يونس عتيق الله - إننا نُبدع في صناعة المشاكل...

لما نقف على جبل عال لنطل على السفح بامتداده الرائع، لما تمر نسائم الصباح ناعمة لتطرز خدودنا بقبَل السلام، لما تلفُّنا أشعة الشمس تدفئ الأضلع و ترخي القِوام، و لما نتملَّى في وجه السماء ليلا نَعُد النجوم و نعانق القمر، يتبدى لنا جمال ملكوت الله و ندرك أن الحياة جميلة و أن الله خلق هذا الجمال كله لننعم به و لنمارس في رياضه إنسانيتنا بكل أبعادها.

لكن كثير منا يتجاوز كل ذلك تجاوزا سلبيا و لا يرى في الجبل إلى العلو الشاهق الذي قد يتردَّى منه، كما يفِرُّ من نسائم الصباح خوفا من الإنفلونزا في جهل سافر برمزية الصباح لدى المجدين، أما الشمس فعنوان للحرارة و القيظ لديهم، و عن النجوم و القمر لا نسأل، إن العيون لا تراها فالنوم أخَّاذ.

تناقض سافر بين ما يجب أن يكون عليه الإنسان و ما هو عليه في واقعه، لقد أصبح اليأس دينا نعتنقه بإخلاص، كما أصبح التدمر و الألم عنوان كل لحظة نعيشها، لقد أصبحنا مبدعين في صناعة المشاكل، فلماذا كل ذلك؟

إن الناس اليوم يعانون من قصر النظر حيث أصبح الأفق مسدودا أمامهم، كما أن صور الألوان لم تعد لها مكانة، فقد بُسِط السواد في كل مكان، حيث حل الجشع محل الرضا و كفرنا بأنعم الله علينا. دائما نطلب المزيد في الوقت الذي لم نحسن فيه حتى التمتع بالموجود أصلا، إننا نضيع حاضرنا بالتفكير المتكرر في المستقبل، مستقبل ربما لن نعيش فيه، لقد غيبنا مفهوم الحاضر على حساب سعادتنا الآنية، متناسين أن العمر يمضي بسرعة، و أن وجوها كانت تبتسم لنا بالأمس سيغيبها القدر في طرفة عين و نحن لم نرتوي بعد من روعة حضورها. إننا ولدنا أحرارا لكن عن طواعية اخترنا أن نعيش بين الأنين و الألم، فبغبائنا نصنع سجنَنَا و نُلقِي بأنفسنا في مهاوي الآهات و سيول الدموع.

لا شك أن الدنيا مليئة بالمشاكل، لكن كما يقال: " كثرة المصاعب لا تبرر اليأس من الحياة، أ لم تعلم أن البحر الهادئ لا يصنع ملاحا ماهرا "، الأمر طبيعي جدا فالصعوبات واردة و نحن لسنا في الجنة، لكن يمكن أن نتمثل الجنة في واقعنا بالحب و الأمل و نثر بذور الخير و جعل الابتسامة فرض عين من تخلى عنه فقد أثم.

ما الذي يمنعنا من التلفظ بعبارات الخير و نقل البشائر؟ من الذي يمنعنا من الثناء و مدح الناس؟ ألم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم مدَّاحا ذاكرا لمحاسن الناس؟ بل و حتى في أصعب الظروف و هو ضعيف مغلوب يطارده الناس و يرمونه بالحجارة كان وديعا راقيا في التعامل، إذ ما دعا عليهم بالهلاك بل نادى ربه ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون )، تلك رحابة فكر و طول أمل و رجاء في أن القادم خير، كما أن الهجرة إلى المدينة كانت في عمقها بحثا عن حياة جديدة و عدم استسلام لواقع مرير، لم يجلس صلى الله عليه و سلم في مكة يبكي حظه و ينقطع عن الحياة...أبدا لم يكن كذلك بقدر ما كان رجل حياة و رجل أمل و تفاؤل و مبادرة و بحث عن الحلول، يمكن أن يقول القائل إنه رسول مدعم بالوحي، أقول نعم، لكنه أتى أسوة و قدوة، و علينا أن نأخذ منه فن العيش و طرق الحياة المتوازنة، و إلا فإننا نكفر به و بالوحي، لعلها جملة صادمة، إلا أنني أقصدها، لأن الإسلام دين حياة و دين حب و جمال و نور.

لقد أدمن الكثيرون معانقة المشاكل، و في غالبها مشاكل مصطنعة، إننا نبني المنازل المتسعة لتبقى الغرف فارغة تنتظر زائرا نجتهد في راحته و لو على حساب راحتنا، نقتني أغلى الملابس لإرضاء عيون الناس لا لإشباع رغباتنا، نصطنع الابتسامة و عبارات المجاملة لنسعد الناس و نحن نداري الدموع، نريد لأبنائنا أن يصيرو أطباء و مهندسين دون أن نحترم رغباتهم فنفتح باب الشقاق و البُعاد بين أطراف الأسرة، نحتمل حياة الذل في العمل و في الزواج أحيانا استحياء من نظرات الناس، و الأدهى و الأمر أننا نخاف الناس و لا نخاف الله، نستحيي من الخلق و لا نستحيي من الخالق...كم نحن مرضى و أغبياء، إننا باختصار أعداء أنفسنا...محتاجون تعلم شيء من اللامبالاة و غض الطرف حتى تستمر الحياة، الفشل جزء من حياتنا و هو ظاهرة صحية تجعلنا نستلذ طعم النجاح، و المرض درس بليغ ندرك من خلاله قيمة الصحة، و الفقر محفز للاجتهاد و الانطلاقة نحو العمل و المال، و الدموع فيها رمزية الإحساس و نبل المشاعر فالجماد لا يبكي. تلك أمور طبيعي حدوثها و التعامل معها بأريحية و إيجابية يعتبر فنا راقيا يجعلنا نمتهن صناعة تحويل الصعوبات و العوائق إلى فرص إلهام قصد نوال المبتغى، لذلك أقول قمة الذكاء و البطولة أن نحول المِحَن إلى مِنَح، و ذلك ليس مستحيلا بل نحن قادرون على فعله، إلا أن المشكل يكمن في كون الكثيرين ألِفوا الشكوى و الضَّجَر من كل شيء، يلعنون كل شيء و هم بذلك يؤكدون على غبائهم و عجزهم، لقد اختاروا أن يكونوا تعساء، في حين أن السعادة آلياتها في غاية البساطة قدمها لنا محمد صلى الله عليه و سلم بوضوح حينما قال ( من أصبح آمنا في صربه معافى في بدنه لديه قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )، أمور ثلاثة من المُمْكِنات في زمننا، فلماذا التعاسة و البؤس و الحزن؟

فلنستمتع قدر الإمكان بما أُتيح لنا، و لنضحك ملء الفم، و لنعلم أن الهموم يقتلها الأمل و التفاؤل، و أن المشاكل قدر محتوم، لكن الانتصار عليها محتوم أيضا، فالحلول موجودة لكن نحن من نشُلُّ حركة العقل عن التفكير باستباق السقوط و الفشل.

إن العالم يتقدم في مجال الزراعة، لكن الزراعة الحقيقية في نظري هي زراعة الأمل في القلوب و استنبات البسمة من كل الوجوه.

تذكر أيها اليائس القنوط دائما أن الحياة جميلة و رائعة، و إن كان فيها من عيب فربما أنت عيبها. أما للمتفائلين مثلي و للإحياء حقا مثلي أقول كم نحن محظوظون في كل أطوار حياتنا، رغم السقطات و رغم الآهات سعداء بأعمارنا ما دام المَؤَمل خير في غد تدبيره بيد من يحبنا، فما ثبت أن أشقى أو أتعس حبيب حبيبه يوما... إنه الله...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى