فتحتُ المظروف الأحمر الجميل أمام الرسول، حتى أتأكد من أن الدعوة بالفعل موجهة إليَ. رأيتُ إسمي مكتوباً بخطٍ جميلٍ منمق(مناني طمبرة)، فشهقتُ بإرتياح قائلاً لنفسي:بدأت هذه المدينة تقبلني، ثم ضحكتُ عندما برقت في رأسي خاطرة
- ألم يكن من الأفضل لهم توجيه الدعوة إلى دينق.
خطرت الفكرة لأن الرسول الذي سلمني كرت الدعوة، قال بجدية مفرطة وحماس يناسب عنفوان سنه الصغير، والزغب النابت على ذقنه:
- بعد تناول العشاء سوف تكون هنالك حفلة ساهرة، بالإضافة إلى الفواصل الموسيقية الحيّة التي سوف تقدمها فرقة أميل عدلان، الجميع مدعون إلى الإستمتاع بأجمل الأغاني الكنغوليّة، ويُقال إن بعض الأسطوانات قد جُلبت خصيصاً للمناسبة من كنشاسا، لاشك أبداً في أنها سوف تكون المناسبة الأكثر روعة و إنبهاراً في تاريخ المدينة.
لقد شدّدَ على الجزء الأخير من كلامه، كأنه يفضي بسر خطير. أردتُ أن أقول له إنه لا يهمني أبداً في شيء، لو جلبوا موزيكا لانقا لانقا، أو حتى فرانكو نفسه لإحياء الحفل.
فكرتُ أن أقاطعه كيما أخبره أنه يضيّع من وقته، في الإحتفاء بنافخي النحاس عديمي الضمير، أولئك الذين أخذوا يواصلون النفخ و العزف كأنما باتريس لوممبا إيقونة التحرّر لم يمت.
لكني لجمتُ لساني عن الكلام عندما تذكرتُ، أن إبني دينق أكثر المنجرّين وراء أولئك الكنغوليين، لدرجة أنه يحاول ماكراً تثبيت مؤشر الراديو في موضع الإذاعة الكنغوليّة حتى يضيّع وقته في موسيقاهم الماجنة، بالإضافة إلى توجسي من أن يُفسر أي سوء فهمٍ لكلامي بإعتباره إهانةً لصاحب الدعوة نفسه.
ربما لذلك و بكل رياء و مجاملة يستطيع شخصي الإقدام عليها. تعاملتُ مع الرسول مظهراً الإهتمام الشديد بكل كلمة نطق بها، محركاً رأسي إلى الأسفل و الأعلى، أو قائلاً في بعض الأحيان:
- وووووو كم سوف يكون ذلك رائعاً..!
رغم إمتلاكي أسباباً وجيهة لرفض الدعوة التي أتتني عصراً، بينما كنتُ أتلذذ بأكل كرات القاديا المتبلة بزيت الاومبيرا مع شرائح لحم ورل مائي، منشرح النفس تحت شجرة العرديبة التي تتوسط المنزل، والمذياع أمامي يعلن زمن الأخبار، فإن سبباً وجيهاً أيضاً، جعلني أقبل الدعوة على الفور.
لقد كنتُ أحتاج إلى مخالطة الناس في مناسباتهم، حتى يزيلوا الصورة الخاطئة التي إستقرت في عقولهم عني، وهي عند أفضلهم ظناً بي:
أنني لغزٌ، فيما يرى البعض من الذين يعتقدون أنهم فكوا لغز شخصتي، إن الأمر كله تلخص في كلمة واحدة: شيوعي.
رغم أن ما يقولونه بعيداً عن الحقيقة تماماً، فأنني أستطيع تقبّل الإتهام بالإنتماء إلى الشيوعيين لعدة أسباب، أولى تلك الأسباب لديهم، هو مرور الأستاذ جوزيف بمنزلي كلما جاء إلى المدينة، لكن بالنسبة إلىَ فالأمر يعود إلى مدينة أنزارا و أيامها الجميلة.
تلك الأيام التي أستمدٍّ منها قوتي، كلما شعرتُ بالحياة تضيق الخناق علىّ، حيث لا أمل أبداً من إجترار ذكرياتها عند كل ضائقة أمر بها، كأنما تلك الأيام تعويذة ضد شرور الدنيا جميعها.
إنها لعبة تُسمى الهروب إلى الأيام الجميلة، تعلمتها في مدرسة الغابة بقرية مفيو على يد الكاهن الإيطالي الذي كان يدرسنا جميع المواد، لقد كان يرفع معنوياتنا عندما يرى الإحباط على وجوهنا جراء الرسوب في إحدي المواد بالهتاف متحمساً:
- لا يجب أن تشعروا بالإحباط، أو يكره أحدكم نفسه لأنه لم ينجح، تذكّروا تلك الأيام التي نجحتم فيها، ولسوف تتجاوزن هذه المشاعر السئية. تمسكوا بالسعادة تتمسك بكم السعادة!
هنالك بين الأشجار شامخة العلو، ومجاري المياه دائمة الجريان، والشوارع المقفرة على الدوام ساعات النهار، بسبب تفرق المدينة كلها بين العمل في معامل النسيج، أو مزارع القطن للإهتمام بلوزاتها الثمينة، أو في عمق الغابات المممتدة حتى مدينة بانقي الفرنسية، تعقباً للطرائد بالنسبة للذين لم ينخرطوا في دوامة الصناعة و الزراعة، التي جعل معالي الحاكم العام يطلب من الحسن السيرة الخواجة د.ج.توتهل،أن يخطط لها و يختار مدينتنا لتكون قلباً ينبض بإزدهارها.
وقد كان تفتح القطن لإول مرة مناسبة كبيرة للفرح؛ حيث جاء الناس للإحتفال من مدن بعيدة، لقد جاءوا لمشاهدة كيف يُحصد هذا المحصول الذي عُلق عليه، كل أمآل التقدم و الإزدهار و النهضة، وهي ذات المعاني التي أكّد عليها مفتش المركز الذي قطف اللوزة الاولى، معلناً للجمهور دخول المنطقة عصر الصناعة والتقدم.
وصفق الجمهور كثيراً لقول المفتش:
- إن النسيج الذي سوف ينتج في مصانع المدينة،سيجد طريقه إلى ملابس ساكني قصر بكنغهام.
هكذا بدأ كل شيء ولم تعد المدينة قرية مجهولة، تقع في الطريق بين مدينتي الملكيين العدويين، يامبيو و طمبرة، لقد أصبحت إسماً متكرر الذكر على ألسنة جميع مَنْ يحلمون بتغيير أوضاعهم إلى الأفضل.
في البداية كان الجميع منشرحين من الطريقة التي تسير عليها الأمور؛ حيث كان الموظف في المصنع يقبض في نهاية الشهر جينهاً واحداً، يذهب به سعيداً إلى المنزل وقد ضمن شراء جميع إحتياجات العائلة من ملح و سكر و صابون، وكانت بعض المليمات تبقى للترويح عن النفس، هذا بالنسبة للذين لم يعودوا يستلذّون جرعات الجعّة المحلي المصنوع من تخمير الأناناس، لقد كانوا يهرولون كل مساء إلى الدكاكين التي تبيع الجعّة المهربّة عبر الحدود من الكنغو.
إستمر هذا الروتين السعيد الذي إستلذّته النفس، والمضبوط بإيقاعٍ ثابت مثل شروق الشمس و غروبها؛ حيث كنا نخرج مع إشعة الصبح الاُولى إلى المصنع، لنعود عند الخامسة مساءاً مع شفق الغروب.
لكن ما أن بدأت سنة جلاء الإنجليز تقترب حتى إنكسر ذلك الروتين السعيد، بحيث لم تعد ساعات اليوم طويلة كما كانت من قبل.
في البداية جاء إلينا من جوبا مَنْ حدثنا عن الظلم الكبير، الذي ينتظرنا نحن الجونبيين إذا ما تركنا الإنجليز يرحلون، دون أن يقوموا بتسليمنا الفدرالية في أيدينا:
- دون الفدرالية سوف تعود أزمنة العبودية، وسوف نرى صائدي البشر من جديد، علينا أن التكاتف أيها الإخوة من أجل الفدرالية.
كانوا يشددون في جميع مخاطبتهم السِريّة وسط العمال.
ثم جاءنا من الخرطوم مَن قالوا، إن الإزدهار والتقدم على الأبواب، لكنهما ينتظران فقط خروج المستعمر، وقالوا لنا أيضاً إن المستعمر هو مَنْ يزرع ترهات مثل الفدرالية في العقول حتى يفرق أبناء الوطن الواحد.
وجاءنا من الخرطوم أيضاً، مَنْ قالوا لنا إن جميع مشكلاتنا، إنما تحل بتوفير المساوة و إفشاء العدالة بين الناس، و إن خروج المستعمر ليس سوى مسافة قصيرة في الطريق إلى تلك العدالة، ثم قالوا:
- إن العدالة تبدأ بمساوة الأجور في كل إقاليم البلاد.
إلى الفريق الثالث والذي كان يتحدث بالإنابة عنه، ودون خوفٍ من فقدان وظيفته كطبيب للمركز، مستهلاً الحديث بلازمة ثابتة ‘‘هذا ما أشار إليه ماركس’’.
وجدتُ نفسي أميلُ و أصبحتٍ كثير الجلوس مع الطبيب، لدرجة أنه طلب مني ذات يوم تعليمه لغتنا قائلاً:
- يجب أن تكون لغتكم وعاءاً لحمل أفكار التحرّر إليكم.
و ذات مساءٍ آخر قال:
- أريد أن ترى شيئاً مهماً.
دخل إلى غرفته ثم عاد يحمل حزمة من الأوراق، و من بينها أخرج ورقة مطويّة بشكل يشير إلى توخي السِريّة إزائها، ثم قال مازحٍ إذ لاحظ القلق على وجهي:
- لا تخف من هذه الكومة، فقط سوف نتعامل مع هذه القصاصة.
قال ذلك ملوحاً بالورقة المطوية في الهواءِ.
كانت الورقة تتحدث عن الأجور و ضرورة مساوتها بأجور العمال في بقية إنحاء البلاد، وضرورة تحسين بيئة العمل، و وصفت الورقة محالج القطن، ومعاصر زيت النخيل، ومعامل الصابون، بمؤسسات الراسمالية التي بُنيّت من أجل خدمة الإستعمار حتى بعد مسرحية خروجه.
إنهم سوف يواصلون مهمتهم الإمبريالية عبر وكلائهم المحليين، لقد كان الطبيب يشدّد على هذه النقطة كلما تحدث عن الإستعمار.
بعدما أوجز الأفكار المكتوبة بالإنجليزية في الورقة،قال لي:
- علينا إيصال هذه الأفكار إلى جميع الناس، حتى الذين إكتفوا بالفصل الأول من المرحلة الأولية في تعليمهم، يجب أن تترجم هذه الأفكار إلى لغتهم، لا تجب أن تُكتب أبجدية اللغة لإستخدامها في الترانيم فقط، هذه الورقة أيضاً تنشد خلاصهم تماما مثلما هو الأمر بالنسبة للإنجيل، فكن انت يا مناني المخلص الذي يأخذ بأيديهم إلى النور، بعيداً عن الظلم والإستغلال.
هكذا مكثنا طوال الليل هو وأنا، نترجم تلك الأفكار إلى لغة الزاندي.
في الصباح كانت المنشورات تملأ ارجاء المدينة، في أيدي صبية المدارس، في جدران المباني، على جذوع الإشجار العملاقة في السوق، لقد كان حديث جميع الناس. لقد بدأت الأصوات تعلو في كل مكان من المدينة:
- ريد زيادة أجورنا، يجب أن تُشترى منا لوزات القطن، بنفس سعره في مدني.
لم يغضب المدير الإنجليزي وحده، لقد غضب أيضاً الذين جاءوا من الخرطوم، طالبين تأجيل كل شيء حتى جلاء الإستعمار، لقد علّقوا على الأمر قائلين:
- إنها ليست سوى خديعة إستعمارية، أن تُوزع المنشوارات بلغة الزاندي التي تجب أن تظل داخل الكنيسة فقط.
بعد ذلك بأيام قليلة، سمعت لأول مرة كلمة: ‘‘شيوعي’’، وذلك عندما سمعت مدير المشروع يتحدث مع قمندان البوليس قائلاً:
- لا شك عندي أبداً في أن مَنْ يقف وراء هذا التحريض على العصيان، و ينفخ رؤوس العمال بمختلف أنواع الترهات، هو ذلك الطبيب الشيوعي.
كنّا نحتسي خمر الأناناس مساءاً في منزله عندما سألته:
- هل صحيح أنك شيوعي؟.
صمت فترة ثم قال بصوت منشرح:
- أنا معادي للإستعمار سواء أكان قادماً من لندن أو أمدرمان، إذا كنت تقصد بالشيوعية سلوكي هذا، فأنا شيوعيٌ بالفعل، ويمكنك من الان فصاعداً منادتي؛ بالشيوعي.
صببتُ لنفسي كل الخمر المتبقي في قعر الزجاجة قائلاً:
- وناديني كذلك؛ بالشيوعي.
بعد ذلك المساء أصبحنا نجلس كثيراً، في منزله الحكومي الملاصق للشفخانة، و هو يتحدث إلىّ حتى منتصف الليل، عن ماركس و تضحيات أنجليس من أجل رفاهية العالم، لكنه كان يبدو حزيناً عندما يذكر الإتحاد السوفياتي.
- لقد شُوهوا أفكار ماركس العظيمة بأفعالهم.
كان يقول بصوت منكسر
لقد إستمرت لقاءاتنا معاً، مرات في منزله، ومرات في بستان البرتقال في منزلنا العائلي، حتى إندلع القتال في ثكنات الجيش بمدينة توريت قبل جلاء الإنجليز بأشهرٍ، و كاد أن يُقتل عندما وصلت أعمال العنف مدينتنا، إلّا أنه اُصيب بجراح فقط عندما هجم عليه الغوغاء، الذين لم يسمعوا عن أفكاره قط، فقط نظروا إلى سحنته الصفراء مثل باباي ناضج و قالوا لأنفسهم:
- هذا أيضاً مندكرو.
وقد ظل بعد ذلك اليوم الدامي، دون خبرٍ و مفقودٍ بالنسبة لي، حتى صفق أحدهم يديه أمام المنزل سائلاً عما إذا كان مناني موجوداً، وفور ظهوري ودون أن ينخرط في مجاملات شرب الماء، وضع رسالة في يدي، ثم إختفى في الطريق العام، متجهاً جنوباً إلى يامبيو، أو مريدي ربما.
(أشكر الملازم دينق فقد أنقذ حياتي.
أنا بخير.
للأفكار التقدميّة تربة صالحة حيث أنا.
إن مدينة واو جميلة بحق، كن الأجمل أن تكون أنت يا صديقي مَنْ يغرس أفكار التقدم فيها).
كانت رسالته مقتضبة جداً، لكن وقعها كان شديداً علىّ، بحيث شعرتُ على نحو ما، أن الرسالة، ليست سوى دعوة لي كيما إقدم على القيام بعمل ما.
تأملتُ كلمات الرسالة أكثر من مرة، ثمة شيءٍ كان علىّ القيام به كواجب، وهو أن أشكر الملازم دينق، لكن عقبة كانت تقف في سبيل أنجاز ذلك الواجب. وهو أنه لم يعد في المدينة ضابطٌ بهذا الإسم؛ حيث علمتُ من بعض الجنود أنه قد تمّت ترقيته ونقله إلى بورتسودان.
لقد ظل الإيفاء بهذا الواجب معضلة في رأسي، حتى أتى ذلك المساء حيث برق الحل بغتةً كما الوحي. كنتُ قد عدتُ من نادي المدينة عندما وجدتُ زوجتي توقد نار العشاء:
- أين الولد؟
إنه يلعب في مزرعة الأناناس.
- هل تم تجهيزه بالكامل من أجل يومه الأول في المدرسة؟
بالطبع و سوف يكون حضورك مهم جداً
- بالطبع، لكن أسمعني جيداً؛ هل هنالك مالم يعجبك في التجهيزات؟
- أريدكِ فقط،ودون أسئلة أن تقومي بهذا، عليك تقييده في السجل المدرسي بإسم دينق، بدلاً عن إسم جوزيف.
ماذا.. لكن!!
- ألم أقل دون أسئلة
لا أدري كم من الوقت قد مضى، قبل أن يكف الأساتذة في المدرسة ألسنتهم عن السؤال، عما إذا كان إسم الطفل بالفعل دينق؟.
لكنها كانت الطريقة الوحيدة المتاحة لي، كيما أنفذ وصية صديقي الطبيب، في وجوب تقديم الشكر إلى مَنْ أنقذ حياته، لأنه كلما تم نداء الطفل بالإسم الجديد، أحس بنفسي أقدم الشكر إلى الملازم دينق من أجل إنقاذه حياة صديقي.
حدث ذلك في نهاية العام الذي رُفِع فيه العلم ذو الثلاثة ألوان، على سرايا الحاكم العام الذي غُير إسمه فوراً ليُسمى بالقصر الجمهوري.
بعد ذلك بعامٍ واحد تركت أنزارا بعد شعوري برغبة جارفة في الإرتحال، وفي رأسي كلمات صديقي حول مدينة واو:
- للأفكار التقدمية تربة صالحة حيث أنا.
لقد وصلتُ المدينة في شهر أبريل؛ الموسم الأول للمانجو، لكن بعد سنواتي الطويلة بها، مازلتُ لا أستطيع فهم إصرار الناس على إطلاق وصف غريب الأطوار عليّ، و الإستدلال على على ذلك بالقول
- لماذا يُسمي إبنه دينق، وهو الزاندوي الأصيل!.
#بوي_جون
(طبيب، كاتب روائي، وشاعر، ومترجم من دولة جنوب السودان)
#مكتبة_أغردات_العامة
- ألم يكن من الأفضل لهم توجيه الدعوة إلى دينق.
خطرت الفكرة لأن الرسول الذي سلمني كرت الدعوة، قال بجدية مفرطة وحماس يناسب عنفوان سنه الصغير، والزغب النابت على ذقنه:
- بعد تناول العشاء سوف تكون هنالك حفلة ساهرة، بالإضافة إلى الفواصل الموسيقية الحيّة التي سوف تقدمها فرقة أميل عدلان، الجميع مدعون إلى الإستمتاع بأجمل الأغاني الكنغوليّة، ويُقال إن بعض الأسطوانات قد جُلبت خصيصاً للمناسبة من كنشاسا، لاشك أبداً في أنها سوف تكون المناسبة الأكثر روعة و إنبهاراً في تاريخ المدينة.
لقد شدّدَ على الجزء الأخير من كلامه، كأنه يفضي بسر خطير. أردتُ أن أقول له إنه لا يهمني أبداً في شيء، لو جلبوا موزيكا لانقا لانقا، أو حتى فرانكو نفسه لإحياء الحفل.
فكرتُ أن أقاطعه كيما أخبره أنه يضيّع من وقته، في الإحتفاء بنافخي النحاس عديمي الضمير، أولئك الذين أخذوا يواصلون النفخ و العزف كأنما باتريس لوممبا إيقونة التحرّر لم يمت.
لكني لجمتُ لساني عن الكلام عندما تذكرتُ، أن إبني دينق أكثر المنجرّين وراء أولئك الكنغوليين، لدرجة أنه يحاول ماكراً تثبيت مؤشر الراديو في موضع الإذاعة الكنغوليّة حتى يضيّع وقته في موسيقاهم الماجنة، بالإضافة إلى توجسي من أن يُفسر أي سوء فهمٍ لكلامي بإعتباره إهانةً لصاحب الدعوة نفسه.
ربما لذلك و بكل رياء و مجاملة يستطيع شخصي الإقدام عليها. تعاملتُ مع الرسول مظهراً الإهتمام الشديد بكل كلمة نطق بها، محركاً رأسي إلى الأسفل و الأعلى، أو قائلاً في بعض الأحيان:
- وووووو كم سوف يكون ذلك رائعاً..!
رغم إمتلاكي أسباباً وجيهة لرفض الدعوة التي أتتني عصراً، بينما كنتُ أتلذذ بأكل كرات القاديا المتبلة بزيت الاومبيرا مع شرائح لحم ورل مائي، منشرح النفس تحت شجرة العرديبة التي تتوسط المنزل، والمذياع أمامي يعلن زمن الأخبار، فإن سبباً وجيهاً أيضاً، جعلني أقبل الدعوة على الفور.
لقد كنتُ أحتاج إلى مخالطة الناس في مناسباتهم، حتى يزيلوا الصورة الخاطئة التي إستقرت في عقولهم عني، وهي عند أفضلهم ظناً بي:
أنني لغزٌ، فيما يرى البعض من الذين يعتقدون أنهم فكوا لغز شخصتي، إن الأمر كله تلخص في كلمة واحدة: شيوعي.
رغم أن ما يقولونه بعيداً عن الحقيقة تماماً، فأنني أستطيع تقبّل الإتهام بالإنتماء إلى الشيوعيين لعدة أسباب، أولى تلك الأسباب لديهم، هو مرور الأستاذ جوزيف بمنزلي كلما جاء إلى المدينة، لكن بالنسبة إلىَ فالأمر يعود إلى مدينة أنزارا و أيامها الجميلة.
تلك الأيام التي أستمدٍّ منها قوتي، كلما شعرتُ بالحياة تضيق الخناق علىّ، حيث لا أمل أبداً من إجترار ذكرياتها عند كل ضائقة أمر بها، كأنما تلك الأيام تعويذة ضد شرور الدنيا جميعها.
إنها لعبة تُسمى الهروب إلى الأيام الجميلة، تعلمتها في مدرسة الغابة بقرية مفيو على يد الكاهن الإيطالي الذي كان يدرسنا جميع المواد، لقد كان يرفع معنوياتنا عندما يرى الإحباط على وجوهنا جراء الرسوب في إحدي المواد بالهتاف متحمساً:
- لا يجب أن تشعروا بالإحباط، أو يكره أحدكم نفسه لأنه لم ينجح، تذكّروا تلك الأيام التي نجحتم فيها، ولسوف تتجاوزن هذه المشاعر السئية. تمسكوا بالسعادة تتمسك بكم السعادة!
هنالك بين الأشجار شامخة العلو، ومجاري المياه دائمة الجريان، والشوارع المقفرة على الدوام ساعات النهار، بسبب تفرق المدينة كلها بين العمل في معامل النسيج، أو مزارع القطن للإهتمام بلوزاتها الثمينة، أو في عمق الغابات المممتدة حتى مدينة بانقي الفرنسية، تعقباً للطرائد بالنسبة للذين لم ينخرطوا في دوامة الصناعة و الزراعة، التي جعل معالي الحاكم العام يطلب من الحسن السيرة الخواجة د.ج.توتهل،أن يخطط لها و يختار مدينتنا لتكون قلباً ينبض بإزدهارها.
وقد كان تفتح القطن لإول مرة مناسبة كبيرة للفرح؛ حيث جاء الناس للإحتفال من مدن بعيدة، لقد جاءوا لمشاهدة كيف يُحصد هذا المحصول الذي عُلق عليه، كل أمآل التقدم و الإزدهار و النهضة، وهي ذات المعاني التي أكّد عليها مفتش المركز الذي قطف اللوزة الاولى، معلناً للجمهور دخول المنطقة عصر الصناعة والتقدم.
وصفق الجمهور كثيراً لقول المفتش:
- إن النسيج الذي سوف ينتج في مصانع المدينة،سيجد طريقه إلى ملابس ساكني قصر بكنغهام.
هكذا بدأ كل شيء ولم تعد المدينة قرية مجهولة، تقع في الطريق بين مدينتي الملكيين العدويين، يامبيو و طمبرة، لقد أصبحت إسماً متكرر الذكر على ألسنة جميع مَنْ يحلمون بتغيير أوضاعهم إلى الأفضل.
في البداية كان الجميع منشرحين من الطريقة التي تسير عليها الأمور؛ حيث كان الموظف في المصنع يقبض في نهاية الشهر جينهاً واحداً، يذهب به سعيداً إلى المنزل وقد ضمن شراء جميع إحتياجات العائلة من ملح و سكر و صابون، وكانت بعض المليمات تبقى للترويح عن النفس، هذا بالنسبة للذين لم يعودوا يستلذّون جرعات الجعّة المحلي المصنوع من تخمير الأناناس، لقد كانوا يهرولون كل مساء إلى الدكاكين التي تبيع الجعّة المهربّة عبر الحدود من الكنغو.
إستمر هذا الروتين السعيد الذي إستلذّته النفس، والمضبوط بإيقاعٍ ثابت مثل شروق الشمس و غروبها؛ حيث كنا نخرج مع إشعة الصبح الاُولى إلى المصنع، لنعود عند الخامسة مساءاً مع شفق الغروب.
لكن ما أن بدأت سنة جلاء الإنجليز تقترب حتى إنكسر ذلك الروتين السعيد، بحيث لم تعد ساعات اليوم طويلة كما كانت من قبل.
في البداية جاء إلينا من جوبا مَنْ حدثنا عن الظلم الكبير، الذي ينتظرنا نحن الجونبيين إذا ما تركنا الإنجليز يرحلون، دون أن يقوموا بتسليمنا الفدرالية في أيدينا:
- دون الفدرالية سوف تعود أزمنة العبودية، وسوف نرى صائدي البشر من جديد، علينا أن التكاتف أيها الإخوة من أجل الفدرالية.
كانوا يشددون في جميع مخاطبتهم السِريّة وسط العمال.
ثم جاءنا من الخرطوم مَن قالوا، إن الإزدهار والتقدم على الأبواب، لكنهما ينتظران فقط خروج المستعمر، وقالوا لنا أيضاً إن المستعمر هو مَنْ يزرع ترهات مثل الفدرالية في العقول حتى يفرق أبناء الوطن الواحد.
وجاءنا من الخرطوم أيضاً، مَنْ قالوا لنا إن جميع مشكلاتنا، إنما تحل بتوفير المساوة و إفشاء العدالة بين الناس، و إن خروج المستعمر ليس سوى مسافة قصيرة في الطريق إلى تلك العدالة، ثم قالوا:
- إن العدالة تبدأ بمساوة الأجور في كل إقاليم البلاد.
إلى الفريق الثالث والذي كان يتحدث بالإنابة عنه، ودون خوفٍ من فقدان وظيفته كطبيب للمركز، مستهلاً الحديث بلازمة ثابتة ‘‘هذا ما أشار إليه ماركس’’.
وجدتُ نفسي أميلُ و أصبحتٍ كثير الجلوس مع الطبيب، لدرجة أنه طلب مني ذات يوم تعليمه لغتنا قائلاً:
- يجب أن تكون لغتكم وعاءاً لحمل أفكار التحرّر إليكم.
و ذات مساءٍ آخر قال:
- أريد أن ترى شيئاً مهماً.
دخل إلى غرفته ثم عاد يحمل حزمة من الأوراق، و من بينها أخرج ورقة مطويّة بشكل يشير إلى توخي السِريّة إزائها، ثم قال مازحٍ إذ لاحظ القلق على وجهي:
- لا تخف من هذه الكومة، فقط سوف نتعامل مع هذه القصاصة.
قال ذلك ملوحاً بالورقة المطوية في الهواءِ.
كانت الورقة تتحدث عن الأجور و ضرورة مساوتها بأجور العمال في بقية إنحاء البلاد، وضرورة تحسين بيئة العمل، و وصفت الورقة محالج القطن، ومعاصر زيت النخيل، ومعامل الصابون، بمؤسسات الراسمالية التي بُنيّت من أجل خدمة الإستعمار حتى بعد مسرحية خروجه.
إنهم سوف يواصلون مهمتهم الإمبريالية عبر وكلائهم المحليين، لقد كان الطبيب يشدّد على هذه النقطة كلما تحدث عن الإستعمار.
بعدما أوجز الأفكار المكتوبة بالإنجليزية في الورقة،قال لي:
- علينا إيصال هذه الأفكار إلى جميع الناس، حتى الذين إكتفوا بالفصل الأول من المرحلة الأولية في تعليمهم، يجب أن تترجم هذه الأفكار إلى لغتهم، لا تجب أن تُكتب أبجدية اللغة لإستخدامها في الترانيم فقط، هذه الورقة أيضاً تنشد خلاصهم تماما مثلما هو الأمر بالنسبة للإنجيل، فكن انت يا مناني المخلص الذي يأخذ بأيديهم إلى النور، بعيداً عن الظلم والإستغلال.
هكذا مكثنا طوال الليل هو وأنا، نترجم تلك الأفكار إلى لغة الزاندي.
في الصباح كانت المنشورات تملأ ارجاء المدينة، في أيدي صبية المدارس، في جدران المباني، على جذوع الإشجار العملاقة في السوق، لقد كان حديث جميع الناس. لقد بدأت الأصوات تعلو في كل مكان من المدينة:
- ريد زيادة أجورنا، يجب أن تُشترى منا لوزات القطن، بنفس سعره في مدني.
لم يغضب المدير الإنجليزي وحده، لقد غضب أيضاً الذين جاءوا من الخرطوم، طالبين تأجيل كل شيء حتى جلاء الإستعمار، لقد علّقوا على الأمر قائلين:
- إنها ليست سوى خديعة إستعمارية، أن تُوزع المنشوارات بلغة الزاندي التي تجب أن تظل داخل الكنيسة فقط.
بعد ذلك بأيام قليلة، سمعت لأول مرة كلمة: ‘‘شيوعي’’، وذلك عندما سمعت مدير المشروع يتحدث مع قمندان البوليس قائلاً:
- لا شك عندي أبداً في أن مَنْ يقف وراء هذا التحريض على العصيان، و ينفخ رؤوس العمال بمختلف أنواع الترهات، هو ذلك الطبيب الشيوعي.
كنّا نحتسي خمر الأناناس مساءاً في منزله عندما سألته:
- هل صحيح أنك شيوعي؟.
صمت فترة ثم قال بصوت منشرح:
- أنا معادي للإستعمار سواء أكان قادماً من لندن أو أمدرمان، إذا كنت تقصد بالشيوعية سلوكي هذا، فأنا شيوعيٌ بالفعل، ويمكنك من الان فصاعداً منادتي؛ بالشيوعي.
صببتُ لنفسي كل الخمر المتبقي في قعر الزجاجة قائلاً:
- وناديني كذلك؛ بالشيوعي.
بعد ذلك المساء أصبحنا نجلس كثيراً، في منزله الحكومي الملاصق للشفخانة، و هو يتحدث إلىّ حتى منتصف الليل، عن ماركس و تضحيات أنجليس من أجل رفاهية العالم، لكنه كان يبدو حزيناً عندما يذكر الإتحاد السوفياتي.
- لقد شُوهوا أفكار ماركس العظيمة بأفعالهم.
كان يقول بصوت منكسر
لقد إستمرت لقاءاتنا معاً، مرات في منزله، ومرات في بستان البرتقال في منزلنا العائلي، حتى إندلع القتال في ثكنات الجيش بمدينة توريت قبل جلاء الإنجليز بأشهرٍ، و كاد أن يُقتل عندما وصلت أعمال العنف مدينتنا، إلّا أنه اُصيب بجراح فقط عندما هجم عليه الغوغاء، الذين لم يسمعوا عن أفكاره قط، فقط نظروا إلى سحنته الصفراء مثل باباي ناضج و قالوا لأنفسهم:
- هذا أيضاً مندكرو.
وقد ظل بعد ذلك اليوم الدامي، دون خبرٍ و مفقودٍ بالنسبة لي، حتى صفق أحدهم يديه أمام المنزل سائلاً عما إذا كان مناني موجوداً، وفور ظهوري ودون أن ينخرط في مجاملات شرب الماء، وضع رسالة في يدي، ثم إختفى في الطريق العام، متجهاً جنوباً إلى يامبيو، أو مريدي ربما.
(أشكر الملازم دينق فقد أنقذ حياتي.
أنا بخير.
للأفكار التقدميّة تربة صالحة حيث أنا.
إن مدينة واو جميلة بحق، كن الأجمل أن تكون أنت يا صديقي مَنْ يغرس أفكار التقدم فيها).
كانت رسالته مقتضبة جداً، لكن وقعها كان شديداً علىّ، بحيث شعرتُ على نحو ما، أن الرسالة، ليست سوى دعوة لي كيما إقدم على القيام بعمل ما.
تأملتُ كلمات الرسالة أكثر من مرة، ثمة شيءٍ كان علىّ القيام به كواجب، وهو أن أشكر الملازم دينق، لكن عقبة كانت تقف في سبيل أنجاز ذلك الواجب. وهو أنه لم يعد في المدينة ضابطٌ بهذا الإسم؛ حيث علمتُ من بعض الجنود أنه قد تمّت ترقيته ونقله إلى بورتسودان.
لقد ظل الإيفاء بهذا الواجب معضلة في رأسي، حتى أتى ذلك المساء حيث برق الحل بغتةً كما الوحي. كنتُ قد عدتُ من نادي المدينة عندما وجدتُ زوجتي توقد نار العشاء:
- أين الولد؟
إنه يلعب في مزرعة الأناناس.
- هل تم تجهيزه بالكامل من أجل يومه الأول في المدرسة؟
بالطبع و سوف يكون حضورك مهم جداً
- بالطبع، لكن أسمعني جيداً؛ هل هنالك مالم يعجبك في التجهيزات؟
- أريدكِ فقط،ودون أسئلة أن تقومي بهذا، عليك تقييده في السجل المدرسي بإسم دينق، بدلاً عن إسم جوزيف.
ماذا.. لكن!!
- ألم أقل دون أسئلة
لا أدري كم من الوقت قد مضى، قبل أن يكف الأساتذة في المدرسة ألسنتهم عن السؤال، عما إذا كان إسم الطفل بالفعل دينق؟.
لكنها كانت الطريقة الوحيدة المتاحة لي، كيما أنفذ وصية صديقي الطبيب، في وجوب تقديم الشكر إلى مَنْ أنقذ حياته، لأنه كلما تم نداء الطفل بالإسم الجديد، أحس بنفسي أقدم الشكر إلى الملازم دينق من أجل إنقاذه حياة صديقي.
حدث ذلك في نهاية العام الذي رُفِع فيه العلم ذو الثلاثة ألوان، على سرايا الحاكم العام الذي غُير إسمه فوراً ليُسمى بالقصر الجمهوري.
بعد ذلك بعامٍ واحد تركت أنزارا بعد شعوري برغبة جارفة في الإرتحال، وفي رأسي كلمات صديقي حول مدينة واو:
- للأفكار التقدمية تربة صالحة حيث أنا.
لقد وصلتُ المدينة في شهر أبريل؛ الموسم الأول للمانجو، لكن بعد سنواتي الطويلة بها، مازلتُ لا أستطيع فهم إصرار الناس على إطلاق وصف غريب الأطوار عليّ، و الإستدلال على على ذلك بالقول
- لماذا يُسمي إبنه دينق، وهو الزاندوي الأصيل!.
#بوي_جون
(طبيب، كاتب روائي، وشاعر، ومترجم من دولة جنوب السودان)
#مكتبة_أغردات_العامة
Mona Mohamed Salih
قصّة قصيرة: "مناني الشيوعي" لِـ بوي جون ــــــــــــــــــــــــ فتحتُ المظروف الأحمر الجميل أمام الرسول، حتى أتأكد من أن الدعوة بالفعل موجهة إليَ. رأيتُ إسمي مكتوباً بخطٍ جميلٍ منمق(مناني طمبرة)،...
www.facebook.com