جبران خليل جبران - لكم لغتكم ولي لغتي

( 1 )

لكم من اللغة العربيّة ما شئتم ، ولي منها ما يُوافق أفكاري وعواطفي .
لكم منها الألفاط وترتيبها ، ولي منها ما تُومئ إليه الألفاظ ، ولا تلمسه ، ويصبو إليه الترتيب ، ولا يبلغه .
لكم منها جُثث محنَّطة باردة جامدة ، تحسبونها الكلّ بالكلّ ، ولي منها أجساد لا قيمة لها بذاتها ، بل كل قيمتها بالروح التي تحلُّ فيها .
لكم منها محجَّة مقرَّرة مقصودة ، ولي منها واسطة متقلِّبة لا أستكفي بها إلا إذا أوصلت ما يختبئ في قلبي إلى القلوب ، وما يجول في ضميري إلى الضمائر .
لكم منها قواعدها الحاتمة ، وقوانينها اليابسة المحدودة ، ولي منها نغمة أحوِّل رنّاتها ونبراتها وقراراتها إلى ما تثبته رنَّةٌ في الفكر ، ونبرةٌ في الميل ، وقرارٌ في الحاسة .
لكم منها القواميس ، والمعجمات ، والمطوَّلات ، ولي منها ما غربلته الأذن ، وحفظته الذاكرة من كلام مألوف مأنوس ، تتداوله ألسنة الناس في افراحهم وأحزانهم .

( 2 )

لكم منها العَروض ، والتفاعيل ، والقوافي ، وما يُحشَر فيها من جائز ، وغير جائز ، ولي منها جدول يتسارع مترنِّماً نحو الشاطئ ، فلا يدري ما إذا كان الوزن في الصخور التي تقف في سبيله ، أمِ القافية في أوراق الخريف التي تسير معه .
لكم منها الشعراء الفحول الفطاحل الخناذيذ ، ومن صدَّرهم ، وشطَّرهم ، وخَمَّسهم ، وذيّلهم ، وشرحهم ، ولي منها ما يتمَشَّى مهيبِّاً خجلاً في قلوب الشعراء الذي لم ينظموا بيتاً ، ولم ينثروا سطراً .

( 3 )

لكم منها الرثاء والمديح والفخر والتهنئة ، ولي منها ما يتكبَّر عن رثاء من مات وهو في الرحم ، ويأبى مديحٍ مَن يستوجب الاستهزاء ، ويأنفُ من تهنئة من يستدعي الشفقة ، ويترفَّع عن هجو من يستطيع الإعراض عنه ، ويستنكف من الفخر إذ ليس في الإنسان ما يُفاخر به سوى الإقرار بضعفه وجهله .
لكم من لغتكم البديع ، والبيان ، والمنطق ، ولي من لغتي نظرة في عين المغلوب ، ودمعة في جفن المشتاق ، وابتسامة على ثغر المؤمِن ، وإشارة في يد السموح الحكيم .
لكم منها ما قاله سيبويه ، والأسود ، وابن عقيل ، ومن جاء قبلهم وبعدهم من المُضجرين المُملِّين ، ولي منها ما تقوله الأمّ لطفلها ، والمحبُّ لرفيقته ، والمتعبدِّ لسكينة ليله .
لكم منها الفصيح دون الرَّكيك والبليغ دون المبتذَل ، ولي منها ما يُتمِتمه المستوحش ، وكلّه فصيح ، وما يغَصّ به المتوجِّع ، وكلّه بليغ ، وما يَلثَغَ به المأخوذ ، وكلّه فصيح وبليغ .
لكم منها البنيان المرصوص ، ولي منها أسراب من الشحارير ، والبلابل ، تتطاير وتنتقل مرفوفة بين حقول الخيال ورياِضه .
لكم منها القلائد الفضِّيّة ، ولي منها قطر النّدى ، ورجع الصدى وتلاعب النسيم بأوراق الحور والصفصاف .
لكم منها الترصيع ، والتنميق ، وكل ما وراء هذه البهلوانيّات من التلفيق ، ولي منها كلام إذا قيل رَفَع السامع إلى ما وراء الكلام ، واذا كُتِب ، بَسَط أمام القارئ فُسحاً في الأثير ، لا يحدّها البيان .
لكم منها ماضيها ، وما كان في ماضيها من الأمجاد والمفاخر ، ولي منها حاضرها ومستقبلها بما في حاضرها من التأهب وما سيكون في مستقبلها من الحريّة والاستقلال .

( 4 )

لكم لغتكم عازفاً يتناولكم عوداً فيَضْرب عليكم أنغاماً تختارُها أصابعُه المتظلِّفة ، ولي من لغتي قيثارة أتناولها ، فأستخرج منها أغنية تحلم بها روحي ، وتذيعها أصابعي .
ولكم أن تسكبوا لغتكم بعضكم في مسامع بعض ليُسَرَّ ، ويُعجب بعضكم ببعض ، ولي أن أستودع لغتي عصفات الريح وأمواج البحر ، فللريح آذان أشدّ غيرة على لغتي من آذانكم ، وللبحر قلب أربأ بها من قلوبكم .
ولكم أن تلتقطوا ما يتناثر خِرقاً من أثواب لغتكم ، ولي أن أمزِّق بيدي كلّ عتيق بالٍ ، وأطرح على جانب الطريق كل ما يعيق مسيري نحو قمّة الجبل .
ولكم أن تُحنِّطوا ما يُبتر من أعضائها المعتَلَّة ، وأنْ تحتفظوا به في متاحف عقولكم ، ولي أن أُحرق بالنار كلّ مَفْصَل مشلول.

( 5 )

لكم لغتكم عجوزاً مُقْعَدَة ، ولي لغتي صبيّة غارقة في بحر من أحلام شبابها .
وما عسى أن تصير إليه لغتُكم وما أودعتموه لغتَكم عندما يُرفَع الستار عن عجوزِكم وصبيَّتي ؟
أقول إنّ لغتكم ستصير إلى اللاشيء . أقول إنّ السراج الذي جَفَّ زيته لن يُضيء طويلاً .
أقول إنّ الحياة لا تتراجع إلى الوراء .
أقول إنّ أخشاب النعش لا تُزهر ، ولا تُثمر .
أقول لكم إنّ ما تحسبونه بياناً ليس بأكثر من عُقْم مزركَش ، وسخافة مكلَّسة .
أقول إنّ القيظ في نفوسكم يُسيِّركم مرغمين إلى مستنقعات الكلم .
أقول لكم إنّه لا ينتهي هذا الجيل إلاّ يقوم لكم من أبنائكم وأحفادكم قضاةً وجلاّدون .
أقول لكم إنّما الشاعر رسولٌ يبلغ الروح الفرد ما أوحاه إليه الروح العام ، فان لم يكن هناك رسالة ، فليس هناك من شاعر.
وأقول إنّما الكاتب محدِّث صادق ، فإن لم يكن هناك من حديث صحيح مقرون ثابت ، فليس هناك من كاتب .
أقول لكم إنّ النظم والنثر عاطفة وفكر ، وما زاد على ذلك فخيوط واهية ، وأسلاك متقطعة .
والآن ، وقد طلع الفجر ، أتحسبون أنّني أشكو لغتكم لأبِّرر لغتي ؟
لا والذي جعلني ناراً ودخاناً بين عيونكم وأنوفكم .
إنّ الحياة لا ولن تحاول تبرئة نفسها أمام الموت ، والحقيقة لا ولن تشرح ذاتها لدى البُطل ، والقوّة لا ولن تقف أمام الضعف. لكم لغتكم ولي لغتي .

بقلم جبران خليل جبران

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى