منذر فالح الغزالي - هارموني البناء في قصيدة (أو تدري..؟)، للشاعرة اللبنانية: زينب الحسيني

النص، بقلم زينب الحسيني

أوَتدري..؟
صوتكَ أنغامٌ تسري
في متاهاتِ شراييني
أوَتدري من يحركني؟
يشعلني ثم يُطفيني..
ويمزِّق لي خيوطَ الشَّجنِ..

على ضفاف ابتسامتكْ
تثمل كلُّ حروف الغزلِ
ويورق الشِّعر في جبهتي
وبين أناملي..
يا العازفُ على أوتاري
لحناً يحاكي ألحان أورفيوس
على القيثارِ..
أشتاقك اشتياقَ اللَّيلِ للسَّحرِ
واشتياق اليأس للأملِ
وأسافر في الرِّيحْ
على بساط الحلمِ..
لأعود.. بسمةً تلهو على شفتيكْ
تداعبُ حروف البوحِ
لنعيد اكتشافَ
الشغفِ الأوّلِ...
__________________________________
القراءة بقلم: منذر فالح الغزالي
مدخل إلى قصيدة النثر

منذ الستينيات من القرن المنصرم، بداية انطلاق مجلة شعر، وقصيدة النثر التي تبنتها منذ بدايتها، قطعت قصيدة النثر شوطاً كبيراً باتجاه النضج الجمالي والتنوع في الأساليب والتقنيات التي يفيد منها الشعراء.
وإذا كان الشعر هو نص ذاتيّ، يحمل رؤية الشاعر بغضّ النظر عن الموضوع الذي تتناوله، فإنّ قصيدة النثر تنشغل، أكثر ما تنشغل، التفكير والتأمّل، تطرح الأسئلة الكبرى، وتشتغل على القضايا الكبرى، عبر وسائل أسلوبية متنوعة.
الأساليب الجمالية في القصيدة
والأساليب الجمالية التي اعتمدتها الشاعرة في هذه القصيدة القصيرة متعددة الجوانب، متنوعة المصادر، ترتبط كلها بوشيجة واحدة رغم تعدد مصادرها. هذه الأساليب تقابل القارئ المتذوّق جمال القصيدة مباشرةً.
أولاً: تعّد البنى الأسلوبية:
1, الصورة: تنوّع مصادر الصورة
للصورة في قصيدة زينب الحسيني مصادر متعددة، حسب الحالة الوجدانية التي تعبّر عنها، وحسب وظيفة التواصل، التي تبغيها الشاعرة من الصورة...
فإذا كانت اللغة إشاراتٍ ورموزاً أوجدها الإنسان بغية التواصل، فإنّ الشاعر أوجد الصورة الشعرية، للتواصل الوجداني والوجودي بينه وبين مستمعٍ أو قارئٍ افتراضيٍّ ينقل له تجربته الروحية التي يعيشها، فيشاركه فيها.
اعتمدت الشاعرة زينب الحسيني في قصيدتها (أوتدري؟) على ثلاثة مصادر لصورتها الشعرية، وجاءت متتاليةً في ثلاثة مواقع من القصيدة، تصف ثلاث حالاتٍ وجدانية عايشتها أثناء الكتابة، تصف، مجتمعةً، حالةً شعورية، وتجربةً فكريّةً تصل حدّ التصوف أو الفلسفة.
أولى هذه المصادر: العالم الفيزيقي، الموسيقا، النار...
"صوتك أنغام تسري
في متاهات شراييني
أوتدري من يحركني؟
يشعلني، ثم يطفيني...
ويمزق لي خيوط الشجن"
المصدر الثاني: الطبيعة وما تحتويه من مفردات غزت قاموس مدارس الشعر الرومنتيكي... ضفاف، ليل، الريح...
"على ضفاف ابتساماتك
تثمل حروف الغزل
و يورق الشعر في جبهتي
وبين أناملي... "
المصدر الثالث: الرموز الأسطورية: أورفيوس وقيثارته
"يا العازف على اوتاري
لحنا يحاكي ألحان أورفيوس
على القيثار..."

2. التناص: مع الأسطورة
، وربطه مباشرةً بالحالة العاطفية للذات الشاعرة، بطريقة تكاد تكون الأسطورة ذاتها منبثقةً عن الحال الشاعرة وليس العكس، دون ترفّع (ثقافوي) نخبوي...
" يا العازف على اوتاري
لحنا يحاكي ألحان أورفيوس
على القيثار..."

3. العوالم الميتافيزيقية المهيمنة على مجمل أجواء القصيدة، موضوعاً وصوراً، ولغةً ضبابيةً، لا تشير مباشرةً، بل تترك أثراً يدلّ، كالأضواء البعيدة في ليلة دامسة تدلّ على النجوم. عالم ذهني هلامي، يسمح، أو يدفع الذهن لكل التخيلات ان تنفتح في مخيلته بانفتاحاتٍ لا حصر لها ولا حدّ يحدّها.
نلمس هذه العوالم الميتافيزيقية، أو الصوفية، على وجه الخصوص، في المقطع الأخير من القصيدة:
"أشتاقك...
اشتياق الليل للسحر.
واشتياق اليأس للأمل
وأسافر في الريح
على بساط الحلم
لأعود بسمة، تلهو عل شفتيك..
تداعب حروف البوح
لنعيد اكتشاف
الشغف الأول.."

ثانياً: الموسيقا، أو الإيقاع
إذا كانت قصيدة النثر قد استغنت عن الإيقاع الخارجي، فإنّ الشاعر المتشرّب بالشعر يعوّض عنه بعناصر إيقاعية أخرى تكتنزها القصيدة، كلاً متكاملاً، من الفكرة والصور وتوتّر اللغة، أو استرخاؤها؛ إنه إيقاع لا يفرض نفسه بوزنٍ وتفعيلات... هو إيقاع نفسيٌّ، رافق الشاعر أثناء تمثّله القصيدة، وأثناء كتابتها، تشعّ به عناصر القصيدة، آن القراءة، وينعكس في نفس القارئ وخاطره، بشكلٍ يشعر به في وجدانه، دون أن يلمسه في حواسّه المادية؛ مثلما أنّ لكلّ حالة، أو زمان إيقاعاً مختلفاً في داخلنا، نشعر به ولا نلمسه.
لنقرأ، أو لنستمع إلى هذه الصورة من جديد
"صوتك أنغام تسري
في متاهات شراييني
ولنكمل القراءة – السماع إلى الصورة التي تليها:
أوتدري من يحركني؟
يشعلني، ثم يطفيني...
ويمزق لي خيوط الشجن"
في هذه الحالة التي تتمثّلها الشاعرة، وتوصلها لنا ارتباط الشرايين بالحركة، ثمّ بالحريق والانطفاء يخلق توتراً، لم تحدّده أوزانٌ ولا تفعيلات، إنما هي اللغة التي تبني صورةً تشعل الحرائق في الشرايين، تهزُّ الأعماق وتحرّكها، وأخيراً تقطع نياط القلب، في لحظة ذروة التجربة الشعورية التي عاشتها الشاعرة أثناء الكتابة، فانتقلت، بإيقاعها المتوتر، إلى القارئ ليعيش، بالقراءة وحدها، حالة الشاعرة الروحية والوجدانية.
صورةٌ أخرى توضّح الإيقاع الداخليّ للقصيدة، ومدى تأثير الإيقاع الداخليّ للشاعرة الذي، حمّلته القصيدة، فانتقل بفعل القراءة إلى القارئ:
"أشتاقك...
اشتياق الليل للسحر.
واشتياق اليأس للأمل
وأسافر في الريح
على بساط الحلم "
على النقيض من الصورة الأولى، تأتي المفردات في هذه الصورة هادئةً، مسترخية، تنحى منحى التصوف، بمفرداتٍ أقرب إلى لغة الصوفيين: الليل والسحر، اليأس والأمل، والسفر...السفر، المفردة الأكثر دلالةً على الحالة الصوفية برمّتها، فما التصوّف إلا سفرٌ من عالم الحياة المادية، إلى عوالم أخرى بعيدةٍ، عوالم ميتافيزيقية، تليق بشاعرةٍ أضناها الشوق، بعد أن ألهب شرايينها، وبعد رحلة الفراق والوفاء الأسطوريّ الذي يوازي وفاء أورفيوس الذي عاش يعزف، على قيثارته، ذكرى زوجته التي أخذها هيرميز إلى العالم السفلي، يهيّج الكائنات والجماد، ثمّدفع حياته ثمناً لوفائه.
ثالثاً: الكيان الكلي للقصيدة، وحدة الكيان المغلق
رغم تعدّد مصادر الصورة ومستويات الإيقاع الداخلي للقصيدة، التي تبدّت في لغتها المتنوعة، وصورها المختلفة، وخواطرها المتشظّية، فإنّ هذه الصور، وهذه اللغة، وهذه الخواطر تأتلف جميعها في هارموني واحدة، هي الحالة الوجدانية التي عايشتها الشاعرة أثناء الكتابة، والتي جالت بها في هذه الأنحاء المختلفة، لتجمع الأطراف لا لتفرّق، لتكمل الحالة لا لتشتت، لتشبع الشعور والفكر الحائر في قضيته لا لتعبث.
كقارئٍ، لا يهمّني أين كانت تهيم أفكار الشاعرة وخواطرها، أو في أيّ معارج كانت تسافر روحها، أثناء كتابة القصيدة. ما يهمّني هو ما فتحته القصيدة في خاطري حين قرأتها، أيّ عوالم انفتحت في داخلي وأنا أغيب، رويداً رويداً، عن عالم الواقع الذي يحيط بي، وأنغمس، درجةّ فدرجة، بين كلماتها، أو، وهذا هو التوصيف الأدقّ: وأنا أصعد مع كلماتها شيئاً فشيئاً عن عالم المادة.
جاء بناء القصيدة، وترتيب الصور بهذا التتالي ليرفع القارئ، دون إرادته، إلى عوالم رومنسية، أسطورية...غيبية وصوفية. أعادتني، في لحظة من لحظات القراءة، إلى شغف البداية... وذلك الذهول وذلك السؤال الأزلي المعلّق.
منذر فالح الغزالي
بون في 07/10/2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى