مقتطف إبراهيم قيس جركس - شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت] -6 و 7-

ديباجة زرادشت [6]

لكن ها قد حدث الآن شيء ألجَمَ الألسنة وأجحظ كل العيون. ففي الأثناء كان البهلوان قد شَرَعَ في عمله: خَرَجَ من بوّابة صغيرة وتقدّم سائراً فوق الحبل الذ كان مشدوداً إلى قلعتن متقابلتين، مُعَلّقاً فوق ساحة السوق وحشد الجمهور. وكان قد بلغ منتصف طريقه عندما انفتحت البوّابة الصغيرة ثانيةً ومنها اندلَفَ فتىً مُزَوّق في هيأة مهرّج وانطلق يلاحقه بخُطى سريعة: "تقدّم يامشلول الساق!"صاح بصوتٍ حادٍ مريع، "تقدّم أيتّها الدابّة المُتَلَكّئة، المهرّب المتسلّل، يا شاحب الوجه، تقدّم! لئلا أدغدغكَ بقدمي! ما الذي تصمعه هنا بين قلعتين؟ داخل القلعة مكانك، والحَبسُ أولى بك، إنك تسُدُّ الطريقعلى مَن هو أفضل منك!" _ومع كلّ كلمة كان يقترب منه أكثر فأكثر، ولمّا لَم تَعُد تفصله عنه سوى خطوة واحدة حَدَثَ الأمرُ الفظيع الذي ألجَمَ الألسنة وأجحَظَ كلّ العيون، فقط أطلق الفتى صرخة شيطان وقفز من فوق ذلك الذي كان يَسُدّ عليه الطريق. لكنّ البهلوان وهو يرى خصمه ينتصر عليه هكذا، أضاع الحبل والعَقل معاً، فرمى بقضيب التوازن وبأسرع منه هوى في الفراغ لَولَبَةً تتلاحق ذراعاه فيها بالقدمين. اضطربت الساحة والجَمع المُحتَشِد هناك مثل بحر لحظة اندلاع العاصفة، الكلّ فارَ في تفرُّق وتلاحُم، مُخلين المكان في ذلك الموضع الذي كان سينسحق فيه.
لكنّ زرادشت ظَلّ واقفاً مكانه، وبجانبه وقع الجسد منسحقاً مُحَطّماً، لكن غير ميّتٍ بعد.
بعد بُرهة من الزمن عاد إلى المُهَشّم وعيُهُ ورأى زرادشت جاثماً على رُكبتيه إلى جانبه. ((ماذا تفعل هنا؟)) قال يسأله أخيراً ((كنتُ أعرف منذ زمنٍ طويلٍ أنّ الشيطان يُعِدُّ لي مقلباً. وها هو الآن يجرجرني إلى الجحيم، أتريد أن تمنعه؟
((وشَرَفي أيهال الصديق، ليس هناك شيءٌ ممّا ذَكَرتَ))، أجابه زرادشت: لاشيطانَ هناك ولا جحيم. وإنّ روحك سيُسرع إليها الموت قبل جسدك، فلا تَخشَ شيئاً إذاً)).
بعينين ملؤهما الشك والريبة ظلّ الرجل يتطلّع في الفضاء، ثم قال: ((إن صَدَقتَ في ما قلت، فإنّني لن أخسَرَ شيئاً إذاً بفقدان الحياة. فأنا لستُ أكثر من حيوانٍ لُقِّنَ الرقصَ بالعصا وبِلُقَمٍ حقيرة)).
((كلا))، خاطبه زرادشت، ((بل إنك اتّخذتَ من الخطر حِرفَتَكَ، وليس في هذا الأمر مايستحقّ الاحتقار. والآن تمضي في حِرفَتِكَ إلى حَتفِك، لهذا أريد أن أدفِنَكَ بيَدَي))
بعد أن نَطَقَ زرادشت بهذه الكلمات لم يُضِف المُحتَضِر أيّ جواب، لكنّه حَرّكَ يده كما لو كان يبحثُ عن يد زرادشت يريد أن يشكُرَهُ.

[7] وفي الأثناء حَلَّ المساء، ولَفَّت العَتمة ساحَة السوق، عندها تفرّقَت جموع الشعب، ذلك أنّ التعب يصيب حتى الذعر والفضول. أمّا زرادشت فَظَلَّ جالساً على الأرض إلى جانب الميّت غارقاً في التفكير، وهكذا نسي الوقت. لكنّ الليل استقرَّ أخيراً، وعلى الرجل الجالس وحيداً هَبَّت ريحٌ باردة. عندها نَهَضَ زرادشت مخاطباً قلبه:
((صيداً جميلاً حقاً اصطاد زرادشت اليوم! لم يَصطَد إنساناً، بل جُثّة.
رهيبٌ هو الوجود الإنساني ولامعنى له مع ذلك: إنه بإمكان مهرّج أن يختم على قدره المحتوم.
أريد أن أعلّمَ البشر معنى وجودهم، ألا وهو الإنسان الأعلى، الإنسان الصاعقة النازلة من السحابة الداكنة.
لكنني مازلتُ بعيداً عنهم وعقلي لايستطيع مخاطبة عقولهم. حالة وسطى أنا بالنسبة لهؤلاء، بين مهرّج وجثّة.
قاتمٌ هو الليل، ومُعتمَةٌ طريق زرادشت. تعالَ إذاً أيها الرفيق البارد المتصلّب! سأحملك الآن إلى حيث سأدفنك بيدي!))
########################
كان القسم السابق/الخامس بمثابة خاتمة لسلسلة تعاليم زرادشت المبدئية. وما يلي ذلك ماهو إلا سرد استعاري دائم. مرةً أخرى، سيكون هذا النمط من السرد نموذجاً لبقية أقسام الكتاب: سلسلة من الخُطَب القصيرة أو القصائد أو الأغاني التي يردّدها زرادشت، ومقاطع نثرية تتعلّق برحلاته عبر الجغرافيا المشحونة رمزياً.
القصة في هذا القسم تتعلّق بوفاة البهلواني/راقص الحبل وحواره مع زرادشت. يسقط البهلواني عن الحبل عندما يقفز مهرّج شيطاني على الحبل ويبدأ بمطاردته، ثمّ يقفز من فوقه ممّا يؤدّي إلى سقوط البهلواني عن الحبل. لكنّ الأهم من ذلك لايوجد مايشير إلى أنّ البهلواني قد قُتِلَ بسبب المهرّج مباشرةً، بل إنّه "أضاع الحبل وعقله معاً": إنّه يقتل نفسه جرّاء العار الذي لحق به كونه لم يحسّن مهنته. يخبر زرادشت البهلواني أنّ حياته وموته لم يكن لهما أي معنى لأنّه "جعل من الخطر حرفته".
المهرّج هنا يرمز للضعف الضروري أو الجوهري المتأصّل عند أولئك الذين يحاولون عبور الخطر نحو الإنسان الأعلى. هذا الضعف متأصّل ومتجذّر فيهم لأنّه نموذج للخفّة من جهة _عبء ثقيل لايرحم، ومن جهةٍ أخرى لأنّ عبور الخطى ما هو إلا "انحدار" بالضرورة. ومع ذلك يتمّ إرجاع قصّة المهرّج إلى النص وتطويرها بانتظام خلاله. وفي النهاية اختار زرادشت تكريم حياة البهلواني بدفنه. ولكن هل كان عمله هذا ينمّ عن شفقة نحو القتيل؟ أم عمل ينمّ عن شرف؟
يتألف القسم الموجّز السابع من تأمّلات لزرادشت وهو راقدٌ بالقرب من الجثة. تأمّلات في مجرى الأحداث، وفشله في التواصل مع الآخرين. وصورة "الصيد" ما هي إلا إشارة إلى صورة يسوع كصياد. إذ يلاقي يسوع الأخوين بطرس وأندراوس يرميان شباكهما في البحر، وكانا صيادين. فقال لهما ((هَلُمَّ ورائي فأجعلكما صيادي الناس، فللوقت تركا الشباك وتَبِعاه)) [متّى/الإصحاح 4/18-20]
إنّ الوجود البشري رهيب ولامعنى له (نلاحظ أنه لايقول "الحياة البشرية"، فهو لا يشير إلى الأفراد القلقين وجودياً أو حتى هذا المجتمع التاريخي أو ذاك)، إذن الوجود البشري بلامعنى، ويمكن لمهرّج أن يصل به إلى حتفه. تصبح صورة المهرّج هنا أكثر تعقيداً: فهو الآن ليس مجرّد انعكاس لصورة الضعف، فالمهرّج (الذي يُلقي النكات ويؤدّي المقالب)، أصبح الآن كنايةً عن الصدفة والعَبَث واللامعنى، إذ ليس فقط أعظم المخاطر أو أشرف الخُصُوم (أو حتى الشيطان نفسه) هم الذي يُسقطون الإنسان ويعيقونه عن تجاوز ذاته وبلوغ الإنسان الأعلى، ففي حالة انعدام المعنى والهدف، يمكن أن ينحرف الوجود الإنساني عن مساره وينزلق بسبب مزحة صغيرة خرقاء، وبعض الحظ السيئ، ولا شيء أكثر من ذلك.
لايزال الإنسان بلامعنى، وبالتالي فإنّ المهرّج/العَبَثَ أيضاً بلا معنى (هنا تشير الديباجة مقدّماً إلى فكرة الخَلاص من الصدفة أو العبثية ثم تطويرها في ما بعد ضمن الكتابين الثاني والثالث.
إبراهيم قيس جركس 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى