صباح «برد» جديد، جمع ناس يسير ببطء على طرق مغسولة بماء «مطر»، يتحادثون، يتضاحكون، يتهامسون.. دون ان يهتم احد ببرد واهم يجمد دماء العروق.
صوت نار في مدفأة جدارية قديمة يؤجج برد الشتاء، وماء منزلق على حوائط متدلية خلف ابواب جسور معلقة بين سماء وارض.
على غصن شجرة تحت مرأى البصر عصفور نشر جناحيه يغسل ريشه الرطب بأشعة الشمس تتسلل بحياء من نوافذ غيمات، ولون انكسار الضوء يفرش الافق بلوحات لونية مدهشة.
اتذكر ايام صيف مدينة خليجية ملتهبة، تمتد لاكثر من نصف العام، وافظع الاوقات تلك التي يتعطل فيها مكيف هواء السيارة، فيدفعنا لشعور يماثل من دفعته الاقدار ليسير دون ساتر بين رأسه والشمس، وحتى شعر الرأس ينحسر فيكشف سترا تحت نخاع.
مدينتي المبللة بماء المطر عطشى لحب، لشيء يبدد صمت الليالي وارجوحة القمر، ويعيد المدى للبحر للجبل، لعروس فاتها عريسها يوم الفرح، فنكست رأسها حتى توارت في حجاب، وغابت عن وجنتيها صباحات الصور.
صباح جديد، ومدينتي لا تغسل عينيها، تجمدت حبات اللؤلؤ في محاجرها، فقدت انوثتها، اودعت اطراف ضفائرها في سجن الليل، ذلك الليل السجين، المتمرد، المسكون بالعتمة الابدية.
اتذكر صوت الربيع يوم كان الربيع يغني، اتذكر الساعة الكبيرة المزروعة فوق الشعب، لا اذكر لون العشب، لا أزعم أنه كان اخضر، ربما، فكل عشب لا بد ان يكون اخضر، ومع ذلك فليس في رأسي اي صورة تذكرني بلون عشب الساعة، فقد امحت الالوان عندي كما امحى لون شعري.
البرد يشتد، السحب تتراكم كصفحات باهتة حالة، تعدو سريعة لاهثة، والشمس تغفو خلفها، تنتظر موعد اشراق جديد.
صوت مذيع اعرفه، كنا نعمل سويا في ريعان الشباب، يحذر من عاصفة ثلجية تغزو مناطق جبلية، يتحدث عن سيارات بين ثلوج يحاول رجال الانقاذ تحريرها من اسرها، ينقل عنهم ان الامور تحت السيطرة ولا داعي للقلق «الطرقات على العموم سالكة للسيارات المجهزة بسلاسل حديدية».
كم اكره السلاسل الحديدية، طالما عرفتها في مرحلة من العمر، اي عمر هذا يعيش بين السلاسل والقيود؟ الطفولة اسر، الشباب اسر، الرجولة اسر.
بياض مدينتي لم يكن غير غشاوة وضباب، اول نسمة اطاحت بكل الاسرار، جعلت من حجارة المدينة متاريس لكل الابطال المزعومين، اشباه الرجال، الذين ضحكوا علينا مسيرة عمر، غسلوا التراب بمداد الحمر، زرعوا الاصفاد في كل مكان، وكان نصب الشهداء الشاهد الوحيد فخلعوه ليعود شاهدا صامتا بعد ترويضه.
وددت لو اعود الى تلك المدينة بعد هجران طويل فأجد التراب عاد لوهجه، والحجارة امضت اثقالها، والنصب القى همومه، والحرية غادرت اصفادها.. فما وجدت غير «برد»، والناس تضحك من برد يجمد دماء العروق.
عيون السحاب المكحلة ترصدني في كل مكان، في مدرستي المنتصبة بشموخ قرب ما كان يعرف يخطوط تماس، في ملاعب تظلها اشجار الصنوبر المنخلعة من ارضها بعيد رحيلنا عنها بقليل، لتزرع الارض مكانها جبالا من الاسمنت المصقول، الملتصق بحبيبات ترابية دسناها بخفة وحب، عفرنا بها اقدامنا، غسلنا بها اكفنا ووجوهنا يوم عز الماء، وابيح التيمم…
تذكرت ذلك كله بعدما اشتعل الرأس شيبا، وفقدنا كل تلك الاحلام التي عانقت الصنوير.
حفرت ُ وصديق لي كلمات للذكرى، كنت اعود اليها لأراها من سنة لأخرى.
اتذكر التراب المسكون بغربتنا.
بعدما حفرت الكلمات، قرأت في كتاب ان جذوع الشجر تتضرر اذا حفرت التذكارات في جنباتها، حزنت كثيرا، قررت الامتناع عن الحفر في الشجر طوال العمر.
ما ظننت ان الاشجار كلها ستقتلع ليكتسح الاسمنت ملاعب الصبا ويدفن تحته ذاك التراب المتوج بفرح..!
صوت نار في مدفأة جدارية قديمة يؤجج برد الشتاء، وماء منزلق على حوائط متدلية خلف ابواب جسور معلقة بين سماء وارض.
على غصن شجرة تحت مرأى البصر عصفور نشر جناحيه يغسل ريشه الرطب بأشعة الشمس تتسلل بحياء من نوافذ غيمات، ولون انكسار الضوء يفرش الافق بلوحات لونية مدهشة.
اتذكر ايام صيف مدينة خليجية ملتهبة، تمتد لاكثر من نصف العام، وافظع الاوقات تلك التي يتعطل فيها مكيف هواء السيارة، فيدفعنا لشعور يماثل من دفعته الاقدار ليسير دون ساتر بين رأسه والشمس، وحتى شعر الرأس ينحسر فيكشف سترا تحت نخاع.
مدينتي المبللة بماء المطر عطشى لحب، لشيء يبدد صمت الليالي وارجوحة القمر، ويعيد المدى للبحر للجبل، لعروس فاتها عريسها يوم الفرح، فنكست رأسها حتى توارت في حجاب، وغابت عن وجنتيها صباحات الصور.
صباح جديد، ومدينتي لا تغسل عينيها، تجمدت حبات اللؤلؤ في محاجرها، فقدت انوثتها، اودعت اطراف ضفائرها في سجن الليل، ذلك الليل السجين، المتمرد، المسكون بالعتمة الابدية.
اتذكر صوت الربيع يوم كان الربيع يغني، اتذكر الساعة الكبيرة المزروعة فوق الشعب، لا اذكر لون العشب، لا أزعم أنه كان اخضر، ربما، فكل عشب لا بد ان يكون اخضر، ومع ذلك فليس في رأسي اي صورة تذكرني بلون عشب الساعة، فقد امحت الالوان عندي كما امحى لون شعري.
البرد يشتد، السحب تتراكم كصفحات باهتة حالة، تعدو سريعة لاهثة، والشمس تغفو خلفها، تنتظر موعد اشراق جديد.
صوت مذيع اعرفه، كنا نعمل سويا في ريعان الشباب، يحذر من عاصفة ثلجية تغزو مناطق جبلية، يتحدث عن سيارات بين ثلوج يحاول رجال الانقاذ تحريرها من اسرها، ينقل عنهم ان الامور تحت السيطرة ولا داعي للقلق «الطرقات على العموم سالكة للسيارات المجهزة بسلاسل حديدية».
كم اكره السلاسل الحديدية، طالما عرفتها في مرحلة من العمر، اي عمر هذا يعيش بين السلاسل والقيود؟ الطفولة اسر، الشباب اسر، الرجولة اسر.
بياض مدينتي لم يكن غير غشاوة وضباب، اول نسمة اطاحت بكل الاسرار، جعلت من حجارة المدينة متاريس لكل الابطال المزعومين، اشباه الرجال، الذين ضحكوا علينا مسيرة عمر، غسلوا التراب بمداد الحمر، زرعوا الاصفاد في كل مكان، وكان نصب الشهداء الشاهد الوحيد فخلعوه ليعود شاهدا صامتا بعد ترويضه.
وددت لو اعود الى تلك المدينة بعد هجران طويل فأجد التراب عاد لوهجه، والحجارة امضت اثقالها، والنصب القى همومه، والحرية غادرت اصفادها.. فما وجدت غير «برد»، والناس تضحك من برد يجمد دماء العروق.
عيون السحاب المكحلة ترصدني في كل مكان، في مدرستي المنتصبة بشموخ قرب ما كان يعرف يخطوط تماس، في ملاعب تظلها اشجار الصنوبر المنخلعة من ارضها بعيد رحيلنا عنها بقليل، لتزرع الارض مكانها جبالا من الاسمنت المصقول، الملتصق بحبيبات ترابية دسناها بخفة وحب، عفرنا بها اقدامنا، غسلنا بها اكفنا ووجوهنا يوم عز الماء، وابيح التيمم…
تذكرت ذلك كله بعدما اشتعل الرأس شيبا، وفقدنا كل تلك الاحلام التي عانقت الصنوير.
حفرت ُ وصديق لي كلمات للذكرى، كنت اعود اليها لأراها من سنة لأخرى.
اتذكر التراب المسكون بغربتنا.
بعدما حفرت الكلمات، قرأت في كتاب ان جذوع الشجر تتضرر اذا حفرت التذكارات في جنباتها، حزنت كثيرا، قررت الامتناع عن الحفر في الشجر طوال العمر.
ما ظننت ان الاشجار كلها ستقتلع ليكتسح الاسمنت ملاعب الصبا ويدفن تحته ذاك التراب المتوج بفرح..!