كاهنة عباس - هل انتهجت الثورة التونسية مسارا براقماتيا ؟

غالبا ما تفتقد وجهة نظر الادباء والاعلاميين والباحثين، سواء في الغرب أو في الشرق أو في المغرب الى الموضوعية، في ما يتعلق بالثورة التونسية، فتكتسي آراؤهم طابعا ذاتيا يتناول الموضوع من زاوية معينة دون اعتبارعناصر أخرى مثل الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد التونسي لخضوع نصف مبادلاته الى ما يسمى بالاقتصاد الموازي، الى جانب كثرة الاضرابات سواء في القطاع العام أو الخاص وتضخم سلطة النقابات، مما أدى الى عدم استقرارالحكومات التي تلت الثورة و تداين الدولة التونسية وعجزها عن إيجاد حلول ناجعة للازمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .

وضعية البلاد التونسية ليست رومانسية كما توصف من طرف البعض ولا هي معجزة كما يراد لها أن تكون، وضعية البلاد التونسية وإن كانت أقل مأساوية من الوضعية السياسية والاجتماعية والامنية من دول أخرى مثل ليبيا وسوريا، لا يمكن وصفها بمرحلة الانتقال الديمقراطي ولا بالنموذج الذي يحتذى به في العالم العربي، كما يشاع من وجهة نظرنا على الاقل .

ما يعنينا في هذا الطرح هو تفكيك المسار الثوري واكتشاف آلياته بقطع النظر عن الاتجاهات والرؤى الايديولوجية التي تحركه.

أول استنتاج يمكن أن نستخلصه: أن الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي في تونس سواء النخبوي أو الشعبي يتعامل مع الاحداث لا لاستباقها وتغييرها، بل لقراءتها وفهمها، لغياب أية رؤية عقلانية ، وهي مفارقة عجيبة تتنافى مع الفعل الثوري الهادف الى تغييرالقيم السائدة بإرساء قيم جديدة .

ومرد ذلك من وجهة نظرنا ،تعدد الفاعليين السياسيين بعد سقوط النظام وانخراطهم في صراع جديد يهدف الى إعادة تحديد المواقع وتشكيل خارطة سياسية جديدة .ومعنى ذلك أن لا طرف بات قادرا على التحكم بمفرده في المشهد السياسي ولا على فرض رؤية واحدة أو مشروع.

لقد فاجئت الثورة جميع الاطراف ( شعبا ونخبا وقوى اقتصادية وسياسية )وكانت فاقدة لكل زعامة أو رؤية، فإذا بها تجعلهم يواجهون واقعا كانوا يجهلونه أو بالاحرى يتجاهلونه : مثل التفاوت الطبقي ، تدهور النظام التعليمي ، انعدام التجربة السياسية الكافية لدى النخبة السياسية التي تمكنها من تسيير دواليب الدولة ،التباين الكبير بين ما تطرحه من رؤى وبين التحديات المطروحة عليها .

بإيجاز، أصبحنا فجأة نعيش على وتيرة زمنية أخرى أكثر سرعة تتزاحم فيها الاحداث دون أن تكون لنا القدرة على استشراف المستقبل، لاننا لم ندرك بعد أن للتاريخ مقتضياته ونوامسيه المحكومة بالتغيير والتحول المستمرين اللذين لا مجال لتفاديهما أو الهروب منهما.

أصبحنا، إذا نعيش واقعا متغيرا نتعامل معه بأفكار قديمة ورثناه من الانظمة الديكتاتورية ومن ماضينا البعيد والقريب وكان لا بد لنا من إيجاد حلول سريعة للمشاكل المطروحة .

لذلك نعتقد، أن المنهج البراقماتي هو الذي طغى على المسار الثوري رغم الصراعات الايديولوجية الذي عرفتها البلاد بين التيارالحداثي والتيار الاسلامي والتي لم تهدأ إلا بوقوع وفاق سياسي بينهما .

فما هي البراقماتية ؟

أن أفكارنا ومسلماتنا لا يمكن اعتبارها حقائق إلا بعد خوض تجربة واقعية ملموسة تؤكد صحتها، لا وجود إذا لحقائق مجردة عقلانية تختزل الواقع في مفاهيم وأفكار وتسيره طبق منطق معين ونظام مسبق.

فالواقع من وجهة نظر براقماتية خاضع للتحول مستمر وهو ليس بالمعطى الجاهز خاضع لقوانين تسيره.

ورغم ذلك ، لا نعتقد أن المسار الثوري انتهج البراقماتية كاتجاه فلسفي منسجم ومتماسك بجميع خلفياته ونتائجه الفكرية تلك التي لا تؤمن بالمثل العليا بل بالتجربة الملموسة، فقد اكتفت النخبة السياسية سواء عن دراية أم من دونها باقتباس بعض مناهج البراقماتية دون تبني خلفياتها الفكرية ،مما أدى الى ضرب من ضروب الانفصام بين الخطاب السياسي الذي طغت عليه الايديولوجيات وبين الفعل السياسي الذي اتسم بإيجاد حلول سريعة للمشاكل التي يطرحها الواقع .

لقد باغتنا التاريخ ،لاننا تنكرنا لمتغيراته، باغتنا لان الانظمة الديكتاتورية سخرت كل الامكانيات المادية والمعنوية من إعلام وتعليم وثقافة لرسم صورة مغايرة للواقع الذي نعيشه ولتغييب الوعي.

فما هي مظاهر البراقامتية في مرحلة الانتقال الديمقراطي :

جميع الحلول التي انتهجتها القوى الاجتماعية والسياسية كانت وليدة اللحظة التاريخية التي فرضتها الثورة بدءا بنشأة حكومة الاولى والثانية ما بعد الثورة الى تنظيم انتخابات المجلس التأسيسي الى الاستجابة الفورية لمطالب المحتجين، ويتمثل الحل البراقماتي الذي فرضته تلك المرحلة في خلق صيغ وإجراءات تمكن المجتمع المدني ومختلف القوى الاجتماعية والسياسية من المشاركة في صياغة القرار السياسي .

فكان للهيئة الوطنية للمحامين وللاتحاد العام للشغل ولرابطة حقوق إنسان أدوارها في اتخاذ تلك القرارات وفي إيجاد صيغ وإجراءات التي تمكن جميع الاحزاب من المشاركة في إدارة الشأن العام على قدم المساواة ودون إقصاء، باعتبار أنها متساوية الحظوظ في انتظار تنظيم الانتخابات، وقد تم اختيارأعضاء الهيئة العليا لحماية الثورة والانتقال الديمقراطي على هذا المنهاج .

لكن أكبر تجليا للحلول البراقماتية، كان ولا يزال هو نشأة حكومات " التكنوقراط"المتكونة من شخصيات مستقلة لتسيير البلاد .

ما يهمنا في هذه المقاربة هو الكشف عن البون الشاسع بين الحقائق الملموسة التي كشفتها الثورة وبين الخطاب الاعلامي والسياسي .

كذلك كشف لنا المنهج البراقماتي عدة حقائق كانت محجوبة عنا :من بينها أن الاسلام السياسي لا يطرح حلا لمشاكل البلاد وقد يتعارض مع منطق قيام الدولة وهو ما دفع بالاسلاميين الى تغيير مواقفهم حسب مقتضيات كل مرحلة .

أن البلاد في حاجة ماسة الى إعادة النظر في خياراتها في ميادين أساسية هي : الاقتصاد ، والتعليم والثقافة .

أن ما يسمى "البورقيبية" لا يمكن أن تشكل مشروعية جديدة لنخبة تقود البلاد وقد استنفذت جميع إمكانياتها السياسية بنشأة دولة الاستقلال ثم نهايتها بعد سن الدستور الجديد .

أن الوفاق ليس إلا حلا مؤقتا في انتظار صياغة رؤية سياسية جديدة ومشروع ينهض بالبلاد وأن جميع الايديولوجيات التي تدعي طرح حلول، لا تستجيب لتحديات المرحلة .

هل ستقتصر الايديولوجيات على خطاب هامشي يحاول أن ينفذ الى واقع متغير ؟

ألم يحن الوقت بعد للاستفادة مما كشفته براقماتية الاحزاب الحاكمة ؟



كاهنة عباس




كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى