حسين عبد اللطيف - الإرث الثمين..

الشاعر كريم جخيور، كريم جداً في بسط قصيدته أمام متلقيه –قارئاً أو ناقداً- فهي قصيدة قصيرة مكشوفة من دون أي تعاظلات أو غموض لأنها تعتمد أولا وأخيراً الايصال وفي بنائها تستند إلى (الفكرة) أو (الموضوع).. وبذا توفر للقارئ أو الناقد فرصة استخلاص (المعنى) أو (الدلالة) من محتواها الذي تتوفر هي على تقنيته أو تقديمه بكل يسر وبساطة.
والشاعر – مع بعض اقرانه من كتاب قصيدة النثر في البصرة- إذا ذكر فسيذكر معه، حتماً، طالب عبد العزيز، علي عبدالله عيدان، خضر حسن خلف، عادل مردان، خالد عبد الزهرة، مؤيد حنون، صلاح شلوان، منذر خضير، علي الربيعي، واثق غازي، علي محمود خضير، صفاء خلف، علي السعيدي وغيرهم.
فقصيدته لا تحفل بزخارف البلاغة القديمة ولا بالمجانية والهذيان ولا بالاستعارة العويصة بل ببنية سردية، صورية، تكاد تكون منطقية ولكنها في منطقة الشعر قطعاً. فهي لا تتبع
–في منطقها واسلوبها- تركيبات ادونيس أو انسي الحاج او سليم بركات وصياغتهم قدر ما تلتقي مع القصيدة التي يكتبها الماغوط بصورها وسرديتها ومعناها ودلالتها التأويلية.
وثمة مفارقة بارزة تكاد ترفع عنقها عالياً هنا، أود أن انبه إليها بالاشارة- وهي ملاحظة عامة لا تخص شاعراً محدداً بعينه، ترتبط بنقل (التقليد) الذي سارت عليه القصيدة العربية القديمة (الكلاسيكية) باهتمامها بـ(المطلع) وإيلاء العناية الزائدة به حتى انها سميت به وانتهى ليصير عنواناً لها.. فكانت مثل هذه القصائد تعرف بمطالعها أما ما فعلته قصيدة النثر الحديثة فقد نقلت هذا الـ(المطلع) من موقعه في (البداية) أو التصدر وأحالته لأن يكون في الأخير خاتمةَ للقصيدة لتقفل به وليكون هو (الضربة) النهائية حتى تمنع عنها الرخاوة والانثيال المنسرب الذي يجعل من القصيدة باباً مفتوحاً يفضي إلى فضاءات متعددة لا يمسك بها النظر ولا يستطيع المتلقي أن يوقف تيار جريانها الجارف وتدفقها المشتت للتركيز.
وفي نظرة اجرائية يمكننا فحص قصيدة (الارث الثمين) من مجموعة الشاعر الاخيرة "ربما يحدّق الجميع" 2012 والتي أرى في عنوانها هذا ما لا يوازي في الجاذبية والدلالة عنواني مجموعتيه السابقتين (خارج السواد) و (الثعالب لا تقود إلى الورد) ولنضع الآن، هذا جانباً ونذهب إلى (الارث الثمين) التي تفتح خطابها أو فمها بما يرويه الابن (الشاعر) عن ابيه وما تعلم منه من أعذار يدفع بها ضيق ذات اليد التي تقصر عن تطمين حاجيات أبنائه (الشاعر وأخوته) مثل التي تغلي الحصى بالماء موهمة أطفالها بأنها تعد لهم الطعام الذي سينضج عن قريب إذ يقوم الشاعر بدور الراوي الذي يخبر عن أبيه وبتبرير بلاغي موفق:
كان يملك من الخدعة
ما يجعلنا (أي الشاعر واخوته)
ننام حالمين
فكلما قلت له
أبي
يا أبي...
قال: إن شاء الله
عندما يأتي رأس الشهر
وكانت، دائماً، تأتي الشهور
إلى بيتنا بلا رؤوس.
هنا تؤدي اللغة أقصى طاقاتها وما عليها من مهام تعبيرية باختزال وبكل ممنونية فبعد النداء الملفوظ (أبي يا أبي) مرتين، للنده والالفات يفهم الاب ما وراء هذا النداء الذي يقف في مكانه من طلب مسكوت عنه. ويجيب بـ(عندما يأتي رأس الشهر) وكأن رأس الشهر هذا الذي يقول به هو موعد الحفل الغنائي الذي تحييه كوكب الشرق لجمهورها المستمع الذي ينتظرها بلهفة كل رأس شهر فهي الحجة التي يفطن الشاعر إليها والتي يفضحها بالمجيء الدائم للشهور إلى بيتهم بلا رؤوس!
والأدق هنا أن يُقال: نهاية الشهر –موعد قبض المرتبات عادة إلا إذا افترضنا رأس الشهر المقبل أي بعد قبض المرتب- ولكن هذا لا يعني شيئاً إزاء –الحبكة- التي انطوت عليها القصيدة هنا والالتفات إلى ما يقول (الراوي) –الشاعر-، الابن الذي يكشف هذا العذر ويقوم بتفنيد هذه الحجة أو الخدعة: رأس الشهر التي يقول بها الأب الذي يعد ولا يفي ويدفع بالوعد إلى الارجاء فيعلق الشاعر على وعد أبيه هذا قائلا:
وكانت، دائماً، تأتي الشهور
إلى بيتنا بلا رؤوس
إذ يشال غطاء القدر ليظهر الحصى الذي يطبخ على النار بالماء! ولكن الشاعر مع ذلك ربما وجد تبريراً وتزكية لما كان الاب يقوم به إزاءه وإزاء أخوته، حينما عمل هو بأسلوب أبيه هذا، في الجزء الثاني من القصيدة موجهاً خطابه إلى أبيه ليخبره إنه
–من دون إخوته جميعاً وخلافهم- قد تسلم منه الإرث ليسلمه إلى أحفاده بأمانة أي إلى أبناء الشاعر نفسه عملاً بما تعلمه منه، فقد حفظ الوصية أو الدرس جيداً وتماماً خلافاً لأخوته العاقين لهذا الارث ولأنه مثله –مثل أبيه أقصد- المتقع فهو يدفع على الرنة عن الرائحة التي يلوك بها خبزته:
على خلافهم يا أبتي
لم أكن الولد العاق
فقد حفظت ارثك الثمين
وها أنذا
بعد عقدين من أبوتي
ما زلت أقسمه على احفادك
لم أبخل به يوماً
فكانوا، دائماً، في نومهم حالمين.
وبهذا التنويم المغناطيسي الذي يشبه هدهدة الام لأطفالها لتنيمهم به تنجح اللغة في التخلص من الافاضات المطنبة وينجح السرد في إداء القصيدة والوصول بالفكرة إلى منتهاها بوضوح تام وشفافية وبهذه الضربة المقفلة التي انتقلت من المطلع لتكون بمثابة خاتمة للقصيدة المتكونة من طابقين: الأول-الاعلى ذاك الذي وقع على الشاعر وأخوته – أثره.
والطابق الثاني-الاسفل (8أسطار) الذي أوقع الشاعر اثره على أبناءه وهذا ما يخالف القاعدة في البناء فالاساس أن يُبنى على الاساس أو الاس الارضي ولكن الاساس هنا الذي ابتنت عليه القصيدة هو الطابق الاعلى، أي في الهواء وما بني في الهواء كان هواء أيضاً وهنا شفرة القصيدة وتأويلها فما دام الاساس هواء في الهواء فلا وجود إذن وبالمطلق لشهر له رأس!
لقد تقمص الشاعر دور أبيه ليستمر الفعل أو الحدث وليظهر من جهة هيمنة الاب واستمراريته، هذه الاوالية التي وقع اثره على أطفاله هو حين كان مرة في موقع (المفعول به ) والمرة الثانية في موقع (الفاعل) وهو في الحالتين (الراوي) بالنسبة إلى أبيه إذ يخبر عن أحواله هو وأخوته مع أبيه ويخبر مرة عن حاله هو مع أبنائه أي أحفاد أبيه وكلهم من (المتلقين).


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى