سعيد يقطين - السـرد العربـي قضايـا وإشكـالات

يقطين.jpeg

يعتبر السرد العربي واحدا من القضايا والظواهرالتي بدأت تستأثر باهتمام الباحثين والدارسين العر ب . وسيكون هذا البحث محاولة للتفكير ، وتقديما لمجموعة من القضايا والمشاكل التي تعترض الدرس الأدبي العربي بصفة عامة ، والتي سنحاول تجسيدها من خلال تناول السرد العربي باعتباره من الموضوعات التي تملي علينا الكثير من العمل والبحث .
ذلك لأني أتصور أن أي تفكير في جملة القضايا والمشاكل التي تعترضنا إذا لم يطرح إشكالات ، ولم يسع إلى اقتراح رؤيات وتصورات فلا يمكن أن يكون إلا استعراضا لمعلومات ، وعرضا لأفكار وتصورات جاهزة . ولهذا جعلت تجسيد هذه القضايا السرد العربي من خلال طرح تقديم بعض السؤالات ، وطرح بعض الإشكالات
1 . 2. سنتناول هذا الموضوع من خلال ثلاث سؤالات : 1. ماهو السرد العربي ؟. 2. لماذا نهتم به الآن؟. 3. كيف نتعامل معه ؟ .
نرمي إلى الإجابة عن هذه السؤالات ، وما يمكن أن يتولد عنها من أسئلة فرعية ، من خلال طرح ثلاثة إشكالات أراها تتعلق الآن وفي المستقبل بقضايا ما أسميه بـ الفكر الأدبي العربي ، وما تُفرض عليه من أمريات لينخرط في التفكير ، وفي محاولة الإجابة عن مختلف المسائل والقضايا التي تطرح على الدرس الأدبي ، وعلى كل ما يرتبط به من قضايا ومسائل تمتد لتلامس الإنسان العربي بوجه عام .
2 . السرد العربي : مفهوم جديد :
2 . 1. عندما نطرح السؤال الأول حول السرد العربي ، فإن أول ما سيتبادر إلى الأذهان هو : هل هناك سرد عربي ، وآخر غير عربي ؟ وقبل ذلك ماذا نقصد ب السرد حتى نضيف إليه صفة العربي ؟ وهل ، عندما نقول السرد العربي الآن ، يوحي هذا المفهوم بالنسبة إلينا جميعا بنفس الأشياء ؟ ...أم أن كل واحد منا يمكن أن يتصور من خلاله اشياء خاصة تخالف ما يتصوره غيره ؟ أسئلة عديدة يمكن أن تتناسل من السؤال الأول ، وعلينا أن نتتبعها ، ونعمل على تأطيرها ضمن إشكال مركزي بقصد الإجابة عليها .
2 . 2. إن أول شيء يمكننا تقديمه في هذا النطاق هو أن هذا المفهوم جديد . ومعنى ذلك أننا لم نكن نستعمله في كل ما كنا نشتغل به ونبحث فيه بصور عديدة وتحت تسميات مختلفة تتصل به بوجه أو بآخر . وسنعمل هنا على إدراجها كلها تحت هذا المفهوم. إننا نضع المفاهيم كمقابل للتجليات . ونرى أن المفاهيم وليدة الوعي بالظاهرة، وامتلاك القدرة على فهمها وتفسيرها ،، وهذه المفاهيم ، للتوضيح ، تتصل بتسمية الأشياء ، ووضعها في نسق ينظم علاقاتها بغيرها ، ويحدد موقعها منها . أما التجليات فهي الصور الأولية التي تتحقق بها الأشياء ، وتتحول من ثمة إلى ظواهر قارة وثابتة ، ولها وجودها الخاص واستقلالها ، أو شبهه ، عن غيرها .
نضرب ، لتقريب هذه المقابلة بين المفهوم والتجلي ، مثالا مما هو معروف ومتداول بيننا. إن التناص مفهوم جديد في الدراسة الأدبية الحديثة . وهو نتاج التطور الحاصل في اللسانيات وفي العلوم الأدبية الجديدة. جاء هذا المفهوم ليحدد ظاهرة نصية ويبرّزها في الوعي النقدي . لكن ممارسة التناص أو التجلي التناصي سنجده قديما قدم النص كيفما كان جنسه أو صورة إبداعه .
نقول الشيء نفسه عن السرد العربي ، فهو قديم قدم الإنسان العربي . وأولى النصوص التي وصلتنا عن العرب دالة على ذلك . مارس العربي السرد والحكي ، شأنه في ذلك شأن أي إنسان في أي مكان ، بأشكال وصور متعددة ، وانتهى إلينا مما خلفه العرب تراث مهم . لكن السرد العربي كمفهوم جديد لم يتبلور بعد بالشكل الملائم ، ولم يتم الشروع في استعماله إلا مؤخرا وبصور شتى
2 . 3. يتولد المفهوم الجديد ، أي مفهوم كيفما كان نوعه ، بناء على :
ا .) مقتضيات واستجابات لدوافع جديدة تستدعيه وتتطلبه ، وسنبين ذلك عندما ننتقل إلى السؤال الثاني .
ب .)أنه يأتي ليعوض ، أو ليتجاوز ، أو يجدد ، أو ليحل محل مفاهيم قديمة ، أو استعمالات متنوعة .
ج .) أن المفهوم الجديد وهو يأتي ليحل محل استعمالات متعددة ، يتخذ بعد المفهوم الجامع الذي يستوعب غيره من المفاهيم ، ويكسبها دلالات جديدة ، تتهيأ لها في ضوء السياق الذي تولد فيه المفهوم الجديد إذا رجعنا إلى مثال التناص ، نعاين أن المفاهيم البلاغية العديدة التي وظفها العرب مثل السرقات ، والأخذ، والاقتباس ،،، يمكن أن يتضمنها هذا المفهوم جميعا ، ويعطيها أبعادا جديدة تبعا للسياق الذي تشكل في نطاقه.
و ينطبق الشيء نفسه على مـفهوم السـرد العربي كما أتصور . ذلك لأننا سنجد أنفسنا أمام استعمالات عديدة ، قديمة وحديثة ، لا رابط بينها ولا ناظم . نجد من بين هذه الاستعمالات : الأدب القصصي ، أدب القصـة ، النثر الفني ، القصة عند العرب ، الحكايات العربية ،،، وما شاكل هذا من المفاهيم . ومعنى ذلك أننا عندما نقول مفهوما جديدا ، فإن هذا المفهوم الجديد نوظفه ليكون مفهوما جامعا من جهة ، وليكون دقيقا وشاملا من جهة ثانية .
2 . 4. إن المفهوم الجامع يستوعب أشكالا متعددة من الممارسات والتجليات النصية ، ويغطي تسميات عديدة ألحقت بتلك الأشكال وفي مختلف الحقب . وذلك على اعتبار أن التسميات السابقة كانت محدودة وضيقة عن الشمول ، أو كانت تحكمها رؤيات خاصة ، وهذا ما جعلها غير دقيقة عكس المفهوم الجامع . إنه يرصد الظاهرة في كليتها ، ويسعى إلى الإحاطة بمختلف حيثياتها وملابساتها . ويغدو تبعا لذلك قادرا على جعلنا ، في إطار توظيفه التوظيف المناسب ، نفهم الظاهرة بصورة أحسن وأوضح .
أما المفاهيم القديمة فإنها ، بسبب طبيعة تشكلها وطريقة توظيفها ، تصبح مفهومة فهما خاصا وضيقا ، كما أن دلالاتها تغدو محدودة ومكرورة ، بحيث لاتسهم في إضاءة الظاهرة ، ولا تعميق النظر إليها . وهذا حال العديد من الاستعمالات التي يمكن أن نمثل لها في حينها .
2 . 5. إننا ، وإلى وقت قريب جدا ـ ولم لانقول إلى الآن ؟ ـ نتحدث عن الرواية ، والقصة ، والمسرحية ، ونتحدث عنها جميعا باعتبارها أنواعا أدبية ، شأنها في ذلك شأن الشعر . ويبرز لنا ذلك بجلاء من خلال مقرراتنا في الثانوي والجامعي . كما أن أنواع المجالات التي تحدد للجوائز العربية ما تزال تعتمد التقسيم نفسه . فهناك الشعر من جهة، والقصة والرواية والمسرحية من جهة أخرى . إن هذه الأنواع، وهناك يستعمل بصددها مفهوم الأجناس ( ؟ ) أيضا ، يتم التعامل معها باعتبارها تندرج مجتمعة ضمن مفهوم واحد جامع هو الأدب .
لقد انتبه العرب المحدثون إلى أن الأدب العربي متعدد الأنواع والفنون . وظهرت دراسات وأبحاث تتناول بعض هذه الأنواع منفصلة أو متصلة . نذكر من هذه الدراسات التي تتعلق بموضوعنا للاستئناس كتاب قصصنا الشعبي لفؤاد علي حسنين [S1] (1)، و الأدب القصصي عند العرب لسليمان موسى(2) ،،، ومن الدراسات الجديدة نذكر كتاب بناء النص التراثي (3) و السردية العربية: بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي (4) و التراث القصصي في الأدب العربي (5)و سرديات العصر العربي الإسلامي الوسيط(6)،،، وهناك العديد من الدراسات العربية التي باتت تسير في هذا الاتجاه من الاهتمام .
إن أغلب هذه الدراسات تتفق مجتمعة على أن القصص أو الموروث الحكائي العربي غني ومهم ويستدعي البحث والدراسة . وفعلا عندما نعود الآن إلى ما تركه العرب في هذا المضمار سنجد أنفسنا أمام تراث مهم. هذا التراث أثار الانتباه إليه منذ عصر النهضة ، لكن ذلك لا يتناسب وما عرفه هذا التراث من إنتاج ضخم . لذلك لايمكننا إلا أن نقول إن دراسة هذا التراث ماتزال قليلة ومحدودة. ومعنى ذلك أن بعض ذيول التصورات القديمة حول مانسميه بالسرد العربي ما تزال تفرض نفسها بإلحاح . ومجمل هذا التصور أن هناك ديوانا وحيدا تركه العرب هو الشعر ، وما عداه من الأنواع والفنون فلا يرقى إلى الشعر . ونعاين في هذا النطاق أن هناك بونا شاسعا بين التصور والواقع .
2 . 6 . في التصور : إن بعض الأقوال المأثورة يكون لها تأثير سحري في تاريخ الأمم والشعوب، فتحدد من ثمة صيرورة الأمة بكاملها وتوجِّه مسارها وجهة خاصة ، أحقابا وأجيالا . من بين الأقوال التي كان لها دور خاص في الثقافة العربية نجد تلك التي تقرر أن الشعر ديوان العرب . لقد فهمت هذه القولة فهما حرفيا خاصا ، وصارت منذ أن أطلقت في صدر الإسلام تمارس ذلك التأثير السحري الذي وسم الثقافة والأدب العربيين بسمة خاصة ظلت تلازمه أمدا طويلا من الزمان . وبمقتضى ذلك انصبت الأنظار على الشعر ، وانصرفت أو كادت تنصرف عما عداه من الخطابات التي أنتجها العربي في تاريخه الطويل .
إن السرد واحد من تلك الخطابات التي تأثرت سلبا بآثار تلك القولة ، ونفوذها السحري ، فغدت بمنأى عن الاهتمام النقدي والتنظيري في المجهودات التي ترك لنا العرب من خلالها تراثا مهما وهائلا . وبالمقابل، وهنا مكمن المفارقة ، ظل العرب ينتجون السرد ويتداولون كل ما يتصل به ، ويندرج في إطاره من أخبار وحكايات وقصص وسير...
لقد انصب الاهتمام على الشعر باعتباره ديوان العرب . لكن ديوانا آخر ظل يزاحمه المكانة نفسها على الصعيد الواقعي . بل إننا نجده في أحيان عديدة تبوأ مكانة أسمى ، سواء من حيث الإنتاج أو التلقي . نشير هنا باقتضاب إلى المساجلات التي تمت بصدد الشعر والنثر والمفاضلات التي أثيرت بينهما منذ القرن الثالث الهجري . لكن المعرفة الأدبية القائمة على التقليد الثقافي السائد لم توله ما يستحق من العناية والاهتمام . فظل أبدا مجالا مُشرَعا للإبداع وإن بقي يقابل بالإهمال ، وأحيانا بالازدراء . وهناك أدبيات كثيرة ومصادرات عديدة ونوادر تحكى حول القاص في مختلف المصنفات العربية القديمة(7).
2 . 7 . في الواقع : رغم كل هذه المصادرات والنوادر ظل ذلك الديوان ( أقصد السرد ) فارضا نفسه ، ومضمارا أصيلا أبدع فيه العربي ، وعلى مدى عصور طويلة ، نصوصا في منتهى البراعة والحس والجمال . ولقد وصل العديد منها إلى مستوى العالمية ، وصار إنتاجا إنساني البعد والنزعة ، وعلى درجة سامية من الإبداع الإنساني الرفيع ( نذكر هنا للتمثيل فقط ألف ليلة وليلة ، أو الليالي العربية كما تعرف بذلك في الغرب).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى