ما إن يؤذَّن للصّلاةِ ؛ حتى يتعكّر مِزاج الأفندي ، بعد أن شرعَ في إدارةِ يد " طولمبة" المياه التي تتوسط بيته العامر ، يُحرِك يدها في عصبيةٍ زائدة ، وقد احمرّ وجهه ، وانتفخت أوداجه ، يظلّ في برطمتهِ لدقائقٍ ، حتى بعد انتهاءِ الأذانِ..
يقبض كفه على حفنةٍ من الماء ، ينثرها فوقَ وجههِ الأصفر الشّاحب ، ويبدأ في رصّ كلماتهِ المعتادة : دا زمن العار ومشايخه صغار ..
يُصادِف دخولي من البابِ الأمامي للمنزلِ الواسع ثورته التي لا تُقمع، ليبدأ معي حديثه المألوف مُنذ صدح الميكرفون في قريتنا ، انخرط سريعا في الممشى الرايع الذي يفتح في الممر الفاصل بين قسمي حديقتهِ الخضراء الجميلة ، يحيط المدخل صفين من أعوادِ الريحان برائحتهِ النّفاذة ، اتخذهما الأفندي مُنذ زمنٍ بعيد ؛ كسياجٍ يفصلُ ما بينَ مزروعات الأحواض ، وبين السّائر بالممشى ، انتهاء بدرجِ السّلم وواجهته الحجرية ، ذات الدرجات الثلاث .
بمرورِ الوقت اصبح كلام الأفندي وزمجرته شيئا عاديا ، واحيانا سبابه المقنن أمرًا لا يهمني ، تزداد في كُلّ مرةٍ حيرتي مع ثورةِ الرجل وغليانهِ ، أخيرا اهتديت لحسنِ نيتهِ ، وصدق سريرته ، فالأفندي أحرص الناس على إبعادِ الصّغار عن الميكرفونِ ، خاصة في هذهِ الفترة المبكرة ، مع انتظامِ إقامتي في بيتهِ الواسع المهجور ، ووسط أكوامِ الكتب التي اغوص في ترابها الدقيق ، ونوبات السعال التي تخنقني ، كلّما قلبت صفحاتها الصُّفر المهترئة ، والتي ملأت صناديق الخشب العتيقة ، والسّحارات التي بهتت ألوان أغطيتها القماش الملونة ،عندها اجد سلوتي عن صيحاتِ الرجلِ الموتور وغضبه .
يتقدم الأفندي باستغراب مني ، يبدأ بتلويحِ يده مشوحا مرة ، ومهددا أخرى ، وربما معترضا في حنقٍ ، يقول وهو يهز جريدة يده اليابسة ، وأصابعه المغروسة كنبات الخريف المنزوي : يعني ينفع كدا .. كُلّ من هب ودب يمسك الكريستاله .. وهاتك يا أدان ..؟!
في تلك الأثناء كانت القرية تموجُ في احتفالٍ بهيج ، وكرنفال ديني شعائري مقدس ، لقد صدحَ صوتُ الأذان لأولِ مرةٍ ، من الميكرفون المُعلق فوق شواشي النخلة الملاصقة للمصليةِ على الترعةِ الكبيرة ، أخيرا حلق صوت المؤذِّن ، ظلّ النّاس يجمعون ثمنه لأشهرٍ عِدة ، يمروا على البيوت ِ ، ويجوبوا الحقولِ وقت الجني والحصاد حتى اشتروه .
لم يصد قوا أن القرية الصغيرة أصبح بها ميكروفون ، يتهادى منه صوت الأذان ؛ ليملأ الملقة والغيطان البعيدة ، مُعلنا عن أوقاتِ الصلوات ، ومنبها الأجرية الكادحين في الحقولِ ؛ أن موعد العودة وانتهاء اليوم قد أزف ، ويوما بعد يومٍ تتعالى أصوات المؤذنين ، وتتنوع نعمات أصواتهم ، وتتوزع نبراتهم التي تثير الأفندي ، فلا يستطيع الصّمت ، يظل في تمردهِ الذي لا ينتهي.
شيء غريب فالأفندي لا يذهب للصلاةِ في المسجد ِ ، يؤد صلواته في المنزلِ منذ أن عرفته ، وحتى قبل أن اولد ، حتى الجُمع لا يشهدها ، مُكتفيا بصوتِ المذياع الذي ينقل الخطبة والصلاة عبر الأثيرِ ، حاولت مرارا ثنيهِ عن قراره ِ الأزلي ، لكني فشلت لقد عزَمَ أمرًا لا رجوع عنه .
وفي المسجدِ أصبح الأذان هدفا للجميع ، والامساك بالسماعةِ مطلبا عزيزا ، حاول المتبارون اثبات حضورهم ، والإعلانِ عن أنفسهم من خلالهِ ، فبعد عودة الواحد منهم ، يبدأ الاحتفال الحقيقي ، تُلاقيه زوجته وأولاده الدين وقفوا خارج البيتِ ، يتباهون بنشوةٍ غريبة وتعالى ، تُقام مراسم عودتهِ كأنه بطلا مُظفرا عادَ من غزوةٍ ، يتمايلون طربا مع صوتهِ ، لا يكفوا عن مكايدهِ الجيران ، الذين دبّت فيهم الغيرة أيضا ، يبكر الجار ليكون له السّبق ، وهكذا يتوالى النشاز .
ذهبت ذات ظهيرةٍ للصلاةِ ، لم يكن في المسجدِ إلا الصِّغار ، وما إن حضرَ وقت الأذان ، حتى اندلع الشجار والتناوش ، من يرفع الأذان ويمسك بالميكرفون قبلَ صاحبهِ ، اخيرا انتصر كبيرهم واقواهم ، اتخذ موضعه من العدةِ ، وشرعَ في ترديدِ مفردات الأذان ، فجأة انخرط في ضحكٍ هستيري عميق لا يُعرف له سبب ، ضجت بهِ الشوارع والأزقة والبيوت ، ووصل مداه الحقولِ التي امتلأت سبا وشتما وتوبيخا من الفلاحينِ ، كيف لهذا المستهتر أن يتجرأ ، وينتهك حُرمة هذه الشعيرة المقدسة ، لم يكن من سبيلٍ ، إلا أن يصدر القرار و بالاجماع ؛ بحرمانِ الصِّغار من التقدمِ للأذان ، حتى وإن لم يؤذَن للصلاةِ من أصلهِ .
في هذهِ الأثناء استقرَ الرأي ، أن يؤذن الشيخ مجذوب كُلّ الصلوات ، قدّمه الناس لكبِر سنه ، وتفرغه التام للصلاةِ ، داخل الرجل الزهو ، فرحا بهذا الاجماع ، داخل نفسه الفخر ، وكأنّه انتخب عضوا في هيئة الإفناء ، أو إمامةِ الجامع الأزهر ، فمارإن بدأ في أذانهِ حتى استغاث الناس منه ، انتاب الناس قشعريرة لصوتهِ النشاز ، وبدأت رحلة قاسية من تأنيبِ الضّميرِ وجلدِ الذات على سوءِ الاختيارِ ، في الوقتِ نفسهِ يزداد اشفاقي على الأفندي ، الذي كان يتلوى غيظا في منزلهِ ، وهو يُدير يد طولمبة المياه .. منفعلا ، يقول باستهزاءٍ وغم : كالمستجير بالرمضاء بالنار .. مفيش فايدة ..
يقبض كفه على حفنةٍ من الماء ، ينثرها فوقَ وجههِ الأصفر الشّاحب ، ويبدأ في رصّ كلماتهِ المعتادة : دا زمن العار ومشايخه صغار ..
يُصادِف دخولي من البابِ الأمامي للمنزلِ الواسع ثورته التي لا تُقمع، ليبدأ معي حديثه المألوف مُنذ صدح الميكرفون في قريتنا ، انخرط سريعا في الممشى الرايع الذي يفتح في الممر الفاصل بين قسمي حديقتهِ الخضراء الجميلة ، يحيط المدخل صفين من أعوادِ الريحان برائحتهِ النّفاذة ، اتخذهما الأفندي مُنذ زمنٍ بعيد ؛ كسياجٍ يفصلُ ما بينَ مزروعات الأحواض ، وبين السّائر بالممشى ، انتهاء بدرجِ السّلم وواجهته الحجرية ، ذات الدرجات الثلاث .
بمرورِ الوقت اصبح كلام الأفندي وزمجرته شيئا عاديا ، واحيانا سبابه المقنن أمرًا لا يهمني ، تزداد في كُلّ مرةٍ حيرتي مع ثورةِ الرجل وغليانهِ ، أخيرا اهتديت لحسنِ نيتهِ ، وصدق سريرته ، فالأفندي أحرص الناس على إبعادِ الصّغار عن الميكرفونِ ، خاصة في هذهِ الفترة المبكرة ، مع انتظامِ إقامتي في بيتهِ الواسع المهجور ، ووسط أكوامِ الكتب التي اغوص في ترابها الدقيق ، ونوبات السعال التي تخنقني ، كلّما قلبت صفحاتها الصُّفر المهترئة ، والتي ملأت صناديق الخشب العتيقة ، والسّحارات التي بهتت ألوان أغطيتها القماش الملونة ،عندها اجد سلوتي عن صيحاتِ الرجلِ الموتور وغضبه .
يتقدم الأفندي باستغراب مني ، يبدأ بتلويحِ يده مشوحا مرة ، ومهددا أخرى ، وربما معترضا في حنقٍ ، يقول وهو يهز جريدة يده اليابسة ، وأصابعه المغروسة كنبات الخريف المنزوي : يعني ينفع كدا .. كُلّ من هب ودب يمسك الكريستاله .. وهاتك يا أدان ..؟!
في تلك الأثناء كانت القرية تموجُ في احتفالٍ بهيج ، وكرنفال ديني شعائري مقدس ، لقد صدحَ صوتُ الأذان لأولِ مرةٍ ، من الميكرفون المُعلق فوق شواشي النخلة الملاصقة للمصليةِ على الترعةِ الكبيرة ، أخيرا حلق صوت المؤذِّن ، ظلّ النّاس يجمعون ثمنه لأشهرٍ عِدة ، يمروا على البيوت ِ ، ويجوبوا الحقولِ وقت الجني والحصاد حتى اشتروه .
لم يصد قوا أن القرية الصغيرة أصبح بها ميكروفون ، يتهادى منه صوت الأذان ؛ ليملأ الملقة والغيطان البعيدة ، مُعلنا عن أوقاتِ الصلوات ، ومنبها الأجرية الكادحين في الحقولِ ؛ أن موعد العودة وانتهاء اليوم قد أزف ، ويوما بعد يومٍ تتعالى أصوات المؤذنين ، وتتنوع نعمات أصواتهم ، وتتوزع نبراتهم التي تثير الأفندي ، فلا يستطيع الصّمت ، يظل في تمردهِ الذي لا ينتهي.
شيء غريب فالأفندي لا يذهب للصلاةِ في المسجد ِ ، يؤد صلواته في المنزلِ منذ أن عرفته ، وحتى قبل أن اولد ، حتى الجُمع لا يشهدها ، مُكتفيا بصوتِ المذياع الذي ينقل الخطبة والصلاة عبر الأثيرِ ، حاولت مرارا ثنيهِ عن قراره ِ الأزلي ، لكني فشلت لقد عزَمَ أمرًا لا رجوع عنه .
وفي المسجدِ أصبح الأذان هدفا للجميع ، والامساك بالسماعةِ مطلبا عزيزا ، حاول المتبارون اثبات حضورهم ، والإعلانِ عن أنفسهم من خلالهِ ، فبعد عودة الواحد منهم ، يبدأ الاحتفال الحقيقي ، تُلاقيه زوجته وأولاده الدين وقفوا خارج البيتِ ، يتباهون بنشوةٍ غريبة وتعالى ، تُقام مراسم عودتهِ كأنه بطلا مُظفرا عادَ من غزوةٍ ، يتمايلون طربا مع صوتهِ ، لا يكفوا عن مكايدهِ الجيران ، الذين دبّت فيهم الغيرة أيضا ، يبكر الجار ليكون له السّبق ، وهكذا يتوالى النشاز .
ذهبت ذات ظهيرةٍ للصلاةِ ، لم يكن في المسجدِ إلا الصِّغار ، وما إن حضرَ وقت الأذان ، حتى اندلع الشجار والتناوش ، من يرفع الأذان ويمسك بالميكرفون قبلَ صاحبهِ ، اخيرا انتصر كبيرهم واقواهم ، اتخذ موضعه من العدةِ ، وشرعَ في ترديدِ مفردات الأذان ، فجأة انخرط في ضحكٍ هستيري عميق لا يُعرف له سبب ، ضجت بهِ الشوارع والأزقة والبيوت ، ووصل مداه الحقولِ التي امتلأت سبا وشتما وتوبيخا من الفلاحينِ ، كيف لهذا المستهتر أن يتجرأ ، وينتهك حُرمة هذه الشعيرة المقدسة ، لم يكن من سبيلٍ ، إلا أن يصدر القرار و بالاجماع ؛ بحرمانِ الصِّغار من التقدمِ للأذان ، حتى وإن لم يؤذَن للصلاةِ من أصلهِ .
في هذهِ الأثناء استقرَ الرأي ، أن يؤذن الشيخ مجذوب كُلّ الصلوات ، قدّمه الناس لكبِر سنه ، وتفرغه التام للصلاةِ ، داخل الرجل الزهو ، فرحا بهذا الاجماع ، داخل نفسه الفخر ، وكأنّه انتخب عضوا في هيئة الإفناء ، أو إمامةِ الجامع الأزهر ، فمارإن بدأ في أذانهِ حتى استغاث الناس منه ، انتاب الناس قشعريرة لصوتهِ النشاز ، وبدأت رحلة قاسية من تأنيبِ الضّميرِ وجلدِ الذات على سوءِ الاختيارِ ، في الوقتِ نفسهِ يزداد اشفاقي على الأفندي ، الذي كان يتلوى غيظا في منزلهِ ، وهو يُدير يد طولمبة المياه .. منفعلا ، يقول باستهزاءٍ وغم : كالمستجير بالرمضاء بالنار .. مفيش فايدة ..