توغّل وسطَ غابةٍ متراميةِ الأطرافِ.. ممتدَّةِ الأرجاءِ في السَّماء كما في الأرضِ مدَّ البصرِ؛ ومنتهاه. يُقال عنها: (داخلُها مفقودً، وخارجها مولودً)..
نسج الناسُ حولها أساطيرَ، وحكاياتٍ، ثم مغامراتٍ ورواياتٍ. وأرَّخت لها الأقلامُ؛ بملفاتٍ ومجلداتٍ..
فتداولتها الألسنُ في مجامعَ خاصةٍ، وعامةٍ.! وأحاطَها النّاسُ بوابلٍ من صدقِ الكلام وعذبه أحيانا. وأحايين أخرى من كذبِ الكلامِ ومفتراه ، أومختلق الأقوال وزيفها..
خلع الرجلُ عند مدخلها معطفَه الأسودَ. وانتزعه عن جَسدِه بطواعية تحت تأثيراتٍ يُقال عنها؛ أنها نفسيةٌ ويُقال عنها ظرفيةٌ، وربّما سياسيةٌ أيضا.
معطف تعلوه بقعً من الأوساخ، فَفَقدَ لونَه الطبيعيَ بعد أن تعاقبتْ عليه نُدُوب زمنٍ هاربٍ بسرعةٍ. وحولت سيرورةُ الأيام المتغيرةِ ألوانَه إلى ألوانٍ باهتةٍ بخطوطٍ ضبابيةٍ. وغير متجانسة تماماً..! كأنّه لوحةٌ تشكيليةٌ قراءتُها ممكنةٌ..
ألقى الرجل بالمعطف أرضاً، وبقناعةٍ مضطربةٍ؛ تخلص منه بسرعة ربما لكي لا يضايقه أو يضايقَ فروعَ، وأغصانَ أشجار مزهوةٍ بنفسها. هكذا شمله الإعتقادُ القاهرُ. والتحفه الأنين الجائر.
وهكذا راوده إحساسٌ أنه ينسلخ عن مكانه تدريجياً، كلما زاد توغله التلقائي داخل غابة مغرية استطاعت أن تحتويه بعجالة، وبكل أشيائها..وجزئياتها. وهو الضعيف أمامها.
لكن خطواته الممتدة إلى الأمام لا زالت تربطه بجداول من حنين إلى الوراء. لأنه قد أهملَ جزءً منه وتوالدت منه هواجس متلاحقةتغازل المعطف الملقى خلفه..
معطف لا زال يحتفظ له هو الآخر برائحة الاِنتماء، والِالتزام، وطيب ونفاق المعاشرة بعدما بدأت تتساقط من خزائن الذاكرة؛ مشاهدَ ومواقفَ ورؤى لصيقة بالمعطف..
الرجلُ يتوغّل إلى الأمام مسرعاً. وأشعة الشمس المتسللةِ عبر الأشجارِ تُلامس قامته بشكلٍ خجول فيتحول من حين لآخر إلى كتلة من الخطو المبعثر وهو يتسلل بين الأشجار يسلك مسالك بلا وجهة..لايعرف أين سيصل في نهاية مطاف الخطو..! وهو يحاول أن ينسج مع عالم الغابة خيوط ألفة جديدة.
فتعود له أسماء وتواريخ ميلاد كثيرة كلما مر من هنا..أو هناك..
فتركبه أفكار. وتحمله هواجس تدفع به إلى التعايش مع الإنتماء الجديد..حيث يفقد أناه. فيحاول جاهداً أن يدرك ذاته وهويته..فتلسع وجوده أسئلة حارقة. وتتلاشى قامته رويداً..رويداً..يحاول أن يعدل عن مشيته عدة مرات. لكن نجده أحياناً يَحُثُّ الخطى فيدركه التعب..ويستمر في الخطو..فإذا عرق متصفد على جبينهِ، يمتد إلى عنقه.
يستعد مكرهاً لمطلع سؤالٍ كبيرٍ يسكنه. فأصبح يلفه من أسفل إلى أعلى..ويضمه إليه ضما شديداً ويحتله اِحتلالاً كاملاً: يستفزه؛ يقض مضجعه...!!
فيستسلم لسفر روحي؛ وصوفي عميق. والوجهة غير معروفة بالكامل. وهو يبحث لوجوده عن وجود داخل فضاء يظنه رحيب..
بين أغصان الغابة كانت لا تزال تتسلل خيوط شمسية صفراء، خريفية. تكسر توهجها ولمعانها، غيوم السماء العابرة في رحلة معاكسة لخطو الرجل المتوغل في غابة بدأت تفقده مسالكها بوصلة تحديد الأمكنةوالأزمنة، والمصير..!
وفي داخله يدعوه صوت من الأعماق:
(هل سيمنحني هذا الخطو فرصة البدء من جديد، وأنا أتنفس عطر غابة أدخلها تحت ضغط مفاجئ..؟!)
وكلما ركز على مشاهدة شجرة وهو يرفع رأسه عاليا. ويرسل بصره إلى ذروة هذه الشجرة الباسقة أو تلك تذكره بالمقولة القائلة بأن:
(شجرة واحدة لا يمكنها أن تخفي الغابة كلها..)
فيقرأ في تشابك فروعها سطوراً من حياة لم تكتمل.
يسير..ويسير..! فتتسع المسافة الفاصلة بينه، وبين المعطف الملقى عند مدخل الغابة..إلى أن توقفت خطواته للتو عندما تسرب إليه تعب شديد ونزلت عليه سكينة بعد أن خَفَتَ ايقاعها واستيقظ بداخله نداء بعيد يلتمس منه فهماً جيداً لهذا العبور..ولماذا كانت الغابة عالمه..؟!ووجهته..!
اِنتشر اِعتقاده على هامش المشي وهو أمام اختبار كبير:
هل يتحول في لحظة فشله سماداً يغذي نباتات طفيلية أفقدتها رطوبة الغابة لونها الطبيعي فخلعت هي الأخرى ما علق بها من رواسب غبار مر نزيلا خفيفا على أوراق أشجار الغابة..؟!!
أصوات، ونداءات تضج مسالك الغابة تستتر داخل رأس مثقل..تلفحه حمى الاغتراب. فتندلع بدواخله مشاهد تاريخية تفيض من جداول صبره المتجه إلى المجهول.! ومن حياة هي سلسلة متصلة الحلقات من التعبٍ والفشل الذريع..!
وعلى فراش التعب يرتمي بسدوله يتسرب إليه تفكير عائد، وعائد..!! إنه يسير وأحلامه في مجرى واحد، ووحيد. ثم تعانق أفكاره بعضها البعض بعد أن أحاط به فراغ مخيف. جفت حنجرته تأكد من دنو نهايته ومصيره. لكن المعطف سيدل حتما المخبرين ورجال الأمن والقانون، وأهل التاريخ وكل الناس خاصتهم، وعامتهم على مكانه..
بقي المعطفُ وفيّاً يحتفظ برائحتِه المنبعثةِ منه رائحةَ تشبه أيَّاماً ملازمةً للرَّجل الضَّائع، والتائه وسَط غابةٍ أدركها ليلٌ مُفاجيءٌ.
فاستمرَّ المعطفُ في إرسال علاماتٍ قويةٍ تفضحُ سرّ الغابة، وكلَّ من دخلَها من هنا أو هناك..وسرَّ التَّخلي عن كلِّ معطفٍ عند مدخلها..
بلقاسم سداين
نسج الناسُ حولها أساطيرَ، وحكاياتٍ، ثم مغامراتٍ ورواياتٍ. وأرَّخت لها الأقلامُ؛ بملفاتٍ ومجلداتٍ..
فتداولتها الألسنُ في مجامعَ خاصةٍ، وعامةٍ.! وأحاطَها النّاسُ بوابلٍ من صدقِ الكلام وعذبه أحيانا. وأحايين أخرى من كذبِ الكلامِ ومفتراه ، أومختلق الأقوال وزيفها..
خلع الرجلُ عند مدخلها معطفَه الأسودَ. وانتزعه عن جَسدِه بطواعية تحت تأثيراتٍ يُقال عنها؛ أنها نفسيةٌ ويُقال عنها ظرفيةٌ، وربّما سياسيةٌ أيضا.
معطف تعلوه بقعً من الأوساخ، فَفَقدَ لونَه الطبيعيَ بعد أن تعاقبتْ عليه نُدُوب زمنٍ هاربٍ بسرعةٍ. وحولت سيرورةُ الأيام المتغيرةِ ألوانَه إلى ألوانٍ باهتةٍ بخطوطٍ ضبابيةٍ. وغير متجانسة تماماً..! كأنّه لوحةٌ تشكيليةٌ قراءتُها ممكنةٌ..
ألقى الرجل بالمعطف أرضاً، وبقناعةٍ مضطربةٍ؛ تخلص منه بسرعة ربما لكي لا يضايقه أو يضايقَ فروعَ، وأغصانَ أشجار مزهوةٍ بنفسها. هكذا شمله الإعتقادُ القاهرُ. والتحفه الأنين الجائر.
وهكذا راوده إحساسٌ أنه ينسلخ عن مكانه تدريجياً، كلما زاد توغله التلقائي داخل غابة مغرية استطاعت أن تحتويه بعجالة، وبكل أشيائها..وجزئياتها. وهو الضعيف أمامها.
لكن خطواته الممتدة إلى الأمام لا زالت تربطه بجداول من حنين إلى الوراء. لأنه قد أهملَ جزءً منه وتوالدت منه هواجس متلاحقةتغازل المعطف الملقى خلفه..
معطف لا زال يحتفظ له هو الآخر برائحة الاِنتماء، والِالتزام، وطيب ونفاق المعاشرة بعدما بدأت تتساقط من خزائن الذاكرة؛ مشاهدَ ومواقفَ ورؤى لصيقة بالمعطف..
الرجلُ يتوغّل إلى الأمام مسرعاً. وأشعة الشمس المتسللةِ عبر الأشجارِ تُلامس قامته بشكلٍ خجول فيتحول من حين لآخر إلى كتلة من الخطو المبعثر وهو يتسلل بين الأشجار يسلك مسالك بلا وجهة..لايعرف أين سيصل في نهاية مطاف الخطو..! وهو يحاول أن ينسج مع عالم الغابة خيوط ألفة جديدة.
فتعود له أسماء وتواريخ ميلاد كثيرة كلما مر من هنا..أو هناك..
فتركبه أفكار. وتحمله هواجس تدفع به إلى التعايش مع الإنتماء الجديد..حيث يفقد أناه. فيحاول جاهداً أن يدرك ذاته وهويته..فتلسع وجوده أسئلة حارقة. وتتلاشى قامته رويداً..رويداً..يحاول أن يعدل عن مشيته عدة مرات. لكن نجده أحياناً يَحُثُّ الخطى فيدركه التعب..ويستمر في الخطو..فإذا عرق متصفد على جبينهِ، يمتد إلى عنقه.
يستعد مكرهاً لمطلع سؤالٍ كبيرٍ يسكنه. فأصبح يلفه من أسفل إلى أعلى..ويضمه إليه ضما شديداً ويحتله اِحتلالاً كاملاً: يستفزه؛ يقض مضجعه...!!
فيستسلم لسفر روحي؛ وصوفي عميق. والوجهة غير معروفة بالكامل. وهو يبحث لوجوده عن وجود داخل فضاء يظنه رحيب..
بين أغصان الغابة كانت لا تزال تتسلل خيوط شمسية صفراء، خريفية. تكسر توهجها ولمعانها، غيوم السماء العابرة في رحلة معاكسة لخطو الرجل المتوغل في غابة بدأت تفقده مسالكها بوصلة تحديد الأمكنةوالأزمنة، والمصير..!
وفي داخله يدعوه صوت من الأعماق:
(هل سيمنحني هذا الخطو فرصة البدء من جديد، وأنا أتنفس عطر غابة أدخلها تحت ضغط مفاجئ..؟!)
وكلما ركز على مشاهدة شجرة وهو يرفع رأسه عاليا. ويرسل بصره إلى ذروة هذه الشجرة الباسقة أو تلك تذكره بالمقولة القائلة بأن:
(شجرة واحدة لا يمكنها أن تخفي الغابة كلها..)
فيقرأ في تشابك فروعها سطوراً من حياة لم تكتمل.
يسير..ويسير..! فتتسع المسافة الفاصلة بينه، وبين المعطف الملقى عند مدخل الغابة..إلى أن توقفت خطواته للتو عندما تسرب إليه تعب شديد ونزلت عليه سكينة بعد أن خَفَتَ ايقاعها واستيقظ بداخله نداء بعيد يلتمس منه فهماً جيداً لهذا العبور..ولماذا كانت الغابة عالمه..؟!ووجهته..!
اِنتشر اِعتقاده على هامش المشي وهو أمام اختبار كبير:
هل يتحول في لحظة فشله سماداً يغذي نباتات طفيلية أفقدتها رطوبة الغابة لونها الطبيعي فخلعت هي الأخرى ما علق بها من رواسب غبار مر نزيلا خفيفا على أوراق أشجار الغابة..؟!!
أصوات، ونداءات تضج مسالك الغابة تستتر داخل رأس مثقل..تلفحه حمى الاغتراب. فتندلع بدواخله مشاهد تاريخية تفيض من جداول صبره المتجه إلى المجهول.! ومن حياة هي سلسلة متصلة الحلقات من التعبٍ والفشل الذريع..!
وعلى فراش التعب يرتمي بسدوله يتسرب إليه تفكير عائد، وعائد..!! إنه يسير وأحلامه في مجرى واحد، ووحيد. ثم تعانق أفكاره بعضها البعض بعد أن أحاط به فراغ مخيف. جفت حنجرته تأكد من دنو نهايته ومصيره. لكن المعطف سيدل حتما المخبرين ورجال الأمن والقانون، وأهل التاريخ وكل الناس خاصتهم، وعامتهم على مكانه..
بقي المعطفُ وفيّاً يحتفظ برائحتِه المنبعثةِ منه رائحةَ تشبه أيَّاماً ملازمةً للرَّجل الضَّائع، والتائه وسَط غابةٍ أدركها ليلٌ مُفاجيءٌ.
فاستمرَّ المعطفُ في إرسال علاماتٍ قويةٍ تفضحُ سرّ الغابة، وكلَّ من دخلَها من هنا أو هناك..وسرَّ التَّخلي عن كلِّ معطفٍ عند مدخلها..
بلقاسم سداين