محمد العرجوني -1- داخل المترو بباريس

كنت أتجول بباريس رغم الأجواء المشحونة. كانت القوات العسكرية متواجدة بالأماكن الحساسة، ورغم ذلك زرت معهد العالم العربي الذي كان يحتفل بالثقافة المغربية. غير مبال بنظرات الشك والريبة. واثناء تحركاتي كنت ألاحظ داخل المترو الصمت الرهيب، والتخوف والكراهية في أعين الآخرين حينما ينظرون إلينا نحن أصحاب الملامح المغاربية خاصة. لم أكن أتحمل ذلك، فكنت أتجرأ، عكس تلك الوجوه المغاربية أو العربية الأخرى التي كانت تركن في زاوية بالمترو في صمت حيث نقرأ في اعينها خوفا واحساسا "بالذنب" الذي الصقته وسائل الإعلام الفرنسية على وجوههم. كنت إذن لا استحمل ذلك، فاتحدث كلما سمحت الظروف لمن يبدو فرنسيا بالعرق، ولو بطلب معلومة تخص التنقل عبر المترو من نقطة إلى أخرى. كنت أجد سببا لمباشرة الحديث، لأشرح نسبيا ما استنتجه من قراءتي ومن نشرات الأخبار، لأفسر أن ما يحدث ما هي إلا ألاعيب الاستخبارات، كما كنت أرى ذلك في مسلسل أمريكي لم يعد يُبث وكأن هناك من منعه. يتعلق الأمر بسلسلة "كرونو 24". وهي سلسلة أمريكية تدور احداثها حول الإرهاب "الاسلاموي" الذي تقوم به المخابرات وغالبا ما تلصق التهم بمواطنين مسلمين بأمريكا أو بدول عربية. ومن بين ما حدث، وجدت نفسي جالسا وحولي فرنسيات وفرنسيون مسنين. في البداية كان الصمت يخيم على المجموعة. أحسست وكأنني أنا السبب. لكن سرعان ما بدأوا يتحدثون عن آخر رحلة لهم ببلاد البيرو بأمريكا الجنوبية. وفي معرض حديثهم سمعتهم يتحدثون عن حيوان يشبه الجمل، لكنه صغير القامة. فنطقت إحداهن وقالت :" لاما" Lama... فأجابها المتحدث الآخر. "نعم، ربما، لكن لا أعتقد، لأن"لاما" ضخمة شيئا ما...يتعلق الأمر بنوع آخر"
كنت استرق السمع وانتظر اللحظة المناسبة لأتدخل وأخرج من قوقعتي التي فرضت علي. وفي لحظة ما كنت أنوي النهوض من مكاني وابتعد. لكن المترو كان مكتضا، لهذا عدلت عن الفكرة. زاد إحساسي بالاحراج، عدم اكتراثهم ربما بوجودي، وكأنني حقيبة وسط حقائبهم. لكن سرعان ما وجدت فرصة لأتدخل واكسر هذا الإحراج المزدوج، وأخرج من قوقعتي. فقلت لهم :
" إذا سمحتم، سمعت من غير قصد عما كنتم تتحدثون... أغبطكم على سفركم هذا واستمتعت بما قلتم ... فإذا سمحتم لي أتدخل حول تلك الحيوانات التي تشبه الجمل لأنها من عائلة الجمال des camélidés . وما كنتم تبحثون عنه سيدي، زيادة على "لاما" أعتقد أنكم تعرفونه لكنكم لم تنتبهوا له فقط. أذكركم بنوع من الثوب، وكما أرى من خلال ملامحكم، ربما ننتمي لنفس الجيل الذي كان يخيط بذلات من هذا الثوب."
الجميع تسمر في مكانه وكلهم أبدوا اهتماما بما أقول. خاصة سيدة من بينهم. كانت تبتسم وتبدو معجبة بفصاحتي وبمعرفتي. ما زاد في ثقتي وحماسي بل و" تطاوسي". فقلت لهم :
" ألم تخيطوا بذلات من ثوب "ألْباكا" Alpaga ؟".
فقالت تلك السيدة المبتسمة، بفرح شديد كأنني أشعلت فانوسا بذاكرتها:
" أيوا... معكم حق سيدي... أتذكر جيدا... هو ذا إسم الحيوان الذي نبحث عنه.. "
فقال الجميع : "نعم... يااااه... كيف لم نفكر في ذلك "...
فقال الرجل الموجود على يميني :" شكرا لك سيدي على هذه المعلومة... هل سافرت إلى البيرو؟"
"لا مع الأسف... لكن سافرت بفضل الكتب والأفلام الوثائقية..." فضحك الجميع... هكذا اذبنا الجليد...فتجاذبنا أطراف الحديث وقدمت لهم نفسي إلى أن دخلنا في نقاش حول أحداث" الإرهاب ". شرحت لهم أن المسلمين أناس مسالمين، وما يحدث هي ألاعيب سياسية ودليلي ما يحدث بالشرق الأوسط، حيث كل القوى الغربية تدعي محاربة الدواعش، لكنها هي التي تسلحها، فمن أين للدواعش بالأسلحة والآليات الحربية من سيارات رباعية الدفع، وما هي جنسياتهم الخ... وجدتهم واعين بالألاعيب السياسية ولم يعترضوا على ما قلت...
عند محطتي، ودعتهم وأنا ألمس فيهم الروح الإنسانية التي لا يمكن للصمت أن يدركها... تيقنت أن المشاكل سببها هذا الصمت الرهيب وعدم التواصل بين الشعوب. ما خلق فراغا بينهم استغلته السياسة الإمبريالية لتزعزع أمن العالم من أجل المال اللعين...
(يتبع : الحدث الثاني : داخل قطار طاليس)
*+*+*+*+
محمد العرجوني



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في يناير 2015...زرت فرنسا لغرض عائلي. ومع تواجدي بباريس توصلت بدعوة من جمعية ببروكسيل، لتوقيع إحدى رواياتي، ما سمح لي بزيارة بلجيكا كذلك، والمكوث بها لمدة أسبوع بفضل بعض تلامذتي القدماء المستقرين ببلجيكا.
وللتذكير ففي تلك السنة وبالضبط عند وصولي، نقلت الأخبار حادث إرهابي أودى بحياة 17 شخص. أصبحت إذن فرنسا تعيش على وقع "الإرهاب الإسلاموي" (اكتبها هكذا بين مزدوجتين، بتحفظ). وبعد أسبوع أو أكثر وقعت أحداث إرهابية أخرى ببلجيكا وأنا موجود بها.
كيف عشت إذن تلك الأيام التي قضيتها بين باريس و بروكسيل ولييج؟ بطبيعة الحال كانت الأجواء مشحونة، وكانت وسائل الإعلام تزيد في شحنها ما كان يؤثر على الجالية المسلمة والعربية خصوصا ويجعلها تعيش تحت وقع الكراهية والحقد والعنصرية. و بصفتي زائر ومتابع نسبيا للأخبار، احكي هنا حدثين عشتهما في ظل هذه الظروف الخانقة. الحدث الأول في باريس داخل المترو، والثاني عند رجوعي من بروكسيل نحو باريس على متن القطار السريع طاليس.



L’image contient peut-être : 2 personnes, intérieur
L’image contient peut-être : une personne ou plus


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى