غفران طحّان - صوت.. قصة قصيرة

استيقظت من غفوتي على صوت يردد اسمي بكلّ ما أمكن من تفخيم لحرفي الغين والفاء وانسيابية الراء بألفها والنون بكامل غوايتها الساكنة.. هكذا: غفران!
تنبهت من فوري، تلفتُّ حولي، كانت الغرفة معتمة ومغلقة تماماً، ركزت سمعي مجدداً لا أنفاس أخرى غير أنفاسي، وصوت قلبي يهدر مجنوناً كعادته عندما أستيقظُ فجأة!
كان الشبّاك مفتوحاً بشكلٍ كامل، وبعضٌ من رذاذ المطر يتسلل نحو الداخل، كنت أرتجف بملابسي الصيفية. مددت يدي إلى معدتي، كانت ما تزال هادئة، جيد لم يصل البرد إليها، وإلا كانت أثارت صخباً ووجعاً لا يطاق.. تراها هي من أيقظني!؟ ضحكت من الفكرة، ثمّ أعدت إغماض عيني عميقاً لأعتاد العتمة وأتلمس التفاصيل من حولي..
رأيت شبحاً طويلاً يقف على مسافةٍ قريبة مني، دققت النظر كان يقترب ويبتعد، لا أدري ما القوة التي دفعتني للنهوض، والاقتراب نحوه رويداً رويداً..!
قربت يدي المرتجفة ثمّ وضعتها على جسده! كان ثوب الحمام، وقد نسيت أن أضعه في الخزانة.. ضحكت من غباء الموقف، وعدت إلى سريري، لكنني تذكرت مجدداً الصوت الذي أيقظني..
نهضت من سريري متسلحة بضوء هاتفي، تجولت في البيت، الكل نائم..
أخي الذي يمازحني عادة كان يغط في نوم عميق ومع ذلك هززته وسألته: هل ناديتني؟؟
لم يستجب لي، بل راح يكمل نومه بعمق؛ هززته مرة أخرى فنهض، وقال لي: لابد الصوت قادم من خيالك أو من حلم ما!
تجولت في البيت مرة أخرى أمي نائمة وكذلك أبي، حاولت استرجاع موسيقا الصوت، ليس صوتاً قريباً أو مألوفاً..
لم يكن اسمي الذي ردده هذا الصوت لطيفاً حنوناً كما يخرج من فم أمي، ولا كان ضاحكاً كما يخرج من فم أخي، ولا عميقاً فصيحاً كما يلفظه والدي، لم يكن أيضاً معطراً بالحبّ كما يلفظه حبيبي الغائب..
كان له نغمة حيادية.. لا سخرية فيها ولا تبجيل؛ تماماً كما تلفظ اسمي ممرضةٌ في عيادة طبيب، غير أنّه لم يكن مستعجلاً ..كان هادئاً وقوراً ومؤكَداً بطريقة اللفظ..
من ذاك الذي صرخ باسمي وأيقظني؟!
كنت أحلم بي في السوق أشتري عدداً من الأشياء الجميلة.. وكنت صحبة عدد من الأصدقاء والصديقات نتحدث بأمور كثيرة، لم يقاطعني أحد منهم ليقول اسمي بهذه الطريقة المسرحية: غفران..
ليس الصوت خارجاً من حلمي ذاك إذن!
خرجت إلى الشرفة.. قد يكون أحد الجيران ينادي باسمي، أو باسم أحد آخر حسناً ليس اسمي من الأسماء النادرة أذكر أنني تعرفت إلى غفرانات كثر.. إحداهنّ صديقة مقربة جداً، وإحداهنّ جعلتني ألوم أمّي وأبي على اسمي لشهرين متتابعين!
مددت رأسي خارج الشرفة، الجو هادئ وباردٌ خارجاً، بعض المطر مازال ينوس من غيمة ناعسة.. والشرفات أمامي خالية من أيّ حياة، الكل نائمٌ كما يبدو..!
حسناً إنني أتوهم.. ما من أحد سيستيقظ في هذا الوقت المتأخر من الليل ليلفظ اسمي وينام!
عدت إلى سريري محاولة تذكر أغنية تشغلني عن تداعيات النداء ذاك، رحت أدندن بنغمةٍ أحفظها، ثمّ بكلمات أغنية أخرى، وإذ بكلّ الأغنيات قد صارت تحمل اسمي فجأة!
أجبرت عينيّ على الإغماض، لتنهض حروف اسمي ضمن دوائر بيضاء تصغر وتكبر، ثمّ تتراقص الحروف أمامي عارية من المعنى، وفي قدم أحد الأحرف لمحت خلخالاً يتثنى، فبدا الراء في اسمي مرتجّاً تماماً كما يلفظه شخصٌ أكرهه!
فتحت عينيّ وظلّ خيال الحروف يلوح في العتمة..
رحت أردد اسمي بصوت يقارب الصوت الذي سمعته "غفران" بذات الحياد والهدوء والرصانة..
مرات ومرات.. ورحت أُلبِس الصوت لكلّ الناس الذين أعرفهم وقد غيبهم الموت فربّما هي روح زائرة تلك التي خاطبتني..
لا ليست جدتي الجميلة، فقد كانت تدلّع اسمي "غفورة" وصوتها ليس حيادياً كهذا الصوت.. وليست جارتنا التي كانت تصنع لي الكبة النيئة فقد كانت تمتلك صوتاً له بحّة ٌ عميقةٌ، ولا هو صوت صديقة لي قتلتها رصاصة طائشة فقد كان لصوتها نغمةٌ مرحة وناعمة، وليس صوت صديقي الذي استشهد بقذيفة حافظت على جدران بيته وقتلته..
ولا هو صوت ذاك الطفل الذي قتله صاروخ سقط على بنائهم وقد كنت أقضي وقتاً في لعب الكرة معه قبل أن أترك بيتي..
ولا هو صوت عمّتي التي ماتت من دون أن نستطيع رؤيتها وقد فرق بيننا حينها حدٌ فاصلٌ بين حلبين..
حسناً.. سئمت من كلّ هذا كائناً من كان ذاك الذي لفظ اسمي.. لم يعد يهمني!
::
غفوت قليلاً ثمّ استيقظت ذاكرتي ماذا لو كان ملك الموت هو الذي ردّد اسمي!
ارتحت للفكرة، ثمّ استسلمت لنومٍ عميق!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى