ترامت سفن الشحن إلى عمق بحري ناء. و تشابكت الحزم الضوئية على الأرصفة . و تراقصت في العمق ، كأنها تبتهج : لتظاهرة لا مثيل لها .
بدا كل ما يجري ، ينبئ عن إبحار مبكر .ولم يكن آنذاك سوى .. إيقاع ثقيل لأحذية تدق على بلاطات الأرصفة الإسفلتية كأنّها تستنهض همّتها .
وأوشك أن يبدأ فجر يوم محموم ، بحركة دائبة ، لإنجاز عملية الشحن. فاصطفّت على نطاق عريض ، أكداس من طرود ضخمة ، لعلب حظيت أغلفتها بأغطية زاهية الألوان . وتألّقت بخط جميل عبارة " ابتسامات".
غير أن.. إحدى مكبرات الصوت ، خيبت آمال الكتل البشرية المحتدمة، و التي هرعت لتوديع السفن التي توشك أن تغادر : ( إن الشحن يتأخر لأسباب قاهرة ) .
كان هذا مدعاة لتلك الجلبة ، مما استدعى " سيدة العالم بأسره " أن تفزع إلى المرفأ ، دون أن يتسنى لها حيز من الوقت لكي ترجّل شعرها .
على أية حال " تجري الرياح بما لا تشتهي السفن " .ففرص إسعاد الأولاد و أمهاتهم ، بـاحتضان " علب الابتسامات"، قد تلاشت و تضاعفت روافد الأحزان .
كان مشهدا جنائزيا ، إذ أطلقت السفن نعيبا متواصلا . وكان لانقطاع التيار الكهربائي ما يبرره . فخيّمت حلكة من الحزن الثقيل ، لتوشح( سيّدة العالم بأسره) . وتخفي مزاجها المتعكّر ، جرّاء الانتظار .
كانت لحظات عسيرة في حياة معكّري مصداقيّتها ، ومسببي إبطاء الشحن .ولكي توقف تداعي المعنويّات هتفت:
ــ أن التوقف ليس إلا عداً تنازليا تحت مستوى الصفر .
فأبرقت إحدى الأمهات ممن تأثرن بهذا الفيض من الشيم بالعبارات ألآتية :
ــ إلى سيدة المشاعر الرقيقة الأولى : آسفات لإحراج عواطفكم .. تظاهرة الأمهات تواصل مكوثها ، على حافات الموانئ بانتظار أفضالكم ".
كان هذا من باب عرفان الجميل .. كذلك .. حسن الظن .لأن السيدات تأسرهن العواطف الرقيقة ، فتتطرف غلواؤهن بهذا الشأن . فكيف هو الحال أمام " سيدة العالم بأسره" ؟
بيد أن الآباء ــ الذين أسرتهم العادة .. أن تتكدس ، خلف وسادة المنام كل الأشياء، التي تبعث السرور ــ ظلوا على استلقائهم .
وأغرتهم المناسبة ليقلبوا المثل الشائع لصالح تمنياتهم" عشر تفاحات في اليد خير من واحدة على الشجرة " .
وفي أسوأ ما يحتمل ــ ما دامت الكلمات هي الكلمات ــ فيمكن إعادتها إلى حالها السابق ، لكي تستقر باليد التفاحة الواحدة . ولا يحوجهم إلى ذلك سوى الحفاظ على رزمة من مصطلحات المجاملة ، لمثل هذه المناسبة و غيرها .
نعم ... فليس ثمة معضلة يعانون منها. فقد قرّت عيونهم عند صحوة التيار ، من غفوته المزمنة ، بمشاهدة طيف من الطرود بألوانها الزاهية . و تعمدت شاشات التلفازــ بخبث ــ أن تترك أثرا مسكّرا، في رؤوس المشاهدين . وكانوا يمررون أكفّهم على أفئدتهم ليهنئوا بانبعاث روائح ، خيّل لهم : إنها فاحت من " حبشات " طرود " الابتسامات"المعروضة على الشاشة .
هم يتطلعون للصباح ، لكي يشاهدوا " بشماتة"حالة الهبوط المريع بمعنويّات السوق . فليس سوى دزينة من هذه الألوان الجذّابة ، حريّة أن تدوّخ قطط السوق السمان، بسطرات تجعلهم يترنّحون .
مبتكرو الإعلان .. ما كان همّهم هذه الصغائر ، بل الأساس أن يقدّموا أقصى ما لديهم ، من حسن النية ، لمن صنعت من أجلهم .
* * *
من سوء حظ الأولاد و بطونهم ــ والذين تكوّروا حول الأمهات ــ بقاؤهم على جهل بكونهم ، موضع هذا الاهتمام الزائد .
كان على الجميع ــ وحتى الأمهات ــ أن يتشوّقوا للهدية التي لا تخطر ببال أحدهم.
وقبل التطورات الدرامية تلك حجب المذياع بشراه ، لكي يجهد ذهنه في البحث عن وسيلة مذهلة .. لإيصال النبأ. وكان لموقف ( سيّدة العالم بأسره )ما ينعش الأمل لدى المرابطات.
ولكي يتم إنعاش روح المشاكسة، تسللت عيون " الابتسامات " لتطل من خلل العلب ، و تواصل غمزات مترادفة و بلا انقطاع .
إنّهن مثيرات للمتاعب ، وهذا متفق عليه . من يقدر أن يبرهن على أن" الابتسامات " مثال يحتذا في الرزانة . و بأنهن قضين حياتهن في بيوت محافظة ؟
أن " الابتسامات " أوقفت عمرها كله على الخرق و عدم الالتزام بالآداب العامة.
وعــلـيه فقد تمّ تعليبهن . و حشّدت الأساطيل ، و أدخلت في النفير العام لكي .. تبحر دفعة واحدة.
* * *
ظل الصغار يطلّون برؤوسهم فوق غطاء القدر ، و الذي لم تنبعث منه أية رائحة تستفز مناخيرهم ، و التي أرهفها الانتظار .
ومجارات لديدنهم المزمن ،فقد ألصقوا آذانهم بشدّة إلى المذياع و قال أصغرهم لأمه :
ــ إياك أن تبيعي المذياع .
لم تجب الأم فكرر:
ــ أماه .. إياك أن تبيعيه .. فكيف نتابع رحلة المعلّبات ؟
علّق الذي يكبره بقناعة راسخة :
ــ أماه .. أنت بحاجة لواحدة .. فأنت منذ زمن طويل ، بلا ابتسامة .
قالت الأم و هي ترتق ثوبا من دبر :
ــ حسنا سأقرط شحمة أذني بواحدة .
قال كبيرهم مازحا :
ــ لا تقرط بشحمة الأذن يا أماه ، بل تطل من العيون .
قالت الأم:
ــ نسيت .. حتى شكلها نسيته . منذ وقت سحيق .. والمرأة يعاب عليها أن تبتســـم. و بات من الآداب العامة ، أن لا تبتسم.
* * *
ما زال التيّار ، الذي أمسى قومسيرا، يبدي حزنه جرّاء مكوثه في الموانئ النائية .
لهذا تلكأ الشحن ، ربما .. يضطر أن يخلع ملابسه ويجازف باجتياز هذه المسافات سابحا .
انه بحكم دوره القيادي ... سيعبر مواجهاً الصعوبات مهما نأت المسافات .
ذلك أن المذياع سيكون على عجز تام ، أمام مساعدة لعائلة مرموقة تتلمذت،طويلا ، على مبادئ" سيدة العالم بأسره. " ولا يليق أن تتحارب فيما بينها عن: أيّهم يعبر أولا.
ولا يستدعي أن يتعكّر بشأنها ، مزاج الأمهات ، لكنهن من باب الاحتفاظ بماضي الدلال، تعوّدن على المغالاة و تضخيم الأمور .
غير أن محبّات " الابتسامات"لا يروقهن استقبالهن قادمات بمحض إرادتهن . بل يغريهن ــ شأنهن دائما ــ : أن يشاهدن المحب أسيرا جراء شوقه .
ولكي لا يساء فهم مشاعر الأمهات .. فثمة سيل نسوي عارم ، باتجاه مرافئ التفريغ . وقد لوّحن بسعفات النخيل ــ عوضا عن أزهار الخزاما رمزا للحب و السلام و الحلاوة ، وصدق المشاعر .
ولأفضل اختيار ، لينحني أمام روح " التضامن" ، لوّحن من بعيد ، بلافتة عريضة ... ترحب بقدوم القومسير و رفاقه.
* * *
بدت سعفات النخيل ــ بفعل أيدي الأمهات ــ منحنية إلى أمام بالرغم من أن الريح المعاكسة،تجري باتجاه الأمهات.
قناعة منها : أن البحر ينوء تحت عبء " الابتسامات ". و السعفات لا تقف باستقامة، كسنبلة فارغة ، بل تنحني أمام عظمة الأرض و آلامها .
التحمت الأرصفة بزخم هائل .. وعسكرت تحت وهج الشمس ، و شواء حرارة الإسفلت .. إلى حين انبعاث مشاعر العالم على نحو.. " طرود ابتسامات"
فأي خطوط طول قطعت تلك الطرود ؟
يجيب على ذلك : إيقاع خطوات الشرطي على إسفلت الأرصفة ، و توقفها ، ليتأمل بعدم ارتياح .. تلك النظرات اللعوب التي رمتها " الابتسامات " وهدد بهراوته :
ــ أنتن يا ... ارجعن بعيونكن القهقرى .
وكانت خطواته تضفي وقعا منذرا .
حذرت كبراهن :
ــ كفى عبثا .
قالت إحداهن :
ــ أليس بالوسع أن أتجوّل ؟
تريّث الشرطي متسقطا لما يحدث . وهيمن بظلال خوذته من فوق العلبة ، ونقر ثلاثا ، ثم واصل خطواته الرتيبة و أطلقن ضحكات مكتومة .
تسللت إحداهن .. أوقفها الشرطي متسائلا :
ــ إلى أين ؟
بدت تتدحرج لتكون وجهتها نحو دورة المياه .هزّ الشرطي رأسه و أومأ إلى الرافعة أن تعود بها إلى الكدس .كان هذا مدعاة سخرية الأخريات . وقالت كبراهن :
ــ إننا في نفير عام. فحين يعلن : أن القومسير قد غاَبت أضواؤه وسطعت هناك ، فان المذياع سيعلن صدق الشحن .
عقّبت إحداهن باستياء:
ــ ولكننا ما عدنا " ابتسامات"، فأي ابتسامات هذه ؟
إحدى المعضلات: أن الابتسامات هناك تحرّمها الأعراف و التقاليد .. على وجه الفتيات و ربما الفتية . أما العجائز فأي ابتسامة على فم مثل كوّة معتمة ؟وهذه إحدى المحن .
الثانيــة ــ وهذه مهمّة جدا ــ لم تنبعث من دبر .. لا ريح صامتة ولا ريح مسموعة .
فذلك يتعلّق بوفرة الأولاد, وشبعهم بطعام وافر و متنوع .
). طالبا أن تستفسر unc)أبرق الراصد هذا الاستنتاج القيّم إلى السيدة
من ممثليها في الضفة الشرقية :
ــ هل هناك ريح مسموعة ، أو ريح صامتة تنبعث من دبر؟
وحيث أن هذه المسميات ، يعوزها الذوق ولا تستسيغها الأعراف الدولية ، ولا
.(unc)السيدة الفاضلة حينئذ تم الاتفاق و بعد مفاوضات مضنية، مع الجهة المستقبلة ليتم التعرف على معلومات وافية بهذا الشأن . وأخيرا .. أجمع الاتفاق الدولي : أن يرمز للريح المسموعة (س) و الريح الصامتة(ص) . لذا تمّت الإجابة:
ــ أن مبررات ( س،ص) لم تزل في مخازنكم.
فالتفت متلقي الإجابة إلى زملائه و تساءل :
ــ ما هذا ؟؟
فقال أحدهم :
ــ ابحث عن مصير القومسير(1) .
استفهم الأول :
ــ أسأل من ؟
قال :
ــ متطلبات إنسانية .فأجاب القومسير :
إننا لم نعبر بعد ، لا البيض ولا الزبدة ولا البروتين الحيواني . ولا ورق التنظيف ولا أي شيء آخر.
ودون أن يراعي البيض رقة حاله تساءل بغضب :
ــ لماذا أنا أولا؟
فأمتعض القومسير و تأفف قائلا :
ــ أف ف ف .. المشكلة هي .. كل من تطلب إليه العبور يجيبك :لماذا أنا أولا ؟و ينسون وحدة القرار . حسنا .. ما هو الرد على إلحاحهم لكي يزدهر (س،ص ) ؟
و استفسر رقيب الأرصفة الغربية باستغراب :
ــ لماذا...؟
رد ّ القومسير :
ــ الجواب ــ باختصار شديد ــ الأمعاء نظيفة مئة بالمئة فعن أي طريق يتوفـــر( س،ص) ؟
* * *
في بيت الأولاد ما زال القدر يغلي ، دون طعم و لا رائحة ، فتساءلوا:
ــ ماذا أعددت لنا يا أماه؟
أجابت :
ــ أي شيء يتوفر . الشائعات تعلن أن ( س، ص ) قادمان. فأن هبطا ، وكانا صالحين للطبخ طبختهما حال الوصول .
قال أصغرهم :
ــ وما طعمهما؟
قالت الأم : عليك أن تنتظر بصمت حتى عبور القومسير .
لكن .. لا القومسير ولا بهاؤه .. ولا البيض ولا اللحوم ، ولا الزبدة ، ولا أوراق التنظيف ، ولا..ولا..عابرون .
و " الابتسامات " سأمت الانتظار . لم تألف ما يحدث على الضفة المقابلة . و أجهزة الأعلام تنصب شراكها لتصطاد ما يفلت من أخبار مكتومة بل أن الرمزين ( س،ص ) أدهشا وكالات الأنباء ، لكون هذه التسمية لم تطرق مسامعهم من قبل . لذا .. حظيت باهتمام متميز و توقعت : أن وراء الأكمة ما وراءها . و استنتجت الوكالات عدة احتمالات ، بعضها قال : ربما هو سلاح فتّاك . و الأذكى قليلا توقعت سلاحين . و الثالثة قالت : أن مصادراً لم تكشف عن اسمها تدعي : انه سلاح يعمل ( إنْ ) (*). ووعدت أنها ستحصل على التفاصيل .
غير أن الكل أغرقت الإذاعات المحكية و المرئية بما يفيد " أن ثمة لغز مهم جدا جرى ترميزه ب( س،ص ) . وهذه ظاهرة لها دلالتها ، فهي ردّ بمغزى . و استنكار لتلك العقدة " الأوديبية" للسفن سيّئة الصيت ، التي عبرت المحيطات بحشو من الأفارقة إلى حدّ الاختناق . فهي رد أخلاقي معاكس لعنابر العبيد.
ولكي يكون الرد ذا صيغة معبرة.. فرض على " الابتسامات": أن يقضين حاجاتهن داخل علبهن. فتذمرت كبراهن و أرجحهن عقلا وسألت :
ــ حسنا ما شأننا بما جرى ؟ هل هي جريرة أجدادنا ؟ و كيف نؤدي و ظائفنا ؟
قبل عبور الابتسامات .. يفترض من ذوي الشأن أن يوفروا كل المقدمات : إضاءة ، بروتين حيواني ، بيض ، زبدة ، أوراق تنظيف.
) أن يكونا منصفين .Se-counsil والسيد (ٍ(unc)وعلى السيدة
وأن تكون رحلتهن تليق بالتزامات تحافظ على كرامتهن، فهذه أمور تدل على رفعة في الذوق و اللياقة .
أو على الأقل .. هناك ضمانات أكيدة : أن يغتسلن حال العبور بالمياه الدافئة ، لكي يحصلن على النظافة و النقاء ، و يعدن ابتسامات صادقة جديرات باستقبال لائق.
* * *
بيد أن شكواهن هذه كانت، أبان منتصف الليل. وكان السيدان
يغطّان بشخير متواصل. ( unc) و(Se -counsil)
فأجهزة الرصد، قنعت بأن شكواهن على حق.وقررت أن تتقدم فيها عند الساعة العاشرة صباحا .على أن تدرج ضمن شكاوى عديدة .
هذا ما تستطيع المساعدة بشأنه . مع هذا فأن " سيدة العالم بأسره " حافظت على استيقاظ تام لكي تتابع بنفسها كل الانعكاسات التي ينبغي تلافيها ، للإبقاء على رصيد رفيع المستوى لأخلاقيتها .
وتحاشيا للتباطؤ، فقد اشترطت " علب الابتسامات"عبور مجموعة البيض و الزبدة....ألخ جنبا إلى جنب مع القومسير ، صحبة مصابيحه الساطعة .لكي تختفي و إلى الأبد تلك الظلمة الدامسة.
لذا : شددت أن تكون أوراق " الكلينكس" ظهيرا لها ، على أن تقف يسار المجموعة . في حين ينهض القومسير إلى شمالها .وفحوى حجة المشترطين : أن القومسير لم يكن جادا برغبة العبور . تمسكا بمبدأ " زر غبّا تزدد حبا " لإبقائه على حلكة ظلامية تجعل المتغنين يذوبون شوقا لأضوائه في كل آن و أوان.
فتشجعت المجموعة أمام "سيدة العالم بأسره" وطعنت بازدواجية القومسير و جدّية نيّاته .
وتمسكا بأحكام الضرورة و نفاذ صبر السيدة ، قدّمت خطّة "طوارئ"تحاشياً لتباطؤ العبور العاجل، فأبرقت إلى حشود الأمهات القابعات هناك بما يلي :
" إن أساطيلنا الجاثمة على مرمى مدفع منكن ، على استعداد لإفراغ عنابرها، دفعة واحدة ، والشروع فورا بعملية شحن الأولاد، وعلى نطاق واسع ، باتجاه المرافئ الغربيـــــة ...... انتهى "
1/10/1998
شارحة
قومسير : مفوض الشعب
إن : يجري الإشارة بها إلى قصد ينطق به كنقد سياسي محذور ، أو سلوك شائن .
1/10/1998
موسى غافل الشطري
بدا كل ما يجري ، ينبئ عن إبحار مبكر .ولم يكن آنذاك سوى .. إيقاع ثقيل لأحذية تدق على بلاطات الأرصفة الإسفلتية كأنّها تستنهض همّتها .
وأوشك أن يبدأ فجر يوم محموم ، بحركة دائبة ، لإنجاز عملية الشحن. فاصطفّت على نطاق عريض ، أكداس من طرود ضخمة ، لعلب حظيت أغلفتها بأغطية زاهية الألوان . وتألّقت بخط جميل عبارة " ابتسامات".
غير أن.. إحدى مكبرات الصوت ، خيبت آمال الكتل البشرية المحتدمة، و التي هرعت لتوديع السفن التي توشك أن تغادر : ( إن الشحن يتأخر لأسباب قاهرة ) .
كان هذا مدعاة لتلك الجلبة ، مما استدعى " سيدة العالم بأسره " أن تفزع إلى المرفأ ، دون أن يتسنى لها حيز من الوقت لكي ترجّل شعرها .
على أية حال " تجري الرياح بما لا تشتهي السفن " .ففرص إسعاد الأولاد و أمهاتهم ، بـاحتضان " علب الابتسامات"، قد تلاشت و تضاعفت روافد الأحزان .
كان مشهدا جنائزيا ، إذ أطلقت السفن نعيبا متواصلا . وكان لانقطاع التيار الكهربائي ما يبرره . فخيّمت حلكة من الحزن الثقيل ، لتوشح( سيّدة العالم بأسره) . وتخفي مزاجها المتعكّر ، جرّاء الانتظار .
كانت لحظات عسيرة في حياة معكّري مصداقيّتها ، ومسببي إبطاء الشحن .ولكي توقف تداعي المعنويّات هتفت:
ــ أن التوقف ليس إلا عداً تنازليا تحت مستوى الصفر .
فأبرقت إحدى الأمهات ممن تأثرن بهذا الفيض من الشيم بالعبارات ألآتية :
ــ إلى سيدة المشاعر الرقيقة الأولى : آسفات لإحراج عواطفكم .. تظاهرة الأمهات تواصل مكوثها ، على حافات الموانئ بانتظار أفضالكم ".
كان هذا من باب عرفان الجميل .. كذلك .. حسن الظن .لأن السيدات تأسرهن العواطف الرقيقة ، فتتطرف غلواؤهن بهذا الشأن . فكيف هو الحال أمام " سيدة العالم بأسره" ؟
بيد أن الآباء ــ الذين أسرتهم العادة .. أن تتكدس ، خلف وسادة المنام كل الأشياء، التي تبعث السرور ــ ظلوا على استلقائهم .
وأغرتهم المناسبة ليقلبوا المثل الشائع لصالح تمنياتهم" عشر تفاحات في اليد خير من واحدة على الشجرة " .
وفي أسوأ ما يحتمل ــ ما دامت الكلمات هي الكلمات ــ فيمكن إعادتها إلى حالها السابق ، لكي تستقر باليد التفاحة الواحدة . ولا يحوجهم إلى ذلك سوى الحفاظ على رزمة من مصطلحات المجاملة ، لمثل هذه المناسبة و غيرها .
نعم ... فليس ثمة معضلة يعانون منها. فقد قرّت عيونهم عند صحوة التيار ، من غفوته المزمنة ، بمشاهدة طيف من الطرود بألوانها الزاهية . و تعمدت شاشات التلفازــ بخبث ــ أن تترك أثرا مسكّرا، في رؤوس المشاهدين . وكانوا يمررون أكفّهم على أفئدتهم ليهنئوا بانبعاث روائح ، خيّل لهم : إنها فاحت من " حبشات " طرود " الابتسامات"المعروضة على الشاشة .
هم يتطلعون للصباح ، لكي يشاهدوا " بشماتة"حالة الهبوط المريع بمعنويّات السوق . فليس سوى دزينة من هذه الألوان الجذّابة ، حريّة أن تدوّخ قطط السوق السمان، بسطرات تجعلهم يترنّحون .
مبتكرو الإعلان .. ما كان همّهم هذه الصغائر ، بل الأساس أن يقدّموا أقصى ما لديهم ، من حسن النية ، لمن صنعت من أجلهم .
* * *
من سوء حظ الأولاد و بطونهم ــ والذين تكوّروا حول الأمهات ــ بقاؤهم على جهل بكونهم ، موضع هذا الاهتمام الزائد .
كان على الجميع ــ وحتى الأمهات ــ أن يتشوّقوا للهدية التي لا تخطر ببال أحدهم.
وقبل التطورات الدرامية تلك حجب المذياع بشراه ، لكي يجهد ذهنه في البحث عن وسيلة مذهلة .. لإيصال النبأ. وكان لموقف ( سيّدة العالم بأسره )ما ينعش الأمل لدى المرابطات.
ولكي يتم إنعاش روح المشاكسة، تسللت عيون " الابتسامات " لتطل من خلل العلب ، و تواصل غمزات مترادفة و بلا انقطاع .
إنّهن مثيرات للمتاعب ، وهذا متفق عليه . من يقدر أن يبرهن على أن" الابتسامات " مثال يحتذا في الرزانة . و بأنهن قضين حياتهن في بيوت محافظة ؟
أن " الابتسامات " أوقفت عمرها كله على الخرق و عدم الالتزام بالآداب العامة.
وعــلـيه فقد تمّ تعليبهن . و حشّدت الأساطيل ، و أدخلت في النفير العام لكي .. تبحر دفعة واحدة.
* * *
ظل الصغار يطلّون برؤوسهم فوق غطاء القدر ، و الذي لم تنبعث منه أية رائحة تستفز مناخيرهم ، و التي أرهفها الانتظار .
ومجارات لديدنهم المزمن ،فقد ألصقوا آذانهم بشدّة إلى المذياع و قال أصغرهم لأمه :
ــ إياك أن تبيعي المذياع .
لم تجب الأم فكرر:
ــ أماه .. إياك أن تبيعيه .. فكيف نتابع رحلة المعلّبات ؟
علّق الذي يكبره بقناعة راسخة :
ــ أماه .. أنت بحاجة لواحدة .. فأنت منذ زمن طويل ، بلا ابتسامة .
قالت الأم و هي ترتق ثوبا من دبر :
ــ حسنا سأقرط شحمة أذني بواحدة .
قال كبيرهم مازحا :
ــ لا تقرط بشحمة الأذن يا أماه ، بل تطل من العيون .
قالت الأم:
ــ نسيت .. حتى شكلها نسيته . منذ وقت سحيق .. والمرأة يعاب عليها أن تبتســـم. و بات من الآداب العامة ، أن لا تبتسم.
* * *
ما زال التيّار ، الذي أمسى قومسيرا، يبدي حزنه جرّاء مكوثه في الموانئ النائية .
لهذا تلكأ الشحن ، ربما .. يضطر أن يخلع ملابسه ويجازف باجتياز هذه المسافات سابحا .
انه بحكم دوره القيادي ... سيعبر مواجهاً الصعوبات مهما نأت المسافات .
ذلك أن المذياع سيكون على عجز تام ، أمام مساعدة لعائلة مرموقة تتلمذت،طويلا ، على مبادئ" سيدة العالم بأسره. " ولا يليق أن تتحارب فيما بينها عن: أيّهم يعبر أولا.
ولا يستدعي أن يتعكّر بشأنها ، مزاج الأمهات ، لكنهن من باب الاحتفاظ بماضي الدلال، تعوّدن على المغالاة و تضخيم الأمور .
غير أن محبّات " الابتسامات"لا يروقهن استقبالهن قادمات بمحض إرادتهن . بل يغريهن ــ شأنهن دائما ــ : أن يشاهدن المحب أسيرا جراء شوقه .
ولكي لا يساء فهم مشاعر الأمهات .. فثمة سيل نسوي عارم ، باتجاه مرافئ التفريغ . وقد لوّحن بسعفات النخيل ــ عوضا عن أزهار الخزاما رمزا للحب و السلام و الحلاوة ، وصدق المشاعر .
ولأفضل اختيار ، لينحني أمام روح " التضامن" ، لوّحن من بعيد ، بلافتة عريضة ... ترحب بقدوم القومسير و رفاقه.
* * *
بدت سعفات النخيل ــ بفعل أيدي الأمهات ــ منحنية إلى أمام بالرغم من أن الريح المعاكسة،تجري باتجاه الأمهات.
قناعة منها : أن البحر ينوء تحت عبء " الابتسامات ". و السعفات لا تقف باستقامة، كسنبلة فارغة ، بل تنحني أمام عظمة الأرض و آلامها .
التحمت الأرصفة بزخم هائل .. وعسكرت تحت وهج الشمس ، و شواء حرارة الإسفلت .. إلى حين انبعاث مشاعر العالم على نحو.. " طرود ابتسامات"
فأي خطوط طول قطعت تلك الطرود ؟
يجيب على ذلك : إيقاع خطوات الشرطي على إسفلت الأرصفة ، و توقفها ، ليتأمل بعدم ارتياح .. تلك النظرات اللعوب التي رمتها " الابتسامات " وهدد بهراوته :
ــ أنتن يا ... ارجعن بعيونكن القهقرى .
وكانت خطواته تضفي وقعا منذرا .
حذرت كبراهن :
ــ كفى عبثا .
قالت إحداهن :
ــ أليس بالوسع أن أتجوّل ؟
تريّث الشرطي متسقطا لما يحدث . وهيمن بظلال خوذته من فوق العلبة ، ونقر ثلاثا ، ثم واصل خطواته الرتيبة و أطلقن ضحكات مكتومة .
تسللت إحداهن .. أوقفها الشرطي متسائلا :
ــ إلى أين ؟
بدت تتدحرج لتكون وجهتها نحو دورة المياه .هزّ الشرطي رأسه و أومأ إلى الرافعة أن تعود بها إلى الكدس .كان هذا مدعاة سخرية الأخريات . وقالت كبراهن :
ــ إننا في نفير عام. فحين يعلن : أن القومسير قد غاَبت أضواؤه وسطعت هناك ، فان المذياع سيعلن صدق الشحن .
عقّبت إحداهن باستياء:
ــ ولكننا ما عدنا " ابتسامات"، فأي ابتسامات هذه ؟
إحدى المعضلات: أن الابتسامات هناك تحرّمها الأعراف و التقاليد .. على وجه الفتيات و ربما الفتية . أما العجائز فأي ابتسامة على فم مثل كوّة معتمة ؟وهذه إحدى المحن .
الثانيــة ــ وهذه مهمّة جدا ــ لم تنبعث من دبر .. لا ريح صامتة ولا ريح مسموعة .
فذلك يتعلّق بوفرة الأولاد, وشبعهم بطعام وافر و متنوع .
). طالبا أن تستفسر unc)أبرق الراصد هذا الاستنتاج القيّم إلى السيدة
من ممثليها في الضفة الشرقية :
ــ هل هناك ريح مسموعة ، أو ريح صامتة تنبعث من دبر؟
وحيث أن هذه المسميات ، يعوزها الذوق ولا تستسيغها الأعراف الدولية ، ولا
.(unc)السيدة الفاضلة حينئذ تم الاتفاق و بعد مفاوضات مضنية، مع الجهة المستقبلة ليتم التعرف على معلومات وافية بهذا الشأن . وأخيرا .. أجمع الاتفاق الدولي : أن يرمز للريح المسموعة (س) و الريح الصامتة(ص) . لذا تمّت الإجابة:
ــ أن مبررات ( س،ص) لم تزل في مخازنكم.
فالتفت متلقي الإجابة إلى زملائه و تساءل :
ــ ما هذا ؟؟
فقال أحدهم :
ــ ابحث عن مصير القومسير(1) .
استفهم الأول :
ــ أسأل من ؟
قال :
ــ متطلبات إنسانية .فأجاب القومسير :
إننا لم نعبر بعد ، لا البيض ولا الزبدة ولا البروتين الحيواني . ولا ورق التنظيف ولا أي شيء آخر.
ودون أن يراعي البيض رقة حاله تساءل بغضب :
ــ لماذا أنا أولا؟
فأمتعض القومسير و تأفف قائلا :
ــ أف ف ف .. المشكلة هي .. كل من تطلب إليه العبور يجيبك :لماذا أنا أولا ؟و ينسون وحدة القرار . حسنا .. ما هو الرد على إلحاحهم لكي يزدهر (س،ص ) ؟
و استفسر رقيب الأرصفة الغربية باستغراب :
ــ لماذا...؟
رد ّ القومسير :
ــ الجواب ــ باختصار شديد ــ الأمعاء نظيفة مئة بالمئة فعن أي طريق يتوفـــر( س،ص) ؟
* * *
في بيت الأولاد ما زال القدر يغلي ، دون طعم و لا رائحة ، فتساءلوا:
ــ ماذا أعددت لنا يا أماه؟
أجابت :
ــ أي شيء يتوفر . الشائعات تعلن أن ( س، ص ) قادمان. فأن هبطا ، وكانا صالحين للطبخ طبختهما حال الوصول .
قال أصغرهم :
ــ وما طعمهما؟
قالت الأم : عليك أن تنتظر بصمت حتى عبور القومسير .
لكن .. لا القومسير ولا بهاؤه .. ولا البيض ولا اللحوم ، ولا الزبدة ، ولا أوراق التنظيف ، ولا..ولا..عابرون .
و " الابتسامات " سأمت الانتظار . لم تألف ما يحدث على الضفة المقابلة . و أجهزة الأعلام تنصب شراكها لتصطاد ما يفلت من أخبار مكتومة بل أن الرمزين ( س،ص ) أدهشا وكالات الأنباء ، لكون هذه التسمية لم تطرق مسامعهم من قبل . لذا .. حظيت باهتمام متميز و توقعت : أن وراء الأكمة ما وراءها . و استنتجت الوكالات عدة احتمالات ، بعضها قال : ربما هو سلاح فتّاك . و الأذكى قليلا توقعت سلاحين . و الثالثة قالت : أن مصادراً لم تكشف عن اسمها تدعي : انه سلاح يعمل ( إنْ ) (*). ووعدت أنها ستحصل على التفاصيل .
غير أن الكل أغرقت الإذاعات المحكية و المرئية بما يفيد " أن ثمة لغز مهم جدا جرى ترميزه ب( س،ص ) . وهذه ظاهرة لها دلالتها ، فهي ردّ بمغزى . و استنكار لتلك العقدة " الأوديبية" للسفن سيّئة الصيت ، التي عبرت المحيطات بحشو من الأفارقة إلى حدّ الاختناق . فهي رد أخلاقي معاكس لعنابر العبيد.
ولكي يكون الرد ذا صيغة معبرة.. فرض على " الابتسامات": أن يقضين حاجاتهن داخل علبهن. فتذمرت كبراهن و أرجحهن عقلا وسألت :
ــ حسنا ما شأننا بما جرى ؟ هل هي جريرة أجدادنا ؟ و كيف نؤدي و ظائفنا ؟
قبل عبور الابتسامات .. يفترض من ذوي الشأن أن يوفروا كل المقدمات : إضاءة ، بروتين حيواني ، بيض ، زبدة ، أوراق تنظيف.
) أن يكونا منصفين .Se-counsil والسيد (ٍ(unc)وعلى السيدة
وأن تكون رحلتهن تليق بالتزامات تحافظ على كرامتهن، فهذه أمور تدل على رفعة في الذوق و اللياقة .
أو على الأقل .. هناك ضمانات أكيدة : أن يغتسلن حال العبور بالمياه الدافئة ، لكي يحصلن على النظافة و النقاء ، و يعدن ابتسامات صادقة جديرات باستقبال لائق.
* * *
بيد أن شكواهن هذه كانت، أبان منتصف الليل. وكان السيدان
يغطّان بشخير متواصل. ( unc) و(Se -counsil)
فأجهزة الرصد، قنعت بأن شكواهن على حق.وقررت أن تتقدم فيها عند الساعة العاشرة صباحا .على أن تدرج ضمن شكاوى عديدة .
هذا ما تستطيع المساعدة بشأنه . مع هذا فأن " سيدة العالم بأسره " حافظت على استيقاظ تام لكي تتابع بنفسها كل الانعكاسات التي ينبغي تلافيها ، للإبقاء على رصيد رفيع المستوى لأخلاقيتها .
وتحاشيا للتباطؤ، فقد اشترطت " علب الابتسامات"عبور مجموعة البيض و الزبدة....ألخ جنبا إلى جنب مع القومسير ، صحبة مصابيحه الساطعة .لكي تختفي و إلى الأبد تلك الظلمة الدامسة.
لذا : شددت أن تكون أوراق " الكلينكس" ظهيرا لها ، على أن تقف يسار المجموعة . في حين ينهض القومسير إلى شمالها .وفحوى حجة المشترطين : أن القومسير لم يكن جادا برغبة العبور . تمسكا بمبدأ " زر غبّا تزدد حبا " لإبقائه على حلكة ظلامية تجعل المتغنين يذوبون شوقا لأضوائه في كل آن و أوان.
فتشجعت المجموعة أمام "سيدة العالم بأسره" وطعنت بازدواجية القومسير و جدّية نيّاته .
وتمسكا بأحكام الضرورة و نفاذ صبر السيدة ، قدّمت خطّة "طوارئ"تحاشياً لتباطؤ العبور العاجل، فأبرقت إلى حشود الأمهات القابعات هناك بما يلي :
" إن أساطيلنا الجاثمة على مرمى مدفع منكن ، على استعداد لإفراغ عنابرها، دفعة واحدة ، والشروع فورا بعملية شحن الأولاد، وعلى نطاق واسع ، باتجاه المرافئ الغربيـــــة ...... انتهى "
1/10/1998
شارحة
قومسير : مفوض الشعب
إن : يجري الإشارة بها إلى قصد ينطق به كنقد سياسي محذور ، أو سلوك شائن .
1/10/1998
موسى غافل الشطري
موسى غافل
قصة : ( طرود " ابتسامات" ) (طرود "ابتسامات" ) قصة قصيرة مشفّرة ساخرة نالت من النظام السابق و رئيسه : ( القومسير ) و الوعود الأمريكية " ابتسامات " المبشرة بخلاص العراق من النظام الصدامي . انجزت...
www.facebook.com