جميلةٌ كانت كامرأة بل ومُلفتة ، كغجريّةٍ فوضويّة الملابس ، تجذبك ألوانها الفاقعة وزينتها اللمّاعة .
عيونُها المفتوحة لا تعرف الوجل ولا ما نسمّيه الخجل ، ترقب عيونك لتقرأ فيها استحسانك أو استهجانك ومن ثم إقبالك أو إدبارك . وعندما تراك تغور بناظريك في فرجة قميصها ، عندها تتذكّر أنّ أزراراً ما ينبغي إغلاقها فتلملم زواياها المنفرجة. وعندما تخفض بصرك إذ تخجل أنت ـ وليس هي ـ فتصبح محملقاً في ساقيها الرّخاميتين ، فعندها وعندها فقط قد تتذكّر أنّ أذيال ثوبها مرفوعة بطريقة اللامبالاة فتسدل ستائرها .
حركات قدميها المهتزّة تشعرك بأنك في مضيقٍ من الحديث ولابدّ من اجتيازه ، وأصابعها المرتجفة توحي بأنها وإيّاك على عتبة باب مغلق وتبحث عن المفتاح لتفتحه ، أو ستقفل راجعاً عن عتباته بدون أن تطأها .
وأقول في نفسي :
-ويلي من معترك ضياعي وقنوط يأسي ونفور خاطري إلى نفيرالسقوط المنفّر بعد أن طاشت كلّ سهامي وفرغت جعبتي وتكسّرت مني الهمم وسدّ الفشل إثر الفشل أمامي كلّ السبل ..ولم يبق لي إلا الذهاب إلى الجحيم كخيار تقودني إليه أقدامي المتعثّرة ، وها أنا على عتبات بنات الهوى أدوسها بعد أن داسني القدر بنعال خلقه ..إنهنّ الوحيدات في دنياك من تسمحن لك بأن تدوس حرماتهن وتطأها بدون أن تخلع نعليك خارجاً على عتباتهن .
كنت أمامها كتمثالٍ مجبول من طين جفّ ظاهره وما زالت جبلَتُه طريّة من الداخل تعتصر همومه آخر ما فيها من رطوبة ومن ماء الحياة ، فتسيل عرقاً بارداً من خياشيم مسامه ..وبالتالي ما زال النحّات قادراً على تسوية صنعته وتغيير ملامح تمثاله .
وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه ؟
هه هه ..وماذا يقول من خسر العالم كلّه ولم يبق له إلا أن يخسر أيضاً نفسَه ؟ .. كمن فقد كل طموحاته وآماله ولم يبق له إلا طلقة الانتحار ، يطلقها في فمه فتخرسه بدءاً من لسانه !
ولابدّ لك ـ في النهاية ـ من تبديد الصّمت الذي يطول أمام لحظة الشراء أو البيع ، والبتّ في القرار الفاصل بين النعم واللا . فالبضاعة معروضة ولا داعي للتمادي في الإطالة والتبحّر في التردّد ، والثمن يمكن التفاوض عليه .. اطرح سعرك أولاً وقد تلقى قبولاً أو رفضاً أو مزاودة أو مناقصة ، ونقطة انتهى .
لكنّي فعلاً ما دخلت هذا السوق من قبل ، وما اشتريت من هذه السلعة ولا أعرف الأسعار المتداولة وبالتالي فلا قدرة لي على طرح السعر ، ولا أريد أن أبدو أمامها جاهلاً ، ولا أطيق أن أبخسها سعرها بعد أن لمَسَتْ في جمودي استحساناً .
ابتسَمَتْ ابتسامة الواثق ومدّت يدَها إليّ ، وتلقّفتُها فعلاً وقمت وسحبتها لتقف فأنتشلها وتنتشلني كغريقين في لجّة الوحل ، ومشينا ويدها بيدي وكأنها تقول لي ..لن نختلف على الثمن .
كانت أطول مني إذ سارت بحذائي ، فتقلّصَتْ وانكمشت وانطوت وتقاصرت وتحجّمت لتسايرني ووجدتُ في ذلك مجاملةً مستحبّة ، آه ما أجملكِ يا بنت الهوى ..وأنت الفرس الوحيدة التي تمكّنين منكِ راكبك فيمتطيك بسهولة حتى ولو لم يكن فارساً خيّالاً ، وتجنحين به في مضامير الوهم ولا تحرنين ولا تتذمّرين ولا تسقطينه عن متنك المهتزّ ..وهززتُ رأسي ساخراً وأنا أتخيّلها تنسجم مع كل أوتار الرجال الذين عزفَت عليهم لتتراقص على إيقاعاتهم .
قالت:
-تردّدك يذكّرني بالمرّة الأولى التي وافقتُ فيها على الخروج مع غريب .
وتتابع ضاحكة :
-هل تصدّق أنني لم أسأله يومها عن اسمه !..وها أنت لم تسألني عن اسمي..وماذا سيعني لك اسمي إن كان شريفة أم ظريفة ..متوحّشة أم أليفة ؟
قلت :
-فعلاً لسنا في جلسة تعارف ، ولا يشرّفني تبادل هويّتي معك ، وأنا في الحقيقة أفكّر الآن أين سأذهب بكِ لأني خجِلٌ من مشيتنا معاً .
أجابت بدون تردّد :
-سنذهب إلى الجحيم طبعاً ..هكذا قال لي زوجي عندما طردني من بيته ليلتها ورمى عليّ اليمين ، وسألته ودموعي تجللني وأين سأذهب في هذا الليل البهيم ؟ ..فقال ببساطة ..اذهبي إلى الجحيم .
ومفتاح الجحيم موجود مع كل بني الإنسان ، ويمكنك دخول الجحيم متى شئت بأيّ انحرافٍ عن الصّراط المستقيم ، أما مفتاح الجنة فيحتاج الحصول عليه شروطاً ومواصفاتٍ وشفاعات وسعياً ودأباً وصولاً إلى النعيم .
وأنت كما تبدو لي محروقٌ سلفاً بنيران جحيمك ، فبحثت عمّن يشاركك حرقتك، وسألت وتقصّيت حتى وجدتني ..ونحن لها .. والكثيرون يلقون عندي أثقالهم وأحمالهم ويغيبون ويتوبون عن جحيمي ، لكنهم يعودون عندما يعيون ثانية ، فيعودونني كأنهم يتلقّون مني جرعات علاجية بين الفينة والأخرى .
لا تبتئس ، ولا تأخذك الحيرة فنحن فعلاً نعيش الآن في الجحيم ، ونتقلّب لننتقل فقط من جحيم إلى جحيم .. تماماً كمن ينتقل في بيته الجهنّمي من غرفة إلى أخرى ، أو كالزوجة التي تهجر جحيم زوجها إلى جحيم غيره ، وكالشعب الذي يثور على جحيم طاغيته ويحدث انقلاباً إلى استبداد طغاةٍ آخرين .
أفلتُّ يدها واستصغرتُ كبرياءها ، واستهجنتُ فلسفتها وأيقنت أنّ كلَّ بشريّ ـ مهما قلّ شأنه ـ لقادرٌ على إلقاء محاضرةٍ عليك ، ونظرتُ حولي في كل الجهات كمن يهمّ بسرقةٍ ما ويخاف من كاميرات المراقبة ، ثم قلت :
-سيارتي قريبة ..تعالي نجلس في السيارة
وسارت بنا سيارتي المسرعة على غير هدى ، كمركب بلا شراع وقد يبحث عن شطٍّ يرسو إليه بين أمواجٍ متقاذفة ..قالت:
-في الأفلام العربية ، يأخذ الممثل الفتاة الرخيصة من قارعة الطريق ليخلو بها في غياهب أهرامات الجيزة ، ثم يحبّها في المشهد التالي ويتزوّجها وتكون بطلة للقصة .. وما عندنا هنا أهرامات لكنّ الأطراف المهمَلة لمدينتنا تفي بالغرض ، وبعدها تعطيني حسابي وتنزلني من سيارتك لتقول لي وأنت تتفل ما تبقّى في فمك من لعاب ..اذهبي إلى الجحيم .
تركتها تثرثر وتسوّي شعرها المتناثر وتتأكّد من زينتها في مرآة سيارتي ، وسرنا ننهب الطريق إلى طرف المدينة حيث بدأت البيوت تتناثر وتتباعد ، وأضواء الكهرباء تتخامد وتتهامد .
قالت ضاحكة باستهتار :
-بدأت أسجّل الوقت عليك كالأستاذ في الدرس الخصوصيّ .
وماذا أقول وتقاطعات الطريق وتفرّعاته تشبه ما يجول في نفسي من متاهات وتقاطعات وتفرّعات ، وإشارات المرور الملوّنة ولافتات الهداية وأسهم الدلالة كلها ستنتهي بي حتماً في جحيمٍ ما .
هكذا ...وكان طريقنا إلى الجحيم الإختياريّ طويلاً .
*********************
عيونُها المفتوحة لا تعرف الوجل ولا ما نسمّيه الخجل ، ترقب عيونك لتقرأ فيها استحسانك أو استهجانك ومن ثم إقبالك أو إدبارك . وعندما تراك تغور بناظريك في فرجة قميصها ، عندها تتذكّر أنّ أزراراً ما ينبغي إغلاقها فتلملم زواياها المنفرجة. وعندما تخفض بصرك إذ تخجل أنت ـ وليس هي ـ فتصبح محملقاً في ساقيها الرّخاميتين ، فعندها وعندها فقط قد تتذكّر أنّ أذيال ثوبها مرفوعة بطريقة اللامبالاة فتسدل ستائرها .
حركات قدميها المهتزّة تشعرك بأنك في مضيقٍ من الحديث ولابدّ من اجتيازه ، وأصابعها المرتجفة توحي بأنها وإيّاك على عتبة باب مغلق وتبحث عن المفتاح لتفتحه ، أو ستقفل راجعاً عن عتباته بدون أن تطأها .
وأقول في نفسي :
-ويلي من معترك ضياعي وقنوط يأسي ونفور خاطري إلى نفيرالسقوط المنفّر بعد أن طاشت كلّ سهامي وفرغت جعبتي وتكسّرت مني الهمم وسدّ الفشل إثر الفشل أمامي كلّ السبل ..ولم يبق لي إلا الذهاب إلى الجحيم كخيار تقودني إليه أقدامي المتعثّرة ، وها أنا على عتبات بنات الهوى أدوسها بعد أن داسني القدر بنعال خلقه ..إنهنّ الوحيدات في دنياك من تسمحن لك بأن تدوس حرماتهن وتطأها بدون أن تخلع نعليك خارجاً على عتباتهن .
كنت أمامها كتمثالٍ مجبول من طين جفّ ظاهره وما زالت جبلَتُه طريّة من الداخل تعتصر همومه آخر ما فيها من رطوبة ومن ماء الحياة ، فتسيل عرقاً بارداً من خياشيم مسامه ..وبالتالي ما زال النحّات قادراً على تسوية صنعته وتغيير ملامح تمثاله .
وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه ؟
هه هه ..وماذا يقول من خسر العالم كلّه ولم يبق له إلا أن يخسر أيضاً نفسَه ؟ .. كمن فقد كل طموحاته وآماله ولم يبق له إلا طلقة الانتحار ، يطلقها في فمه فتخرسه بدءاً من لسانه !
ولابدّ لك ـ في النهاية ـ من تبديد الصّمت الذي يطول أمام لحظة الشراء أو البيع ، والبتّ في القرار الفاصل بين النعم واللا . فالبضاعة معروضة ولا داعي للتمادي في الإطالة والتبحّر في التردّد ، والثمن يمكن التفاوض عليه .. اطرح سعرك أولاً وقد تلقى قبولاً أو رفضاً أو مزاودة أو مناقصة ، ونقطة انتهى .
لكنّي فعلاً ما دخلت هذا السوق من قبل ، وما اشتريت من هذه السلعة ولا أعرف الأسعار المتداولة وبالتالي فلا قدرة لي على طرح السعر ، ولا أريد أن أبدو أمامها جاهلاً ، ولا أطيق أن أبخسها سعرها بعد أن لمَسَتْ في جمودي استحساناً .
ابتسَمَتْ ابتسامة الواثق ومدّت يدَها إليّ ، وتلقّفتُها فعلاً وقمت وسحبتها لتقف فأنتشلها وتنتشلني كغريقين في لجّة الوحل ، ومشينا ويدها بيدي وكأنها تقول لي ..لن نختلف على الثمن .
كانت أطول مني إذ سارت بحذائي ، فتقلّصَتْ وانكمشت وانطوت وتقاصرت وتحجّمت لتسايرني ووجدتُ في ذلك مجاملةً مستحبّة ، آه ما أجملكِ يا بنت الهوى ..وأنت الفرس الوحيدة التي تمكّنين منكِ راكبك فيمتطيك بسهولة حتى ولو لم يكن فارساً خيّالاً ، وتجنحين به في مضامير الوهم ولا تحرنين ولا تتذمّرين ولا تسقطينه عن متنك المهتزّ ..وهززتُ رأسي ساخراً وأنا أتخيّلها تنسجم مع كل أوتار الرجال الذين عزفَت عليهم لتتراقص على إيقاعاتهم .
قالت:
-تردّدك يذكّرني بالمرّة الأولى التي وافقتُ فيها على الخروج مع غريب .
وتتابع ضاحكة :
-هل تصدّق أنني لم أسأله يومها عن اسمه !..وها أنت لم تسألني عن اسمي..وماذا سيعني لك اسمي إن كان شريفة أم ظريفة ..متوحّشة أم أليفة ؟
قلت :
-فعلاً لسنا في جلسة تعارف ، ولا يشرّفني تبادل هويّتي معك ، وأنا في الحقيقة أفكّر الآن أين سأذهب بكِ لأني خجِلٌ من مشيتنا معاً .
أجابت بدون تردّد :
-سنذهب إلى الجحيم طبعاً ..هكذا قال لي زوجي عندما طردني من بيته ليلتها ورمى عليّ اليمين ، وسألته ودموعي تجللني وأين سأذهب في هذا الليل البهيم ؟ ..فقال ببساطة ..اذهبي إلى الجحيم .
ومفتاح الجحيم موجود مع كل بني الإنسان ، ويمكنك دخول الجحيم متى شئت بأيّ انحرافٍ عن الصّراط المستقيم ، أما مفتاح الجنة فيحتاج الحصول عليه شروطاً ومواصفاتٍ وشفاعات وسعياً ودأباً وصولاً إلى النعيم .
وأنت كما تبدو لي محروقٌ سلفاً بنيران جحيمك ، فبحثت عمّن يشاركك حرقتك، وسألت وتقصّيت حتى وجدتني ..ونحن لها .. والكثيرون يلقون عندي أثقالهم وأحمالهم ويغيبون ويتوبون عن جحيمي ، لكنهم يعودون عندما يعيون ثانية ، فيعودونني كأنهم يتلقّون مني جرعات علاجية بين الفينة والأخرى .
لا تبتئس ، ولا تأخذك الحيرة فنحن فعلاً نعيش الآن في الجحيم ، ونتقلّب لننتقل فقط من جحيم إلى جحيم .. تماماً كمن ينتقل في بيته الجهنّمي من غرفة إلى أخرى ، أو كالزوجة التي تهجر جحيم زوجها إلى جحيم غيره ، وكالشعب الذي يثور على جحيم طاغيته ويحدث انقلاباً إلى استبداد طغاةٍ آخرين .
أفلتُّ يدها واستصغرتُ كبرياءها ، واستهجنتُ فلسفتها وأيقنت أنّ كلَّ بشريّ ـ مهما قلّ شأنه ـ لقادرٌ على إلقاء محاضرةٍ عليك ، ونظرتُ حولي في كل الجهات كمن يهمّ بسرقةٍ ما ويخاف من كاميرات المراقبة ، ثم قلت :
-سيارتي قريبة ..تعالي نجلس في السيارة
وسارت بنا سيارتي المسرعة على غير هدى ، كمركب بلا شراع وقد يبحث عن شطٍّ يرسو إليه بين أمواجٍ متقاذفة ..قالت:
-في الأفلام العربية ، يأخذ الممثل الفتاة الرخيصة من قارعة الطريق ليخلو بها في غياهب أهرامات الجيزة ، ثم يحبّها في المشهد التالي ويتزوّجها وتكون بطلة للقصة .. وما عندنا هنا أهرامات لكنّ الأطراف المهمَلة لمدينتنا تفي بالغرض ، وبعدها تعطيني حسابي وتنزلني من سيارتك لتقول لي وأنت تتفل ما تبقّى في فمك من لعاب ..اذهبي إلى الجحيم .
تركتها تثرثر وتسوّي شعرها المتناثر وتتأكّد من زينتها في مرآة سيارتي ، وسرنا ننهب الطريق إلى طرف المدينة حيث بدأت البيوت تتناثر وتتباعد ، وأضواء الكهرباء تتخامد وتتهامد .
قالت ضاحكة باستهتار :
-بدأت أسجّل الوقت عليك كالأستاذ في الدرس الخصوصيّ .
وماذا أقول وتقاطعات الطريق وتفرّعاته تشبه ما يجول في نفسي من متاهات وتقاطعات وتفرّعات ، وإشارات المرور الملوّنة ولافتات الهداية وأسهم الدلالة كلها ستنتهي بي حتماً في جحيمٍ ما .
هكذا ...وكان طريقنا إلى الجحيم الإختياريّ طويلاً .
*********************