أسماء محمد مصطفى ــ أسوار الجميلة النائمة

يتصاعد أنين المرأة ذات الثوب الأسود بين الأشواك ، وهي مستلقية عند الجرف وشعرها سجادة تمتد الى نهر أحمر .. فمنذ وقت ليس ببعيد ، وجدت نفسها حبيسة الأسوار الشوكية التي كلما تتكاثر حولها ، يشتد أنينها.
يتداخل مع الانين صراخ يتصاعد من وراء الأسوار ، تكاد لاتسمعه .. فهي منهكة لاتقوى إلاّ على البكاء حزناً على ذكريات عاداتها وطقوسها السارة التي حفرتها على جرف النهر ذكرى لزمن لاحق .
اعتادت الجميلة أن تغسل وجهها صباحاً ، بماء النهر الرقراق الذي يمر قريباً من دارها ، وتمسح ضفيرتها بكفيها النديتين . وغالباً ما تبلل ثيابها المطرزة بخيوط البريسم وحبات النمنم اللماع .
كان ذلك منذ زمن بعيد وصلت فيه الى الناس أخبار جمالها وحُسن مظهرها وحلو حديثها وسعة مداركها . وسمعوا أيضاً بأخبار تذبذبها بين الثراء والفقر..
تئن الجميلة من فاقتها ، وهي تتأمل بعينين نصف مفتوحتين نمو الأشواك في كل الإتجاهات حتى تحجب الشمس عن ناظريها ويزيد الظلام من عتمة ثوبها البالي .
حيناً كان الزمن ينصفها وينصف أهلها ، فترتدي ثياب الملكات وتأكل ألذ الطعام وتلهو بالذهب .
وحيناً تفتقر ، ولاتجد الخبز الذي تسد به جوعها ، لكن الشيء الذي يُذكر عنها ، دوماً ، أنها في أحوال الغنى والفقر ، وسواء أكان وجهها مغسولاً بماء الورد ، أم يشوبه الغبار ، تبدو جميلة .
تعلمت الحكمة مما مرّ بها من أهوال ، واكتسبت البهاء مما عرفته من أفراح . طلب ودها الكثيرون من الرجال . اقترنت بالعديدين منهم ، بعضهم أكرمها وبعضهم أتعسها وأذلها .. أنجبت الكثير من الأولاد ، مختلفي الألوان والسمات والأسماء .
وسط هذه الذكريات تواصل الجميلة انتحابها الذي تتخلله فترات صمت تعباً .
حتى في أوقات الصمت الوحشي لاتكاد تسمع الصراخ القادم من وراء الأسوار الشوكية . وإذا ما وصل سمعها شيء منه ، فإنها لاتميزه .. حيناً تظنه أصوات الطامعين بها من غرباء وحيوانات كاسرة .. وحيناً تظنه أصوات أولادها ؛ فتبكي تفرقهم في أرجاء الدنيا ، وفقدانها بعضهم في حروب البراري وقتالات المرض والجوع ..
ظنت أن أتعس أيامها مضى في ذلك الجوع المستبد الذي عانته سنوات ٍ حتى أنهك جسدها وأجساد من تبقى من أولادها ، حين انقضت الغربان والجوارح والكواسر على حقولها ولم تبق ِ من الزرع مايُشبع . لكنها مع ذلك اكتفت بالقليل وواصلت حياتها مع من بقي من أولادها .
لم تتكهن بأنّ الغربان والجوارح والكواسر بعد أن أتلفت محاصيلها بقيت تتربص بها وبجمالها الأخاذ على الرغم من اختلاط مسحة الحزن بملامح وجهها الحسن .
تحاول الجميلة المنهكة مغالبة النوم قليلاً وهي تحاول بيديها النحيلتين الخشنتين أن تصنع فراغاً بين الكتل الشوكية ، توقاً للهواء . لكن محاولتها تفضي الى نضوح دم من أصابعها . وهي اعتادت نضوحاً أشد دموية حين هاجمتها الغربان والجوارح والكواسر ، فأدمت جسدها كله ، وضربت رأسها بعنف حتى سقطت أحلامها منه الى مستنقعات الدم الكريهة .
قوة تلك الحيوانات أرغمت أبناءها على الصمت والتفرج على بلائها ، فلم يفعلوا شيئا يذكر حين أسرها رجل غريب ، تقدّم أسراب الغربان والجوارح وقطعان الكواسر .
كبلها بالقيود ، ومارس معها طقوس الاستعباد . أشبع وجهها بالصفعات ، وجسدها بالركلات .. وألقاها في ساحة أمام حيواناته التي قامت بوظيفتها الدموية تاركة آثار العض والنهش والخربشة على جسد الفريسة .
قاومت الموت بالرغم من هول التعذيب ، إلاّ أنها استسلمت للمرض ، وهي ترى أبناءها يتناحرون ويتخاصمون ، بعضهم أراد عقد هدنة وإتفاقية مع الرجل الغريب وحيواناته ، وبعضهم حاول محاربته ، وبعضهم لم يشأ أن يفعل شيئا . راح كلّ منهم يسحبها من ذراع .
تتحسس الجميلة المستلقية بين الأسوار ذراعيها ، وتئن .. مستذكرة مايزيد من وجعها ..
فقدت بعض أبنائها في ظلام الليل الغادر الذي كان مسرحاً دموياً للحيوانات التي التهمتهم واحدا تلو الآخر.. فلم يبق منهم سوى ذكراهم وهم يجلسون مع أمهم على جرف النهر الأزرق ، يمازحونها ويرشون الماء على ضفيرتها .
تتحسس الجميلة شعرها ، فتنوح حين لاتجد ضفيرتها . يختلط نواحها بأصداء الأصوات الصارخة من وراء كتل الأشواك المتشابكة التي تزاحم الجميلة على رقعتها الترابية الصغيرة التي تبقت لها لتستلقي عليها .
شعرت بالضيق والعطش حينما أخذ التراب بالزحف تحت قدميها ، ونثره عصف الريح الحارة على جسدها وشعرها الأشعث وثوبها الأسود البالي . ضاق بها الجو الخانق الملَوث وهرش الدمامل .. استمرت في هرش جسدها وهي تصرخ في وجه مستعبدها الأشقر ، تطالبه بشيء من الهواء ، بيد أنه ، مع كل صرخة ، زاد من معاناتها وبؤسها ، بينما تمتع بما عثر عليه من خزائن أهلها المُخبأة في التراب .
تستمر الأشواك في النمو والتكاثر حتى تكاد المرأة تختنق .. تستسلم للنعاس المهلك ! تغمض عينيها المبللتين بالدمع الأحمر .
ربما ، تريد أن تحلم بالاغتسال في النهر القريب من دارها القديمة مرّة أخرى ..
وربما ، تخشى الحلم ، فالنهر ماعاد أزرقَ يحتضن وجه القمر .
لكنها ، مع ذلك تنام .. على جرف النهر الأزرق .. على وسادة ضفيرتها الندية .. على خيوط البريسم وحبات النمنم ..
تزداد الأصوات شدة ، لكن الأشواك تحول دون أن تسمع الجميلة صوتاً غير نحيبها ، وهي تغمض عينيها على جرف النهر الأحمر ، الذي يبلل سجادة شعرها الأشعث وثوبها الأسود ..
يحاول بعضهم العبور اليها من بين الأشواك التي تضيق بهم وتدميهم ، وهم يصرخون ..
ـ أماه .. لاتموتي ..
لاتموتي ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى