أوف أوف أوف! إنها مدينة مقرفة .. الناس فيها لا تطاق .. لا يصادفك الا من يرفع أنفه في كبرياء كما لو كان جبينه يتفصد بالمسك ، والمغفل والغبي من يعتقد أنه يتصرف بكياسة إذ بمجرد أن يقترب يفوح من تحت إبطه عفن السرقة والقرصنة وتنبعث من بين أسنانه رائحة الآخرين .
إسلوبي المقزز وليد ظروفه لكنه واقعي يا سيدي ، واقعي جداً ، إنه نتيجة تعايش يومي وإحتكاك الكتف بالكتف ، فلم أهبط كما تعرف من السماء ولم تنشق عني الأرض ، بل كنت النبتة المزروعة في غير تربتها ، لست أنا من يستعمل هذا التعبير، بل كان أبي من قبلي يضعه تحت لسانه (كالمضغة ) ، لكنه مات ولم يمت حتى ورثني كراهية الأمكنة الضيقة ، وعلمني كيف أكابد الناس بالتبغ والإزدراء .
ما تقوله ليس فوضى في دماغي كما تفضلت ، ها أنذا لم أدخن في حضورك ولم أقلب شفتي إزدراء حول ما تفضلت به ، لكن قد يكون السبب أنك تعيش من أجل نفسك ، ولا تتعامل مع الهامش المنسي هناك في شارع كولومبيا! نعم شارع كولومبيا هم يطلقون عليه هذا الإسم .. أعرف أن حضرتك لا يذهب إلى هناك إذ لا شيء هناك سوى أجيال مهمشة مدجنة تتشمس على الأرصفة .
هل لديك أطفال يا سيدي ؟ إثني عشر طفل ؟ كثير! ، كثير جداً كان ينبغي أن تستعمل الواقي في الأوقات الحميمية ، أنا لم أنجب سوى وجهات نظر لكن أعتقد أن إنجاب الأطفال رد منطقي على تدهور المناخ العام فحين يفقد الرجل الكثير من وزنه الداخلي يكرس وقته لصفع من يصادفه بإنتاج طفل .
ولابد أنك صفعت وجوها كثيرة حين بادرت بإنتاج دستة أطفال ؟ غضبت! ، حسنا لا ينبغي لي الولوج إلى مناطقك المحرمة لكن أنصحك بأن تستخدم الواقي ، إلا إذا كان هناك المزيد ممن تود صفعهم بإنتاج المزيد من الاطفال .
اسمي ؟!!! ، لا تقفز إلى النهاية الأن .. إسمي شيئ يا سيدي .. وما تسميتي بالشيء إلا لأني لا شيء أو مجرد شيء لا قيمة له ، ولو لديك المزيد من الوقت سأروي لك قصة اسمي .. لكن كيف لم تسمع به ؟ .. قبل عشرة أيام كان لإسمي طنين ورنين .. أين كنت يا سيدي ؟!. آه آه .. كنت تصفع أحدهم أنت وزوجتك بإنتاج طفل ؟. أنظر ، كنت بلا عمل ولا ملامح إذ كانت ترتسم على وجهي تكشيرة الموت ، ودائماً أغلي كمرجل ، لماذا سؤال جميل والجواب يا سيدي له ثمن ، سيجارة على الأقل ، ضعها هنا خلف أُذني .. اسمع ، لم يكن غضبي الذي بامكانه أن ينزل مخاط بعوضة نتيجة مرض أمي وموتها بحقنها دواء خصصه الطبيب لغيرها ، ولا كان السبب أيضا ضياع مدخراتي القليلة في البنك الذي أشهر إفلاسه ، بل كان السبب يا سيدي هو تلك الطريقة الفجة التي تعاملني بها الناس . لا تكف عن الإشمئزاز من كلامي ، والسبب إنك لا تتحرك في مسارات واسعة ، إذ تكتفي بالمشي من الظل إلى الظل خافضا رأسك كما لو أنك قد بللت سروالك للتو ، لكن أنا يا سيدي!! آه آه .. اسابق الرياح في الشوارع من الصباح إلى المساء وأعرف المدينة بالشبر بيتا بيتا ، وجها وجها، ادرك ما يجري في حدائقها الخلفية وأحفظ عن ظهر قلب ما على جدرانها من عبارات بذيئة تسخر من شخصيات نكرة وأخرى مشهورة ، والأهم يا سيدي .. كنت صديقا حميما لــ( كرينكو العظيم ) صاحب المقالب المشهور ، إنه إنسان ودود لكنه يواجه صلافة الناس بصعلكته وسخريته الصادمة ، إذ حباه الله بقريحة تتفجر بمقالب تجبر أي إنسان على مراجعة جذور شجرته ، وما وحّدنا وجعلنا رأسين في قنينة واحدة هو فجاجة اولئك الذين سحقوا آخر قملة بين أظافرهم وراحوا يقسمون المدينة بعلو الفيلات وألوانها والناس وثيابها ، ليس هذا فحسب! بل أنهم أختطوا لأنفسهم ( جيتوهات ) ليس في مستطاع من هم على شاكلتك وشاكلتي من الاقتراب منها أو مجرد النظر اليها ، لكن كرينكو العظيم هو الوحيد الذي تمكن من كسر القاعدة .
ذات مرة أخبرني وسط حشد من الشباب ، وهو لا يكف عن محاولة سرد حكايته بالصوت والصورة ، مستخدما حركات يديه وتعابيروجهه ، أن مجموعة من الفتيات الجميلات كن يتنزهن في متنزه بحري خاص وهن لا يرتدين سوى مايوهات شفافة تشف عن حلمات أثدائهن ، وتظهر أفخاذهن كسمك مشوي ، ويتبخترن ناثرات شعورهن في الريح و يتراشقن بالماء ، أنت لا تعرف مكان المتنزه البحري ، إن الدخول اليه مستحيل رابع ، غير أن كرينكو العظيم له بصمته الخاصة ، أنطلق من شاطيء ( رجل البقباق ) مرة يقمس في البحر كفأس حتى لا يبدو له أثر ، وتارة يسبح كدلفين وهو يضرب بذراعيه القويتين الذين يغطيهما الوشم قلوبا وفؤوسا وبواخر وحروفا وأسماء وخطوطا لا تفسير لها ، حتى ظهر على مسافة من المتنزه ثم تقدم نحوهن بغتة كما خلقه الله ، وحسب ما رواه كرينكو ذلك اليوم ، أنه أمضي يوما وليلة هناك وتمكن من إحبالهن ، إنه رجل يرد على الصفعة بصفعة في المكان الضيق وعلى التكبر برفع اصبعه الوسطى للاعلى والتلويح بها .
وحدث مرة أخرى أن سمع بحفل خاص يحييه فنان لبناني كبير له عنق ثور ، لم يُسمح لنا بالدخول لأن التذاكر باهضة ، وفيما كان المكان وهو مسرح في الهواء يغص بالضيوف ، والجوقة الموسيقية تأخذ أماكنها ، وتطالب النساء بصراخهن وتأوهاتهن بظهور الفنان على الخشبة ، ويرتفع صفير الخصيان من حولهن ، حدث ما لم يخطر على بال أحد إذ ظهر كرينكو العظيم وهو يقبل كفيه ويلوح بهما باتجاه الفتيات ، ثم وقف أمام الجوقة وبدلا من الشروع في الغناء بصوته الابح الصادم ، أخذ وسط دهشة الجميع بخلع ملابسه قطعة فأخرى ، حتى كشف أخيرا عن شيئه وهو في حالة انتصاب وتوتر كاملين ، إذ اسكرته عطور النساء الشبقية ، لا ليس من السهل الامساك به لانه كان يدهن جسمه من الالف إلى الياء بالزيت حتى لا تتمكن يد من إحكام قبضتها عليه ثم كان عداء كفهد . أنت تعرف يا سيدي إنه ليس من السهل التقرب أو الوصول إلى وزير من الوزراء ، نعم! وزير بكرشه وفساده جعل منه كرينكو العظيم أضحوكة ، كان ضيفا يُحتفى به في مسقط رأسه لعدم تنحيته من منصبه طيلة تسعة عشرة سنة ، ومفاجأة الحفل هي صعود كرينكو إلى المكان المخصص لتلاوة الخطب ، وكانت قراءته لخطبته المبهمة غاية في العشوائية ، إذ جعل من الضمة فتحة والكسرة سكون ، وعلى الرغم من هذا تفاعل معه الجميع بالتصفيق والصفير ، لان التسكين والكسر في السياسة يعمي البصيرة ويصم الأُذن عن الإصغاء لطقطقة وتكسر عظام اللغة ، وعندما انهى خطبته حملوه فوق الأكتاف كي يصافح الوزير وحين وصله أخذ بتقبيله - بشفتيه المتشققتين من البرد والريح الشبيهتين بمكنسة قش - في وجهه ورأسه وجبينه وعينه ثم عضه في أنفه حتى امتلأ فمه بدم الوزير ومخاطه وذاب كالملح.
أقول لك إنه كرينكو العظيم وأنت تعجن وتخبز ، إنه كالشبح لا توجد نافذة إلا وقد قذف تحتها منيه بعد منتصف الليل ، وهو يراقب الفتيات وهن يتقلبن على أسرتهن في الحر ، ولا زوجا إلا ويعرف كيف يعتلي زوجته ، له عينان كعينا عظاءة ميتة ، ووجها يقف شعر رأسك حين تراه للمرة الاولى ، لكن سرعان ما يدخل إلى قلبك لانه ودود ، يلين كثيرا ويصبح قلبه كورق ( كلينكس ) إذا حدثته عن ظلم أو وجع ، يسرق من الاغنياء ليطعم غيره لكنه مات .
لا شيء .. لكني كلما أذكره أبكي لان وجوده كان يخفف من وطأة الظلم ، إذ كان قصاصه عادلا ، إذهب الان وأُنظر كيف تُعامل الناس المهمشين العاجزين ، إذ أن السخرية الاجتماعية ترادف القمع السياسي ، أحدهم يجلدك بلسانه والآخر بالكرباج ، وأنت شرطي مسكين يُسرق البنك في يوم عطلتك فبدلا من البحث عن الجناة يُزج بك معي ، آه لو كان كرينكو العظيم حيا وأخبرته لأشفى غليلك ، لكن يا للأسف!! مات وأنت في مسيس الحاجة إليه ، نعم ، أنا يا سيدي ابتسمت لي إمرأة فلوحت لها بشفتي كاشفا عن لساني وأسناني ، فجرجرني شرطي لعين إلى هنا متهما إياي بالمتسكع ومسبب الشغب ، كنت بعد موت صديقي كرينكو أقف قرب حانوت لبيع العطور كي اطرد نتانة المدينة من رئتي بالعطور المنسابة من الحانوت ، مغمضا عيني غارقا في لذة الروائح المجنحة في الجو ، وحين غمرتني العطور من الداخل فتحت عيني إذ بامرأة خارجة من الحانوت واقفة تتأملني ، كانت تحمل أكياسا كثيرة في كلتا يديها ، وترتدي فستانا أزرق يناسب حجمها وقامتها الممشوقة ، لا .. لست وسيما يا سيدي أُنظر إلى وجهي إنه كالخراء اليابس وكأن شمسا في السماء السابعة لوحته ، لم تتوقف عن الحملقة في وجهي والابتسام ، لا أُخفي عليك أن سروالي الداخلي بلله سائل كعصير اللوز وانتصب عمود هناك ، نعم ، كانت جميلة كفراشة ولها رائحة البطيخ الاصفر الطازج ، ثم رقّصت لي حاجبيها وفيما هي على وشك التوجه إلى سيارتها سقط كيس من أكياسها ، وكرجل لا يتأخر عن تقديم مساعدة ، قفزت وأمسكت بالكيس وهو على قيد ظفر من الأرض ، وأخذت الاكياس الأخرى وحملتها معها ، وبينما كنت أتهيأ لفتح الباب أعترضتني ذراع كجذع شجرة يغطيها شعر كثيف مشبع بالعرق .
- إلى أين ؟
ارتفع صوته وراء عنقي
- أضع الاكياس في المقعد ) قلت .
فطفق يخاطب المرأة وهي تقف عند بابها ويطالبها بعدم الاقتراب أو الاطمئنان لامثالي من الصعاليك . لم تحر المرأة جوابا والانكى أنها قلبت شفتيها إزدراء من تدخله الفظ ، ملوحة له بأصابعها قائلة في حزم :
- ابتعد ابتعد ..
ثم ودعتني بترقيص حاجبيها مرة أخرى وانطلقت دون أن تعير الشرطي اهتماما وهو لايزال مقرفصا ويسند ذراعيه على نافذة السيارة فطرحته أرضا ، وعندئذ قهقهتُ وضحكتُ يا سيدي ضحكة بإمكانها لو أنها تهبط على الارض دفعة واحدة أن تتغلغل إلى الاعماق حتى الارض الثانية أو الثالثة ، وإذا كان هناك نفطا او غازا تخرجه . نهض الشرطي عاضا على لسانه بين أسنانه ، رافعا يده في وجهي ، امسكت بذراعه في الهواء وقد تبدلت سحنتي ، وقلت له :
- أدخلها في إستك لو تكررها .
أفلت ذراعه من قبضة يدي واندفع نحوي ، بماذا أخبرك يا سيدي ؟ بيض ثعابين فقص في رأسي وأصبحت عيناي أنيابا تنفث سما .
- اقترب .
كنت أسمعه يصرخ ثم تشابكنا بالايدي وتبادلنا لكمات ونطحات ورفسا بالأقدام والرُكب ، ومثلما تمد يدك في الليل إلى قن دجاج متحسسا باحثا عن البيض ، كنت أتحسس بيدي في ليل زمجرتنا ولهاثنا البهيمي للعثور على حنجرته ، وكان رأسي حينئذ ملاصقا لرأسه ، وأخيرا .. وجدتها أحكمت عليها باصبعي الابهام والسبابة ، فغرزتهما بعناية .. وأفرغت قوة مئة كيلو في يدي فنزعتها وانفجر دمه غزيرا كريها متناثرا في وجهي ملطخا صدري ، لم يصدر صوتا ، بل ترنح مرة أو مرتين للخلف ، وذرعه قيء أخضر ضاربا إلى الصفرة مختلطا بكتل من الدم ، ثم تهاوى على الارض فاردا ذراعيه وقدمه اليمنى منثنية تحت الأخرى ، أذكر أني كنت واقفا ، لكن على حين غرة شعرت وكأنك كنت تشاهد التلفزيون ويقفل فجأة تاركا نقطا سودا تتراقص في بحر رمادي ، مصدرا صوتا يشبه أزيز الاضطراب ، لم أعرف ما حدث إلا هنا . وأما بخصوص إسمي يا سيدي .. هل نمت يا سيدي ؟! استيقظ استيقظ سأخبرك لماذا يسمونني ( كرينكو العظيم ) ؟.
ا
إسلوبي المقزز وليد ظروفه لكنه واقعي يا سيدي ، واقعي جداً ، إنه نتيجة تعايش يومي وإحتكاك الكتف بالكتف ، فلم أهبط كما تعرف من السماء ولم تنشق عني الأرض ، بل كنت النبتة المزروعة في غير تربتها ، لست أنا من يستعمل هذا التعبير، بل كان أبي من قبلي يضعه تحت لسانه (كالمضغة ) ، لكنه مات ولم يمت حتى ورثني كراهية الأمكنة الضيقة ، وعلمني كيف أكابد الناس بالتبغ والإزدراء .
ما تقوله ليس فوضى في دماغي كما تفضلت ، ها أنذا لم أدخن في حضورك ولم أقلب شفتي إزدراء حول ما تفضلت به ، لكن قد يكون السبب أنك تعيش من أجل نفسك ، ولا تتعامل مع الهامش المنسي هناك في شارع كولومبيا! نعم شارع كولومبيا هم يطلقون عليه هذا الإسم .. أعرف أن حضرتك لا يذهب إلى هناك إذ لا شيء هناك سوى أجيال مهمشة مدجنة تتشمس على الأرصفة .
هل لديك أطفال يا سيدي ؟ إثني عشر طفل ؟ كثير! ، كثير جداً كان ينبغي أن تستعمل الواقي في الأوقات الحميمية ، أنا لم أنجب سوى وجهات نظر لكن أعتقد أن إنجاب الأطفال رد منطقي على تدهور المناخ العام فحين يفقد الرجل الكثير من وزنه الداخلي يكرس وقته لصفع من يصادفه بإنتاج طفل .
ولابد أنك صفعت وجوها كثيرة حين بادرت بإنتاج دستة أطفال ؟ غضبت! ، حسنا لا ينبغي لي الولوج إلى مناطقك المحرمة لكن أنصحك بأن تستخدم الواقي ، إلا إذا كان هناك المزيد ممن تود صفعهم بإنتاج المزيد من الاطفال .
اسمي ؟!!! ، لا تقفز إلى النهاية الأن .. إسمي شيئ يا سيدي .. وما تسميتي بالشيء إلا لأني لا شيء أو مجرد شيء لا قيمة له ، ولو لديك المزيد من الوقت سأروي لك قصة اسمي .. لكن كيف لم تسمع به ؟ .. قبل عشرة أيام كان لإسمي طنين ورنين .. أين كنت يا سيدي ؟!. آه آه .. كنت تصفع أحدهم أنت وزوجتك بإنتاج طفل ؟. أنظر ، كنت بلا عمل ولا ملامح إذ كانت ترتسم على وجهي تكشيرة الموت ، ودائماً أغلي كمرجل ، لماذا سؤال جميل والجواب يا سيدي له ثمن ، سيجارة على الأقل ، ضعها هنا خلف أُذني .. اسمع ، لم يكن غضبي الذي بامكانه أن ينزل مخاط بعوضة نتيجة مرض أمي وموتها بحقنها دواء خصصه الطبيب لغيرها ، ولا كان السبب أيضا ضياع مدخراتي القليلة في البنك الذي أشهر إفلاسه ، بل كان السبب يا سيدي هو تلك الطريقة الفجة التي تعاملني بها الناس . لا تكف عن الإشمئزاز من كلامي ، والسبب إنك لا تتحرك في مسارات واسعة ، إذ تكتفي بالمشي من الظل إلى الظل خافضا رأسك كما لو أنك قد بللت سروالك للتو ، لكن أنا يا سيدي!! آه آه .. اسابق الرياح في الشوارع من الصباح إلى المساء وأعرف المدينة بالشبر بيتا بيتا ، وجها وجها، ادرك ما يجري في حدائقها الخلفية وأحفظ عن ظهر قلب ما على جدرانها من عبارات بذيئة تسخر من شخصيات نكرة وأخرى مشهورة ، والأهم يا سيدي .. كنت صديقا حميما لــ( كرينكو العظيم ) صاحب المقالب المشهور ، إنه إنسان ودود لكنه يواجه صلافة الناس بصعلكته وسخريته الصادمة ، إذ حباه الله بقريحة تتفجر بمقالب تجبر أي إنسان على مراجعة جذور شجرته ، وما وحّدنا وجعلنا رأسين في قنينة واحدة هو فجاجة اولئك الذين سحقوا آخر قملة بين أظافرهم وراحوا يقسمون المدينة بعلو الفيلات وألوانها والناس وثيابها ، ليس هذا فحسب! بل أنهم أختطوا لأنفسهم ( جيتوهات ) ليس في مستطاع من هم على شاكلتك وشاكلتي من الاقتراب منها أو مجرد النظر اليها ، لكن كرينكو العظيم هو الوحيد الذي تمكن من كسر القاعدة .
ذات مرة أخبرني وسط حشد من الشباب ، وهو لا يكف عن محاولة سرد حكايته بالصوت والصورة ، مستخدما حركات يديه وتعابيروجهه ، أن مجموعة من الفتيات الجميلات كن يتنزهن في متنزه بحري خاص وهن لا يرتدين سوى مايوهات شفافة تشف عن حلمات أثدائهن ، وتظهر أفخاذهن كسمك مشوي ، ويتبخترن ناثرات شعورهن في الريح و يتراشقن بالماء ، أنت لا تعرف مكان المتنزه البحري ، إن الدخول اليه مستحيل رابع ، غير أن كرينكو العظيم له بصمته الخاصة ، أنطلق من شاطيء ( رجل البقباق ) مرة يقمس في البحر كفأس حتى لا يبدو له أثر ، وتارة يسبح كدلفين وهو يضرب بذراعيه القويتين الذين يغطيهما الوشم قلوبا وفؤوسا وبواخر وحروفا وأسماء وخطوطا لا تفسير لها ، حتى ظهر على مسافة من المتنزه ثم تقدم نحوهن بغتة كما خلقه الله ، وحسب ما رواه كرينكو ذلك اليوم ، أنه أمضي يوما وليلة هناك وتمكن من إحبالهن ، إنه رجل يرد على الصفعة بصفعة في المكان الضيق وعلى التكبر برفع اصبعه الوسطى للاعلى والتلويح بها .
وحدث مرة أخرى أن سمع بحفل خاص يحييه فنان لبناني كبير له عنق ثور ، لم يُسمح لنا بالدخول لأن التذاكر باهضة ، وفيما كان المكان وهو مسرح في الهواء يغص بالضيوف ، والجوقة الموسيقية تأخذ أماكنها ، وتطالب النساء بصراخهن وتأوهاتهن بظهور الفنان على الخشبة ، ويرتفع صفير الخصيان من حولهن ، حدث ما لم يخطر على بال أحد إذ ظهر كرينكو العظيم وهو يقبل كفيه ويلوح بهما باتجاه الفتيات ، ثم وقف أمام الجوقة وبدلا من الشروع في الغناء بصوته الابح الصادم ، أخذ وسط دهشة الجميع بخلع ملابسه قطعة فأخرى ، حتى كشف أخيرا عن شيئه وهو في حالة انتصاب وتوتر كاملين ، إذ اسكرته عطور النساء الشبقية ، لا ليس من السهل الامساك به لانه كان يدهن جسمه من الالف إلى الياء بالزيت حتى لا تتمكن يد من إحكام قبضتها عليه ثم كان عداء كفهد . أنت تعرف يا سيدي إنه ليس من السهل التقرب أو الوصول إلى وزير من الوزراء ، نعم! وزير بكرشه وفساده جعل منه كرينكو العظيم أضحوكة ، كان ضيفا يُحتفى به في مسقط رأسه لعدم تنحيته من منصبه طيلة تسعة عشرة سنة ، ومفاجأة الحفل هي صعود كرينكو إلى المكان المخصص لتلاوة الخطب ، وكانت قراءته لخطبته المبهمة غاية في العشوائية ، إذ جعل من الضمة فتحة والكسرة سكون ، وعلى الرغم من هذا تفاعل معه الجميع بالتصفيق والصفير ، لان التسكين والكسر في السياسة يعمي البصيرة ويصم الأُذن عن الإصغاء لطقطقة وتكسر عظام اللغة ، وعندما انهى خطبته حملوه فوق الأكتاف كي يصافح الوزير وحين وصله أخذ بتقبيله - بشفتيه المتشققتين من البرد والريح الشبيهتين بمكنسة قش - في وجهه ورأسه وجبينه وعينه ثم عضه في أنفه حتى امتلأ فمه بدم الوزير ومخاطه وذاب كالملح.
أقول لك إنه كرينكو العظيم وأنت تعجن وتخبز ، إنه كالشبح لا توجد نافذة إلا وقد قذف تحتها منيه بعد منتصف الليل ، وهو يراقب الفتيات وهن يتقلبن على أسرتهن في الحر ، ولا زوجا إلا ويعرف كيف يعتلي زوجته ، له عينان كعينا عظاءة ميتة ، ووجها يقف شعر رأسك حين تراه للمرة الاولى ، لكن سرعان ما يدخل إلى قلبك لانه ودود ، يلين كثيرا ويصبح قلبه كورق ( كلينكس ) إذا حدثته عن ظلم أو وجع ، يسرق من الاغنياء ليطعم غيره لكنه مات .
لا شيء .. لكني كلما أذكره أبكي لان وجوده كان يخفف من وطأة الظلم ، إذ كان قصاصه عادلا ، إذهب الان وأُنظر كيف تُعامل الناس المهمشين العاجزين ، إذ أن السخرية الاجتماعية ترادف القمع السياسي ، أحدهم يجلدك بلسانه والآخر بالكرباج ، وأنت شرطي مسكين يُسرق البنك في يوم عطلتك فبدلا من البحث عن الجناة يُزج بك معي ، آه لو كان كرينكو العظيم حيا وأخبرته لأشفى غليلك ، لكن يا للأسف!! مات وأنت في مسيس الحاجة إليه ، نعم ، أنا يا سيدي ابتسمت لي إمرأة فلوحت لها بشفتي كاشفا عن لساني وأسناني ، فجرجرني شرطي لعين إلى هنا متهما إياي بالمتسكع ومسبب الشغب ، كنت بعد موت صديقي كرينكو أقف قرب حانوت لبيع العطور كي اطرد نتانة المدينة من رئتي بالعطور المنسابة من الحانوت ، مغمضا عيني غارقا في لذة الروائح المجنحة في الجو ، وحين غمرتني العطور من الداخل فتحت عيني إذ بامرأة خارجة من الحانوت واقفة تتأملني ، كانت تحمل أكياسا كثيرة في كلتا يديها ، وترتدي فستانا أزرق يناسب حجمها وقامتها الممشوقة ، لا .. لست وسيما يا سيدي أُنظر إلى وجهي إنه كالخراء اليابس وكأن شمسا في السماء السابعة لوحته ، لم تتوقف عن الحملقة في وجهي والابتسام ، لا أُخفي عليك أن سروالي الداخلي بلله سائل كعصير اللوز وانتصب عمود هناك ، نعم ، كانت جميلة كفراشة ولها رائحة البطيخ الاصفر الطازج ، ثم رقّصت لي حاجبيها وفيما هي على وشك التوجه إلى سيارتها سقط كيس من أكياسها ، وكرجل لا يتأخر عن تقديم مساعدة ، قفزت وأمسكت بالكيس وهو على قيد ظفر من الأرض ، وأخذت الاكياس الأخرى وحملتها معها ، وبينما كنت أتهيأ لفتح الباب أعترضتني ذراع كجذع شجرة يغطيها شعر كثيف مشبع بالعرق .
- إلى أين ؟
ارتفع صوته وراء عنقي
- أضع الاكياس في المقعد ) قلت .
فطفق يخاطب المرأة وهي تقف عند بابها ويطالبها بعدم الاقتراب أو الاطمئنان لامثالي من الصعاليك . لم تحر المرأة جوابا والانكى أنها قلبت شفتيها إزدراء من تدخله الفظ ، ملوحة له بأصابعها قائلة في حزم :
- ابتعد ابتعد ..
ثم ودعتني بترقيص حاجبيها مرة أخرى وانطلقت دون أن تعير الشرطي اهتماما وهو لايزال مقرفصا ويسند ذراعيه على نافذة السيارة فطرحته أرضا ، وعندئذ قهقهتُ وضحكتُ يا سيدي ضحكة بإمكانها لو أنها تهبط على الارض دفعة واحدة أن تتغلغل إلى الاعماق حتى الارض الثانية أو الثالثة ، وإذا كان هناك نفطا او غازا تخرجه . نهض الشرطي عاضا على لسانه بين أسنانه ، رافعا يده في وجهي ، امسكت بذراعه في الهواء وقد تبدلت سحنتي ، وقلت له :
- أدخلها في إستك لو تكررها .
أفلت ذراعه من قبضة يدي واندفع نحوي ، بماذا أخبرك يا سيدي ؟ بيض ثعابين فقص في رأسي وأصبحت عيناي أنيابا تنفث سما .
- اقترب .
كنت أسمعه يصرخ ثم تشابكنا بالايدي وتبادلنا لكمات ونطحات ورفسا بالأقدام والرُكب ، ومثلما تمد يدك في الليل إلى قن دجاج متحسسا باحثا عن البيض ، كنت أتحسس بيدي في ليل زمجرتنا ولهاثنا البهيمي للعثور على حنجرته ، وكان رأسي حينئذ ملاصقا لرأسه ، وأخيرا .. وجدتها أحكمت عليها باصبعي الابهام والسبابة ، فغرزتهما بعناية .. وأفرغت قوة مئة كيلو في يدي فنزعتها وانفجر دمه غزيرا كريها متناثرا في وجهي ملطخا صدري ، لم يصدر صوتا ، بل ترنح مرة أو مرتين للخلف ، وذرعه قيء أخضر ضاربا إلى الصفرة مختلطا بكتل من الدم ، ثم تهاوى على الارض فاردا ذراعيه وقدمه اليمنى منثنية تحت الأخرى ، أذكر أني كنت واقفا ، لكن على حين غرة شعرت وكأنك كنت تشاهد التلفزيون ويقفل فجأة تاركا نقطا سودا تتراقص في بحر رمادي ، مصدرا صوتا يشبه أزيز الاضطراب ، لم أعرف ما حدث إلا هنا . وأما بخصوص إسمي يا سيدي .. هل نمت يا سيدي ؟! استيقظ استيقظ سأخبرك لماذا يسمونني ( كرينكو العظيم ) ؟.
ا