"حشاش بدقينتو"..
قالت ميمونة وهي تضحك ساخرة من هجو الراقد تحت ظل النيمة، والذي كظم غيظه وقال:
- إمشي يا امرأة وإلا جلدتك..
وميمونة هي ابنة أخيه من أمه، والتي لم ترث مال والدها عندما مات، هي كباقي النسوة، يجب أن تبقى في المنزل تحت إنفاق أعمامها -من زراعة الحواشة- عليها. لذلك فهي ناقمة على جميع أعمامها لأنها أُخرجت من المدرسة مبكراً بعد وفاة والدها. غير أن هجو لم يكن من الذين تدخلوا في مصيرها، وذلك ببساطة، لأن السيد هجو إنسان خامل. لا يهش ولا ينش، بل ولا يعمل..هو مثلها تماماً. ولسبب مجهول جمعت كل كرهها لأعمامها في شخصية هجو فباتت تنغص عليه سكنته بالمطاعنات الكلامية المستمرة. "هجو الخملة" ، "شوفلك شيتن أعملو متل الرجال"، " حشاش بدقينتو" أي الشخص الذي يعِد نفسه كل ليلة بحصد زراعته غدا مشيرا بلحيته إلى حدود الأرض " من هنا لحدوووت هناك"، ثم يستيقظ في الصباح وينسى وعده.
غير ان هجو لا يعِد نفسه بشيء، لا بلحيته ولا بغيرها، إنه ينام تحت ظل النيمة ويتفكر في قضايا مختلفة، مثل: لماذا لا يبيض الدجاج البطري إن لم يُعلَّف بعلفه الخاص به خلافاً للدجاج البلدي؟ وكيف اخترع الإنسان عجينة شراب "الحلو مر"؟ ثم يعزف تفكيره على تنويعات أخرى لا رابط بينها، كالله وخميرة الخبز..الخ. ينادي أثناء ذلك على صبية: "جيبي شاي".. فهو يكوِّم أكواب الشاي والقهوة تحت سريره الخشبي المجدول بحبال التيل القوية.
تعبر ميمونة من خلفه وتنغصه بكلمتين لاذعتين، فيتجاهلها أو يسبها: امشي يا سيقان النعجة"..، فتضحك هي بحنق وتغادر.
وأحياناً يشعر بضرورة التخلي عن سريره، فينهض ويذهب إلى الحواشات، فيقتلع بعض الخضروات ويأكلها بما علق عليها من طين وأسمدة. ثم يجلس على طرف الترعة متأملاً السماء فيمضي ساعتين أو ثلاث قبل أن يقفل راجعاً إلى سريره تحت النيمة..
ولم يختلف يومه ذاك عن باقي أيامه كثيراً، أيامه التي لا يفكر فيها أبداً، فبعد أن احتسى القهوة، فرك كفيه الكبيرتين، ونهض مغادراً إلى الحواشات.
كانت الظهيرة تنفح ببعض النسيم الناشز بين فينة وأخرى. وحقول الموز تترامى متمددة بلا نهاية، فغاص في عمقها، ومضى لا يلوي على شيء. ولكنه انتبه لآهات متقطعة، فتوقف قليلاً وحبس أنفاسه. ثم حرك قدميه بحذر كفهد بري، وهناك ألفى ميمونة والرجل عاريين.
- مع عبد يا ميمونة..مع عبد..
صاح فصرخت، وقفز الرجل من صدرها وفر تاركاً خلفه صدريته ، ولباسه السفلي منسدل تحت ساقيه ، معرقلاً هرولته المذعورة.
تلقت ميمونة لطمات وركلات هجو وهي تتضرع طالبة الستر. وفي محاولة أخيرة ويائسة منها، قبضت على رقبته بذراعيها وضمته إلى صدرها بأنفاس متلاحقة، فارتعش جسد هجو...وأظلم عقله...
عادت هي بخطوات غير متزنة، وهي تحاول تخفيف ملامح الفزع في وجهها.
في العصر يهبط منحنى الحرارة، وتسري برودة خفيفة في عظام هجو، فينفض رأسه ليتجاوز ذهوله، ثم يجمع ملابسه المتناثرة، عائداً لشجرة النيم.
انقضى عهد الصراع بينه وبين ميمونة، لقد تحول إلى عشق حرام. لكنه ظل مكتوما للأبد، أذ أن ميمونة كانت عاطلة عن الإنجاب. كل ما حدث أن روتين هجو قد تغير قليلاً، فبعد العودة من الحواشات، يتجه إلى سوق الكرور، حيث يبيع المسحوقون ممن يوصفون بالعبيد سلعاً بخسة، كمسحوق الويكة والشطة، ومكسرات الدوم، والحلبة، والثوم وخلافه...هناك يبحث هجو عن ذلك الشاب، بحثاً دؤوباً، فلا يجد له أثراً، فيقفل عائداً، ويمر ببعض رجال القرية فيصيح:
- أعملو حسابكم من هؤلاء العبيد..إنهم خطرون...
ثم يسرد قصصاً تحفز روح العنصرية فيهم، حتى تسود وجوههم..، فيغادر هجو، وعقله مشغول بالشاب. ثم حين يلتقي بميمونة، يسألها عن اسم الشاب، فتصمت..يلطمها فتصر على الصمت وهي تبكي.
طلب منها يوماً ألا تأتي في الغد إلى الحواشات. فاستجابت، ثم علمت السبب بعد ذلك، إذ التهمت نيران عظيمة جانباً كبيراً من الزرع.
كانت خسارة بالملايين لأهالي القرية، فأكد لهم هجو أنه رأى أحد العبيد يحرق الزرع ثم يفر، ولتأكيد زعمه أخرج صدرية زرقاء وقال:
- شمو..رائحة العبيد.. لقد سقطت منه أثناء فراره..
وراقبت ميمونة حشود الرجال وهي تحمل مشاعل النار وتتجه إلى سوق العبيد. كانت مجزرة هائلة. دكاكين القش والرواكيب احترقت، والجثث ترامت في كل زاوية، بعض العبيد، فروا وعادوا بمدد من الرجال والسلاح وخلفهم النساء والأطفال. كان الظلام قد غطى السماء، لكن النيران أضاءتها، وكان وجه هجو يلمع بضوء اللهب وعيناه مفتوحتان كعيني ذئب، كان يحوم داخل أزقة السوق، باحثاً عن الشاب. ولوهلة خيل إليه أنه رأى طرف جلباب الشاب. فحث خطاه، إلى أن سمع أصوات هرولة الشاب، دق قلب هجو وعض على أضراسه، ولاحق الشاب في الخلاء الشاسع...كان الشاب يعرج، فلم يلبث أن بلغه هجو وسدد إلى صدره طعنات متفرقة، ولم يتوقف عن الطعن حتى تأكد من لفظ الفتى لأنفاسه.
في صباح اليوم التالي، ظل هجو راقداً تحت شجرة النيم، وقد عاد للتفكير في مسائل لا رابط بينها. غير أن حبل أفكاره انقطع حين أحس بعيني ميمونة تنظر له من بعيد. التفت إليها فأشارت إليه بنظرات متسائلة. هز رأسه نفياً وهمس: "ليس هذه الأيام..". فغطت فمها بثوبها وغادرت بصمت.
عاد هو للرقود ثم صاح:
" الشاي يا بت"..
(تمت)..
قالت ميمونة وهي تضحك ساخرة من هجو الراقد تحت ظل النيمة، والذي كظم غيظه وقال:
- إمشي يا امرأة وإلا جلدتك..
وميمونة هي ابنة أخيه من أمه، والتي لم ترث مال والدها عندما مات، هي كباقي النسوة، يجب أن تبقى في المنزل تحت إنفاق أعمامها -من زراعة الحواشة- عليها. لذلك فهي ناقمة على جميع أعمامها لأنها أُخرجت من المدرسة مبكراً بعد وفاة والدها. غير أن هجو لم يكن من الذين تدخلوا في مصيرها، وذلك ببساطة، لأن السيد هجو إنسان خامل. لا يهش ولا ينش، بل ولا يعمل..هو مثلها تماماً. ولسبب مجهول جمعت كل كرهها لأعمامها في شخصية هجو فباتت تنغص عليه سكنته بالمطاعنات الكلامية المستمرة. "هجو الخملة" ، "شوفلك شيتن أعملو متل الرجال"، " حشاش بدقينتو" أي الشخص الذي يعِد نفسه كل ليلة بحصد زراعته غدا مشيرا بلحيته إلى حدود الأرض " من هنا لحدوووت هناك"، ثم يستيقظ في الصباح وينسى وعده.
غير ان هجو لا يعِد نفسه بشيء، لا بلحيته ولا بغيرها، إنه ينام تحت ظل النيمة ويتفكر في قضايا مختلفة، مثل: لماذا لا يبيض الدجاج البطري إن لم يُعلَّف بعلفه الخاص به خلافاً للدجاج البلدي؟ وكيف اخترع الإنسان عجينة شراب "الحلو مر"؟ ثم يعزف تفكيره على تنويعات أخرى لا رابط بينها، كالله وخميرة الخبز..الخ. ينادي أثناء ذلك على صبية: "جيبي شاي".. فهو يكوِّم أكواب الشاي والقهوة تحت سريره الخشبي المجدول بحبال التيل القوية.
تعبر ميمونة من خلفه وتنغصه بكلمتين لاذعتين، فيتجاهلها أو يسبها: امشي يا سيقان النعجة"..، فتضحك هي بحنق وتغادر.
وأحياناً يشعر بضرورة التخلي عن سريره، فينهض ويذهب إلى الحواشات، فيقتلع بعض الخضروات ويأكلها بما علق عليها من طين وأسمدة. ثم يجلس على طرف الترعة متأملاً السماء فيمضي ساعتين أو ثلاث قبل أن يقفل راجعاً إلى سريره تحت النيمة..
ولم يختلف يومه ذاك عن باقي أيامه كثيراً، أيامه التي لا يفكر فيها أبداً، فبعد أن احتسى القهوة، فرك كفيه الكبيرتين، ونهض مغادراً إلى الحواشات.
كانت الظهيرة تنفح ببعض النسيم الناشز بين فينة وأخرى. وحقول الموز تترامى متمددة بلا نهاية، فغاص في عمقها، ومضى لا يلوي على شيء. ولكنه انتبه لآهات متقطعة، فتوقف قليلاً وحبس أنفاسه. ثم حرك قدميه بحذر كفهد بري، وهناك ألفى ميمونة والرجل عاريين.
- مع عبد يا ميمونة..مع عبد..
صاح فصرخت، وقفز الرجل من صدرها وفر تاركاً خلفه صدريته ، ولباسه السفلي منسدل تحت ساقيه ، معرقلاً هرولته المذعورة.
تلقت ميمونة لطمات وركلات هجو وهي تتضرع طالبة الستر. وفي محاولة أخيرة ويائسة منها، قبضت على رقبته بذراعيها وضمته إلى صدرها بأنفاس متلاحقة، فارتعش جسد هجو...وأظلم عقله...
عادت هي بخطوات غير متزنة، وهي تحاول تخفيف ملامح الفزع في وجهها.
في العصر يهبط منحنى الحرارة، وتسري برودة خفيفة في عظام هجو، فينفض رأسه ليتجاوز ذهوله، ثم يجمع ملابسه المتناثرة، عائداً لشجرة النيم.
انقضى عهد الصراع بينه وبين ميمونة، لقد تحول إلى عشق حرام. لكنه ظل مكتوما للأبد، أذ أن ميمونة كانت عاطلة عن الإنجاب. كل ما حدث أن روتين هجو قد تغير قليلاً، فبعد العودة من الحواشات، يتجه إلى سوق الكرور، حيث يبيع المسحوقون ممن يوصفون بالعبيد سلعاً بخسة، كمسحوق الويكة والشطة، ومكسرات الدوم، والحلبة، والثوم وخلافه...هناك يبحث هجو عن ذلك الشاب، بحثاً دؤوباً، فلا يجد له أثراً، فيقفل عائداً، ويمر ببعض رجال القرية فيصيح:
- أعملو حسابكم من هؤلاء العبيد..إنهم خطرون...
ثم يسرد قصصاً تحفز روح العنصرية فيهم، حتى تسود وجوههم..، فيغادر هجو، وعقله مشغول بالشاب. ثم حين يلتقي بميمونة، يسألها عن اسم الشاب، فتصمت..يلطمها فتصر على الصمت وهي تبكي.
طلب منها يوماً ألا تأتي في الغد إلى الحواشات. فاستجابت، ثم علمت السبب بعد ذلك، إذ التهمت نيران عظيمة جانباً كبيراً من الزرع.
كانت خسارة بالملايين لأهالي القرية، فأكد لهم هجو أنه رأى أحد العبيد يحرق الزرع ثم يفر، ولتأكيد زعمه أخرج صدرية زرقاء وقال:
- شمو..رائحة العبيد.. لقد سقطت منه أثناء فراره..
وراقبت ميمونة حشود الرجال وهي تحمل مشاعل النار وتتجه إلى سوق العبيد. كانت مجزرة هائلة. دكاكين القش والرواكيب احترقت، والجثث ترامت في كل زاوية، بعض العبيد، فروا وعادوا بمدد من الرجال والسلاح وخلفهم النساء والأطفال. كان الظلام قد غطى السماء، لكن النيران أضاءتها، وكان وجه هجو يلمع بضوء اللهب وعيناه مفتوحتان كعيني ذئب، كان يحوم داخل أزقة السوق، باحثاً عن الشاب. ولوهلة خيل إليه أنه رأى طرف جلباب الشاب. فحث خطاه، إلى أن سمع أصوات هرولة الشاب، دق قلب هجو وعض على أضراسه، ولاحق الشاب في الخلاء الشاسع...كان الشاب يعرج، فلم يلبث أن بلغه هجو وسدد إلى صدره طعنات متفرقة، ولم يتوقف عن الطعن حتى تأكد من لفظ الفتى لأنفاسه.
في صباح اليوم التالي، ظل هجو راقداً تحت شجرة النيم، وقد عاد للتفكير في مسائل لا رابط بينها. غير أن حبل أفكاره انقطع حين أحس بعيني ميمونة تنظر له من بعيد. التفت إليها فأشارت إليه بنظرات متسائلة. هز رأسه نفياً وهمس: "ليس هذه الأيام..". فغطت فمها بثوبها وغادرت بصمت.
عاد هو للرقود ثم صاح:
" الشاي يا بت"..
(تمت)..