : في عَامِ 1905، في مجلَّةِ: الهلال .
جُبْران خليْل جُبْران : فيْمَا بَيْنَ (1903-1908) ، في صَحِيفَةِ: المُهَاجرَ .
وَقَدْ اشْتَرَكَتْ هَذِهِ المسَارَاتِ في هَدَفٍ وَاحِدٍ ؛ هُوَ الوُصُولُ إلى أُفقٍ جَديدٍ لِلشِّعرِ ، يكونُ أكْثَرَ مُرونَةً وَحُريَّةً وَطَوَاعيَةً ، وَهَذَا هُوَ مَا فَتَحَ الأبْوَابَ أمَامَ الكَثِيريْنَ الَّذينَ ارْتَادُوا رِحَابَ هَذَا الفَضَاءِ وَسَاحَاتِهِ .

التَّمييزُ بَيْنَ النَّثر الشِّعريِّ وَالشِّعرِ المَنْثُور
عَدَدٌ غيرُ قليْلٍ مِنْ نُقَّادنا(67) دَأبُوا على الخلْطِ بَيْنَ الشِّعرِ المنثُورِ وَالنَّثرِ الشِّعريِّ ؛ فَوَضَعُوا مُطْرَانَ وَالرِّيحاني وَجُبْرَان وَمَيَّ وَحُسَينَ عَفيف (وَهُمْ مِنْ شُعَرَاءِ الشِّعرِ المنثورِ)، جَنْبًا إلى جَنْبٍ مَعَ المنفلوطي وَالرَّافعيِّ وَالزَّياتِ (وَهُمْ مِنْ كُتَّابِ النَّثرِ الشِّعريِّ) ، وَمِنْ الملاحَظِ أنَّ مِنْ بَيْنِ أسْمَاءِ المجموعَةِ الأولى مَنْ جمعَ بَيْنَ النَّوعينِ الإبداعيَّينِ معًا ؛ كَأمين الرِّيحاني وَجُبْرَان وَمَيِّ ، غَيْرَ أنَّ الثَّابتَ أنَّ الشِّعرَ المنثُورَ، نَوْعٌ أدبيٌّ ، وَالنَّثرَ الشِّعريُّ نَوْعٌ أدبيٌّ آخَر ، وَلِكُلٍّ مِنْ النَّوعينِ سماته الخاصَّة وَآليَّاته الأسَاسيَّة ، وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا - على الرَّغمِ مِنْ شَدَّةِ التَّقارُبِ ، وَالتَّقاطُعِ أحْيَانًا - هُوَ فرقٌ نَوْعيٌّ وَكَيْفيٌّ ؛ فَالشِّعرُ المنثُورُ هُو قَبْلَ أيِّ شيءٍ شِعْرٌ ، وَالنَّثرُ الشِّعريُّ هُوَ في الأسَاسِ نَثْرٌ ، وَهمَا يجمعَانِ الخَوَاصَ الشِّعريَّةَ ، وَالخوَاصَ النَّثريَّةَ بدرجاتٍ مُتَفَاوتَةٍ ، وَلكنَّهُمَا يظلاَّنِ نوعيْنِ مُتَحَدِّديْنِ .
وَقَدْ مَيَّزَ محمَّد عبد الغني حسن (1907- 1985) بينهُمَا ، على أسَاسٍ شَكْليٍّ ، فَقَالَ :" قَدْ يكونُ في النَّثرِ الشِّعريِّ مَا في الشِّعرِ مِنْ خَيَالٍ ، وَلكنَّهُ خلو مِنْ قيودِ الوَزْنِ وَالقَافيَةِ ، أمَّا الشِّعرُ النَّثريُّ ففيْهِ القافيَةُ الَّتي تتنوَّعُ مِنْ مَقْطَعٍ إلى آخَرٍ ، وَفيْهِ الخيَالُ الشِّعريُّ بالطَّبعِ وَلكنْ ليسَ فيْهِ ذَلكَ الخضُوعُ للتَّفعيلاتِ "(77) ، وَمِنْ الوَاضِحِ أنَّ نموذجَ الشِّعرِ المنثُورِ عِندَهُ هُوَ مَا أنجزَهُ رَائِدُهُ أمين الرِّيحاني ، في بَعْضِ نُصوصِهِ ، اعْتِمَادًا على الإيقَاعِ الخارجيِّ ، كَمَا في نصِّه: الثَّورَةِ .
أمَّا أنيس الخوري المقدسِيُّ فَقَدْ تَوَسَّعَ شيئًا مَا في تمييزِهِ بينهُمَا ، فَرَأى أنَّ : النَّثرَ الشِّعريَّ أسْلوبٌ مِنْ أسَاليْبِ النَّثرِ، تَغْلُبُ فيْهِ الرُّوحُ الشِّعريَّةُ ، مِنْ قوَّةِ العَاطِفَةِ ، وَبُعْدٍ في الخيَالِ ، وَإيقاعٍ في التَّركيبِ وَتَوفُّرٍ على المجازِ ، وَقَدْ عُرِفَ بِذَلكَ كَثيرونَ ، وَفي مُقدِّمَتِهِمْ جُبْرَان خليْل جُبْران ، حَتَّى صَارُوا يَقُولونَ الطَّريقَةَ الجبرانيَّةَ مِثْل كِتَابيْهِ: العَوَاصِف ، وَالبَدَائع وَالطَّرائِف .
" عَلى أنَّ الشِّعرَ المنثُورَ غَيْرُ هَذَا النَّثرِ الخياليِّ ، وَإنَّمَا هُوَ محاوَلةٌ جَديدَةٌ قَامَ بهَا البَعْضُ مُحَاكَاةً للشِّعرِ الإفرنجيِّ ، وَممنْ فَتَحُوا هَذَا البَابَ أمين الرِّيحاني ، في الجزءِ الثَّاني مِنْ ريحانيَّاتِهِ عَشْرُ قِطَعٍ ، وَفي الجزءِ الرَّابعِ ثلاثَ عَشْرَةَ قِطْعَةً تَلْمَسُ فيْهَا جميعَهَا هَذِهِ النَّزعَةَ إلى النَّظمِ الحرِّ مِنْ قيودِ الأبحرِ العَرُوضيَّة " (87) ، ويُضُيْفُ أنيس " وَقَدْ جَرَى عَدَدٌ مِنْ المحدَثِيْنَ على إحْدَى الطَّريقتَيْنِ : الجبرانيَّة وَالرَّيحانيَّة ، أوْ على الطَّريقتَيْنِ. (79 )
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الكَلامِ أنَّهُ يعني بالطَّريقَةِ الجبرانيَّةِ النَّثرَ الشِّعريَّ ، وَبالطَّريقَةِ الرَّيحانيَّةِ : الشِّعرَ المنثُورَ .
وَمَكْمَنُ الإشْكاليَّةِ هُنَا أنَّ جُبْرَان وَالرِّيحاني كِليْهِمَا مِنْ رُوَّادِ النَّثرِ الشِّعريِّ وَالشِّعرِ المنثُورِ مَعًا ، وَرُبَّمَا لتوفُّرِ النَّثرِ الشّعريِّ في أعْمَالِ جُبْران ، غَلَبَ هَذَا الشَّكلُ عليْهِ بينَمَا أبْرَزُ تجارَبِ الرِّيحاني مِنْ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَلِلْخُروجِ مِنْ هَذَا المأزَقِ يَبْدُو أنَّ الأنْسَبَ تَصْنِيْفُ (الأعْمَالِ) لا(الأشْخَاصِ) .
وَالوَاقِعِ أنَّ الشِّعرَ المنثُورَ نَوْعٌ شِعريٌّ خَرَجَ على التَّشكُّلِ في الشِّعرِ الموْزُونِ ، وَجَسَّدَ حَالاتِهِ الشِّعريَّةَ بحُريَّةٍ تعبيريَّةٍ خَالصَةٍ . أمَّا النَّثرُ الشِّعريُّ فَهُوَ محاوَلَةٌ أخْرَى لمزْجِ النَّثرِ بِالشِّعرِ ، في خِطَابٍ رَوْحَانيٍّ آخَر ، على مَقْرُبَةٍ مِنْ الشِّعرِ المنثُورِ ، وَفي مَسْعَىً يَهْدِفُ في النِّهايةِ إلى مَا يَهْدِفُ إليْهِ الشِّعرُ المنثُورُ ، مَعَ فَارقٍ في الشَّكلِ ؛ ففي الأوَّلِ كَانَ السَّعيُ إلى تحريْرِ الشِّعرِ بالنَّثرِ، وَفي الثَّاني كَانَ السَّعيُ إلي حُريَّةِ النَّثرِ بالشِّعرِ ، وَفي الشِّعرِ المنثُورِ يظلُّ الإيقَاعُ - كَمَا في الشِّعرِ دَائِمًا - هُوَ العُنْصُرُ المهَمْينُ ، وَتَتَآزَرُ مَعَهُ فاعِليَّةُ التَّخييلِ .
وَيجمَعُ بَيْنَ المصْطَلَحَيْنِ اشْتِمَالهمَا على الشِّعرِ وَالنَّثرِ معًا، غَيْرَ أنَّ كُلَّ مُصْطَلَح يُركِّزُ أسَاسًا على خَاصِيَّتِهِ الأجناسِيَّةِ الرَّئيسِيَّةِ في تَقْدِيمهَا على الخَاصِيَّةِ الأخْرَى ؛ فَالشِّعرُ المنثُورُ شِعْرٌ ، وَالنَّثرُ الشِّعريٌّ نثرٌ ، على الرَّغمِ مِنْ جمعِهِمَا بَيْنَ الخاصتينِ وَاشْتِغَالهمَا تحديدًا على الإيقَاع وَالتَّخييلِ .
في الشِّعرِ المنثُورِ تُهَيْمِنُ الخاصيَّةُ الشِّعريَّةُ ، تَتَقَدَّمُهَا السَّليقَةُ الإيقاعيَّةُ ، الَّتي تهيمِنُ على شتَّى آليَّاتِ إنتاجِ شِعريَّةِ الخِطَابِ ؛ فيبرُزُ النَّسَقُ الإيقاعِيُّ المعَادِلُ لحرَكَاتِ التَّجربَةِ ، وَيَتَرَتَّبُ على اتِّسَاقِ حَرَكَةِ الإيْقَاعِ بنَاءُ العِبَارَةِ الشِّعريَّةِ بنَاءًا مُلائِمًا لهَذَهِ الحرَكَةِ ، وَبُروز دَرَجَةِ الغنائيَّةِ ، وَهُوَ مَا يَتَمَثَّلُ في تَعَدُّدِ التِّكرَارَاتِ وَالتَّوَازَيَاتِ وَفَاعِليَّةِ التَّخييْلِ وَجُلوَةِ التَّصويرِ وَتكثِيْفِ الحالَةِ الشِّعريَّةِ .
فَالشِّعرُ المنثُورُ شِعْرٌ في شَكْلٍ مَنْثُورٍ ، شِعْرٌ مَنْعُوتُُ بالنَّثرِ ، لأنَّهُ مَادَّتُهُ وَخَامتُهُ وَلِلتَّشديْدِ على هَجْرِهِ عُنْصرَ الوَزْنِ الخليليِّ ؛ انْطِلاقًا مِنْ أنَّ الشِّعرَ جِنْسٌ ، وَلَهُ فَرْعَانِ: مَوْزُونٌ وَمَنْثُورٌ ، وَكِلاهمَا يَتَدَفَّقُ في فَضَاءٍ مُشْتَرَكٍ كبيرٍ هُوَ : الأفُقُ الإيقاعيُّ الزَّاخرُ ، وَبَيْنَمَا يَعْتَمِدُ الموزونُ على الإطَارِ الإيقاعِيِّ التِّكراريِّ العَدَدِيِّ َالمقنَّنِ ، يَعْتَمِدُ المنثُورُ على الإطَارِ النَّبريِّ الحرِّ ، فَالشِّعرُ المنثورُ إذًا، كِيَانٌ شِعريٌّ يجسِّدُ مَقْلُوبَ الشَّكلِ النَّظميِّ المتَعَارَفِ عليْهِ اصْطِلاحًا بـ(النَّثرِ الموزُونِ) ، هُوَ، إذًا ، في الأسَاسِ ، شِعرٌ ، وَالوَعْيُ بإنتَاجِ هَذَا الشَّكلِ الشِّعريِّ هُوَ وَعْيٌ بإنْشَاءِ نَوْعٍ شِعريٍّ في المقَامِ الأوَّلِ . أمَّا النَّثرُ الشِّعريُّ فَهُوَ نثرٌ ، في المقَامِ الأوَّلِ ، مَنْعُوتٌ بالشِّعرِ ، نَثْرٌ مُكْتَنِزٌ بحالاتٍ شِعريَّةٍ ، وَمُنَاخَاتٍ شِعريَّةٍ محلولَةٍ في مَادةِ النَّثرِ وَباسْتِخْدَامَاتٍ شِعريَّةٍ لخامةِ النَّثرِ ، وَخَاصيَّةُ السَّردِ في النَّثرِ الشِّعريِّ لا تخضَعُ لذلكَ الانْضِبَاطِ الإيقاعيِّ الَّذي نَرَاهُ في الشِّعرِ المنثُورِ ، وَالَّذي يَتَحَكَّمُ في بقيَّةِ المكوِّنَاتِ النَّصيَّةِ ، سَيَكُونُ من الخَطَأ إذًا أنْ يَتَصَوَّرَ البَعْضُ أنَّ الشِّعرَ المنثُورَ وَالنَّثرَ الشِّعريَّ ، وَجْهانِ لجنسٍ إبداعيٍّ وَاحِدٍ ، مِثْلَمَا رَأى إبراهيم حمادة أنَّ تسميَةَ الشِّعرِ المنثورِ مَقْلُوبَةٌ وَصِحَّتُهَا النثَّرُ الشَّعريُّ ، وَالقَضِيَّةُ هُنَا لَيْسَتْ إزَاحَةَ المصْطَلَحِ وَإحْلالِ مُصْطَلَحٍ ؛ إنْ هِيَ إلاَّ إزَاحَة جِنْسِيَّةِ الشِّعرِ ، عَنْ هَذَا الشِّعرِ ، يقول إبراهيم حمادة:
" ظَهَرَتْ - في أوائِلِ قَرْنِنَا الحالي - مَوْجَة ُالشِّعرِ المنثُورِ، وَكَانَ هَذَا الشِّعرُ كلامًا جميلاً مُقَنَّنًا ، خَاليًا مِنْ الوَزْنِ ، وَتأتِيْهِ السَّجعَةُ عَفْوًا ، وَلكنَّهُ يَزْخَرُ بتيَّارٍ من العاطفيَّةِ الدَّافقَةِ ، وَالكلمَاتِ الرَّقيقَةِ ، وَالصُّورِ العَذْبَةِ ، وَالخيَالِ الشِّعريِّ المُجنَّحِ ، وَكَانَتْ أسطر المقطوعة - من هذا اللون النَّثريِّ ترُصُّ على الجانِبِ الأيمنِ مِنْ الصَّفحَةِ ، على نحوٍ يُناظِرُ القَصِيدَةِ مِنْ الشِّعرِ الجديْدِ ، وَالملاحَظُ أنَّ تَسْمِيتَهُ بالشِّعرِ المنثُورِ تَسْميَةٌ صَادقةٌ وَمَشْروعَةٌ إذْ تحاشَتْ كَلِمَةَ " القَصِيدَةِ "، وَلجأتْ إلى كَلِمَةِ " الشِّعرِ" (بمعنَاهَا العَام) ، ثمَّ عَاجَلتْهَا بِصِفتِهَا الخصُوصيَّةِ الشَّخصيَّةِ وَهِيَ النَّثر، وَكَأنَّ التَّسميَةَ بهذَا مَقْلُوبَةٌ، وَصِحَّتُهَا النَّثرُ الشِّعريُّ ."(80)
إنَّ الخلْطَ بَيْنَ الشِّعرِ المنثورِ وَالنَّثرِ الشِّعريِّ خَلْطٌ أجناسِيٌّ ؛ يَتَجَاهَلُ الخاصيَّةَ النَّوعيَّةَ القَارَّةَ في كُلٍّ مُنْهُمَا ؛ الَّتي تجعَلُ أحَدَهمَا شِعرًا نثريًّا، وَتجعَلُ الآخَرَ نثرًا شِعريًّا ، مَهْمَا بَلَغَ التَّدُاخُلُ بينَهما..

نَمَاذجُ وَمَلامحُ مِنْ الشِّعر المَنْثُورِ


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى