عمار حميد مهدي - النزول الى قبو البصل

حَفِلَ الادب الألماني بعد الحرب العالمية الثانية بأعمال سردية مهمة صورت لنا المعاناة التي عاشها الألمان بوجه خاص جرّاء ما تركته هذه الحرب من آثار ودمار في البنية المكانية والنفسية ومن هؤلاء الكاتب والروائي (غونتر غراس) والذي بدأ الكتابة في فترة الخمسينات ليترك لنا العديد من الروايات والاعمال القصصية والمسرحية وينال بعد ذلك جائزة نوبل للآداب.

من الاعمال التي اشتهر بها (غونتر غراس) رواية (طبل الصفيح) التي تحولت الى عمل سينمائي عام 1977 وكذلك العمل السردي الذي يندرج تحت تصنيف القصة القصيرة (قبو البصل) او (عند تقشير البصل) وهو العنوان الاصلي الذي اتخذه هذا العمل السردي.

ينزل بنا (غونتر غراس) في هذه القصة الى قبو متناولا ماهيته باعتباره احد المطاعم الصغيرة الحديثة المتميزة عن تلك المطاعم القديمة وهو بذلك يشير الى ان هذا المطعم يمثل بداية لمرحلة ما بعد الحرب ودمارها لكنه في نفس الوقت يربط القبو بماضي الحرب من خلال ما يصفه الكاتب في القصة بـ(الايام المظلمة) و التعريف بأن القبو كان في الاصل ملجأً وان (بابه الحديدي البرتقالي كان باباً لملجأ) وهو بذلك يعبّر عن القبو انه يقع على مفترق طرق بين مرحلتين زمنيتين عاصفتين بالأحداث والتأثيرات قبل وبعد الحرب وكذلك تغير الغايات والوسائل التي كانت للأمكنة واعادة استخدامها في توجّه جديد.

يستخدم الكاتب القبو رمزا للداخل الانساني وكوامنه التي يعود لها عندما يحتاجها حيث يضفى جوا بالإحساس بالأمان والطمأنينة والرجوع الى الذات فالقبو هو المكان القابع تحت الارض وهو مستقر الاسرار ومخزون الذاكرة وهذا ما يريد الكاتب من ايصاله في الاستمرار بالتركيز على وصفه من الداخل والاجواء التي يعبق بها المكان ثم يتطرق الى تصميمه الأساس وتفاصيله الدقيقة المتسمة بالحميمية والنوستالجيا (السلم الخاص بالقبو ، مصابيح الغاز التي تضيئه ، جدران قبو البصل حيث يترك الملح الرطب عليه اشكالا) ويعود الى إحداث نوع من الجدل في حقيقة كونه قبوا ام لا في دلالة اخرى على تحول الأمكنة والغايات التي وجدت من اجلها في فترة ما قبل الحرب وما بعدها.

يتحول الكاتب بعد ذلك في سرديتهِ الى الطقس الغريب الذي يمارسه مرتادي قبو البصل حين تبدأ عملية احضار البصل والذي يصفه الكاتب بأنه (بصل من ذلك الذي تشتريه اية ربة بيت ، من ذلك الذي تبيعه بائعة الخضروات في الاسواق ... الخ) كي لا يتفاجأ القارئ او يتساءل عن الخصوصية الموجودة في هذا البصل بالذات والقبو الذي سمّي باسمه ويقوم المتواجدين في القبو بتقطيع البصل في الصحون لتبدأ عملية ذرف الدموع والشكوى من الآلام والجراح الداخلية لدى كل واحد منهم ، كل ذلك يحدث في القبو اي في اللاوعي الداخلي للإنسان الذي عجزت فيه كل أهوال ومصائب الدنيا على ان تثير مآقي دموعه ويبكي من اجلها وعليها ليكون البصل هو المحفّز لتفجير تلك الدموع.

ان الكاتب يركز على ثيمة البكاء الذي يتفجر واصفا اياه (ضرورة قائمة) كذلك يؤكد على خصوصية البكاء الجماعي حيث يقول ان البكاء مع الجماعة اسهل ويصل بالإنسان الى حقيقة شعور الجماعة اذا كانت الدموع تذرف من جوانب المكان المخالفة يسارا ويمينا ويتساءل الكاتب ايضا في قصته ، ما الجدوى من بصل مقطع؟ ألكي ينظر الانسان اليه فقط فيأتي الجواب بالنفي لأن سيول الدمع لا يقف امامها سدود ولأن القلوب مترعة بالحزن وهذا ما يريد الكاتب ايصاله من خلال قصته ولكنه لا ينتهي عند الحزن بل يحول الحزن والدموع الى ومضة امل وتفاؤل تنبأ بها غونتر غراس (بعد خمسين عاما) عندما يحدثون الاطفال عن ماذا كان يفعل الناس عندما كانوا يذهبون الى قبو البصل.

عمار حميد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى