زينب عفيفي - السلالم الصغيرة تصعد لأعلى أيضًا.. قصة قصيرة

خرجتْ للتو من حمام عشتهما التي لا تسع غيرهما، تفصله ستارة قديمة مهترئة عن طرقة تصغر وتضيق كلما كبرت الطفلة، غرفة نوم وحيدة تضم موقدًا مسطحًا ومرتبة قطنية تموج بارتفاعات وانخفاضات الزمن، بعد استبدالها بالحصيرة الخوص التي دقت عظامهما، يحتميان ببعضهما فوقها كل ليلة، قطرات الماء المتساقطة من شعر الصغيرة تثقل رموشها فتجبرها على إغماض عينيها، لكنها كانت تعرف طريقها إلى حضن أمها جيدًا، فهي لم تخطئ أبدًا ذاك المكمن الخفي الذي يسكنه الدفء والحنان والشعور بالأمان، من صقيع ينفذ من كل حوائط العشَّة التي لا تزورها الشمس إلا عند الغروب بشعاع باهت، ضعيف، يكاد يختفي قبل تدفئة المكان، ليترك إحساسًا مضاعفًا بالبرد والوحدة لديهما، متوافقًا تمامًا مع صراخ السيدة العجوز بوجهها السبعيني وشعرها الأبيض المشعث مثل ندَّاهة تعرف كيف تخطف لحظات السعادة النادرة من قلوب أصحابها المحتاجة، تصرخ من شباك غرفتها في الدور الثاني المطل على حوش فسيح لمنزل آيل للسقوط، معظم سكانه يعيشون تحت السلالم، يلتمسون مسكنًا كظل حوائط لأمكنة بدون أسقف على أرصفة الشوارع، أو خرابات البيوت المتهدمة.

تصرخ العجوز بصوت عالٍ لطالما أخاف طفلة العاشرة:

ـ يا أم عفاف أين أنت؟، اصعدي حالا، “طرشتي.“

تهتز أم عفاف إثر الصوت القادم من الفضاء العلوي، تنتفض مهرولة كقطة صدمتها سيارة ولم تُميتها، تجري هلعًا نحو النداء الصارخ من الفضاء الفسيح:

ـ نعم يا ست هانم، حاضر، طالعة لحضرتك في ثواني، أمشط شعر عفاف وسآتي لحضرتك حالا.

ترتعش يد أم عفاف وهي تلوي مسرعة ضفائر ابنتها الخشنة التي يصعب تضفيرها بدون زيت تنعيم للشعر.

تتلوى رأس عفاف الصغيرة مع ضفائرها يمينًا وشمالاً كبندول ساعة فقد توازنه، تتألم الطفلة بين يديّ أمها المتعجلة، بكلمات متعثرة بالوجع ترجو عفاف أمها أن تترك ضفائرها المبلولة، وأن تروح حتى لا تغضب منها السيدة العجوز .

خطفت الأم طرحتها السوداء من فوق الكرسي الخيرزاني المستند عليه باب غرفتها، ولفتها حول رقبتها النحيلة بإحكام كحبل مشنقة، تريد أن تسكت عنها عذابات خدمة البيوت وأصوات النداءات العاجلة. في خطوات سريعة متلعثمة صعدت سلالم البيت القديم، تدق الباب العجوز لشقة السيدة، ليطل وجهها من خلاله، كانت ترتدي ثوبًا زهريًا بدوائر صفراء، بداخلها دوائر أخرى بيضاء، تصيب عينيّ أم عفاف بالدوار، فتستند إلى مقبض الباب كأنما لتطلب منه العون، حتى تخرج كلماتها واضحة وطيِّعة: – نعم يا ست هانم، تحت أمر حضرتك.

– ادخلي بسرعة المطبخ، شطبي الأطباق والأواني، سيدك شفيق على وصول، وأول شيء يفعله قبل أن يغير ملابسه يدخل المطبخ ويُتمم على الأطباق والشوك والملاعق في أماكنها، ويكشف أغطية الأواني ليتأكد من صنع شوربة الكرنب والكرات الأخضر التي يتناولها يوميًا منذ أكثر من أربعينَ عامًا بلا انقطاع، ماذا جرى لك يا أم عفاف فقدتِ الذاكرة ؟!

هزت أم عفاف رأسها علامة الطاعة، دون أن تتفوه بكلمة واحدة. تترك العجوز أم عفاف في المطبخ في معركتها اليومية مع الأواني والأكواب التي يعلوها الاتساخ والغور في الزمن القديم، وتجلس العجوز حول مائدة خشبية مستديرة من الطراز الكلاسيكي القديم المزركش بالرسومات البارزة لتماثيل القرون الوسطى، تدقق بأصابعها المكرمشة في حركة عصبية متتالية تشبه دقات عزف البيانو على المائدة، حتى تعاود صراخها من جديد:

ـ أين ابنتك عفاف؟

تسرع أم عفاف من المطبخ وهي تضع كفًا فوق كف، خوفًا من تسرب المياه من بين أصابعها المتورمة:

ـ خير يا ست هانم حضرتك تؤمريني بشيء ؟ .

ـ لا، كنت أريد عفاف أن تلتقط تلك الشعرة اللعينة التي تؤرقني كلما أتحسسها ، إنها تؤلمني كشوكه تخترق ذقني كالسكين، نادي عليها بسرعة كي تزيلها.

ـ تحت أمر حضرتك ممكن أزيلها لحضرتك

قالت العجوز: أنت تحتاجين ميكروسكوب كي تري هذه الشعرة، نادي على ابنتك ، فإن لها عينينِ قويَّتينِ، وتستطيع أن تلتقط هذه الشعرة اللعينة بسهولة، اسمعي الكلام. .

خرجت أم عفاف من المطبخ وتوجهت إلى غرفة نوم السيدة المطلة على الفناء الفسيح، رأت عفاف جالسة على باب الحجرة فوق حجر جرانيتي قابعً بجوار غرفتهما كحارس لهما، تقرأ دروسها.

ـ عفاف، يا عفاف.

نظرت الصغيرة لأمها :

نعم ـ لِفِّي وأطلعي لي حالا أجابت بتردد :

خير يا ما

–الست هانم تريدك في خدمة تجمَّدت عفاف في مكانها :

أيَّة خدمة ؟ .. لن أخدم أحدًا ،،

قالت الأم بحسم :

لما تيجي هتعرفي

ظلت عفاف تفكر طوال الطريق ” ماذا لو طلبت منِّي تنظيف الأرضيَّات أو الحمَّامات أو ترتيب الحجرات ماذا سأقول لها ؟ لا أريد أن أؤدي نفس الأعمال التي تقوم بها أمي، أنا لا أحب خدمة البيوت ، وأكره هذه العجوز وطريقتها في معاملة أمي ، لو كان أبي موجودًا ما كانت هذه العجوز تتحكم في حياتنا هكذا، لم أسمع منها غير طلبات وأوامر .. يا رب أرحنا منها، وخلصنا من نداءاتها المتكررة .

كان باب شقة السيدة مواربًا بحيث يكفي لرؤية ظل عفاف حين اقتربت من عتبته، سمعت العجوز صوت أقدام الصغيرة فأيقنت أنها وصلت:

ـ ادخلي يا عفاف

في خطوات مترددة نفدت الصغيرة من الفتحة المواربة للباب، لاحظت العجوز علامات الخوف على وجه الطفلة قالت لها :

ما الذي يخيفك ؟

–لا يخفيني شيء ، تعثرتُ على السلم وقدماي تؤلماني

– عرفت من أمك أنك ترغبين في التعليم، في أي سنة تدرسين ؟ وتضحك بسخرية

ـ أم أنك تفكرين في تكملة تعليمك ؟، أم تساعدين أمك في عملها ؟

لم تجب عفاف، ولاذت بالصمت

– التعليم شيء جميل ، لكن أمك لن تستطيع تكملة مشوارك وحدها، كلها سنتين أو ثلاثة على الأكثر ويكون مكانك خدمة البيوت مثل أمك ، وليس بعيدًا ربما تتزوجين فمن في مثل جمالك لا ينتظرن قطار الزواج طويلا ، وترتاح أمك من مصاريفك ..

كتمت البنت غيظها ولم تنطق بكلمة واحدة، لقد سقطت كلمات العجوز فوق رأسها كسيف شطرها إلى نصفين، نصف يتعذب من حقيقة ما قالته، والنصف الثاني تحدٍّ طفولي يرفض بشدة نبوءة السيدة العجوز.

–اقتربي

أكملت ثرثرتها بدون اكتراث:

بدت ملامح الخوف والفزع على ملامح الطفلة، التي أخذت تتراجع ويزداد خوفها مع صراخ السيدة:

–اقتربي

تعثرت خطوات الصغيرة خوفًا من اكتشاف العجوز سر ما تحمله لها من كراهية، ورفض لوجودها في حياتها، أو ربما تلكمها بقبضة يدها المدببة بالعظام البارزة، أو تلوي ضفيرتها بين يديها مثلما تفعل معها حين تتأخر على نداءاتها المتكررة، منذ كانت تحبو بجوار أمها على أرضية المطبخ الرطبة. نظرت العجوز لوجه الصغيرة تتفحصها في تحدٍّ صارخ :

اقتربي .. والتقطي هذه الشعرة اللعينة التي لا تكف عن إيذائي.

أمسكت عفاف الملقاط ونزعت الشعرة المنتصبة على ذقن العجوز بنزعة واحدة وقوية.

خطفت العجوز الملقاط من يد الصغيرة وأبعدتها عنها باليد الأخرى ..

– أمشي بعيد، لا أريد رؤيتك مرة ثانية.

خرجت أم عفاف من المطبخ على صراخ العجوز التي لا تكف عنه ..

ـ ماذا حدث يا ست هانم؟

–لا شيء.

تُغرق عفاف ذكرياتها في فنجان شاي بارد، وهي تتأمل غروب شمس منحت دفئا غائبًا لذكرى رحيل أمها منذ سنوات بعيدة، بعد أن أيقظها صوت الخادمة من خلف مقعدها الوثير:

ـ أعد كوب شاي ساخن لحضرتك يا دكتورة عفاف؟



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى