أشرف قاسم - زليخة...

منذ ارتحال الحلم،
لم تأنس زليخة،
والقميص ممزق،
والقصر مشتعل برائحة الشجن
قرأت على الأيام سورة حزنها،
شربت كروم الوجد،
خمر الوحدة الخرساء،
يا حزن الغريبة
فى مساءات الضياع
بلا وطن!
تخبو المصابيح المضيئة،
تغلق الشُرف المطلة عند باب الحلم،
تبكى كالعصافير السجينة
تحت أمطار الزمن!

يأتى المساء
وخلف باب القصر
تذكر ما جرى
ترنو إلى المرآة،
ترقب دمعة خجلى،
ووجهًا شاحبًا،
صدرًا يصارع عشقه الموّار،
بستانًا يجافيه الحيا،
شجرًا تيبس عوده
ما أثمرا!
تبكى....
وتذبحها التفاصيل الصغيرة،
تذكر القمر المغادر،
واستباقهما إلى باب الحياة،
تقول فى هذيانها:
لولا جنونى فى الهوى
ما غادرا!

تعدو لغرفتها،
لتفتح للنسيم نوافذ القصر
المطلة نحو وجه النيل،
تسأل ماءه
عن وجه يوسف:
- كيف يغفو الآن فى سجن البلاد؟
هل يكره الأبناء وجوه الأمهات
إذا انزلقن - بلا هدى - للعشق؟
كيف الآن ينظر لى؟
وكيف أتوب؟
هل أذنبت؟
كل خطيئتى أنى عشقت،
سقطت فى بئر الغواية،
ما علمت بأن جمر العشق
فى جوف الرماد!
قد كنت وجهًا للهشاشة،
حين يوسف كان وجه القوة،
الطهر،
السماحة،
والرشاد!

منذ استبانى العشق،
لاك النسوة،
الغلمان،
سيرة مهجتى،
«امرأة العزيز تراود» الولد الصغير،
وحينما لاحت لهن طيوفه،
«قطعن أيديهن»...
يا الله!
بل قطعننى
أنا لم أرد إلاه يؤنس وحدتى،
يمضى بقلبى فوق شوك الوحدة،
الأيام كانت صعبة،
والموت يسكن فى ضلوع
سواسنى!
أنا لم أرد سوءًا،
عدوت كأننى أعدو وراء النور
كيما تستضىء مدائنى
قد القميص قميصه
قلبى استفاق،
وجدت فى وجهى العزيز،
تسارعت دقات قلبى،
أى شىء قد أقول؟
كذبت...
يا ويلى!
صراع كان يطحننى،
صغرت أمام نفسى،
ما أمر بأن تصير بعين ذاتك
بعض زيف واهن!

فى المهد،
كنت أراه آخر نجمة،
قد ضوأت هذا الظلام
تحلو بضحكته الحياة،
ويرقص القلب ابتهاجًا،
والنوارس فوق ماء النيل
تشدو للغلام
كم كنت أقرأ بين كفيه الربيع،
وأرسم الأحلام من عينيه،
من قلبى المتيم،
من مداد الروح،
من دمع الفؤاد
المستهام!
يخطو،
فيمضى فى ثراه القلب،
تدنو الروح،
تلمس سدرة الأحلام،
تصعد للسماء،
ترتل النور الشفيف،
أتوه ما بين القطيفة
والرخام!
وأعود من عليائه،
نشوى،
بأوراد السكينة
والسلام!

من صوته
كانت قباب النور تعلو،
من سناه أرى الحياة تمد لى كفًا،
تربت فوق ظهرى،
يملأ الفرح الحنايا
لم يغرنى الإثم،
الذى أغرى فؤادى
طيبة القلب،
الحنان،
الطهر،
لم تلمسه خاطئة يدى،
شلت يداى!
من كفه تمضى مياه النيل،
تضحك للنخيل،
وسنبلات القمح،
فى بهو المعابد تمنح الكُهان حكمته،
على أحجارها نقشت يدى حبى له،
بدمى،
ودمعى،
إيه يا «امرأة العزيز تراود...»،
الأيام يومًا سوف تثبت
أننى ما جئت أبواب الخطايا!

منذ احتواه السجن،
جف الغصن،
غاض الماء،
فاض الحزن فى قلبى،
احتوانى الصمت،
كيف أفر من جدرانه؟،
من ذا سواه يبلغ القلب المتيم
مأمنه؟
أمضى،
أحدث عنه ماء النيل،
جدران المعابد،
صوته وطن الأمان،
أنا الغريبة دونه،
أمضى فتنكرنى
جميع الأمكنة!
وجع الغياب،
ودمعتى،
والليل مطرقة تدق مفاوزى،
وأنا وأسئلة الغياب تحوطنى،
وأنا وقلبى فى الحصار،
محاصرين بإثمنا،
هل كان إثمًا؟،
كان حلمًا..
كيف لى أن ألعنه؟

بينى وبين الله سر،
ليس يدركه الذين يخوضون بسيرتى،
يتوهمون خطيئتى،
لم يدركوا الألم الذى
سكن الضلوع!
لم يدركوا أنى- بكل وجيعتى-
امرأة أحبت،
غامرت،
لكنها امرأة العزيز،
فكيف ترضى
بالخضوع؟
لم يدركوا وجع انسحاقى،
واحتراقى،
واشتياقى،
واشتعال الروح من برق الرجوع
لم يدركوا أنى غسلت القلب
فى نهر الدموع!

ستمر أعوام عجاف،
سوف تذوى السنبلات،
يشح ماء النيل،
لا مطر على أفق البلاد،
ولا فرح!
لا شىء ينبت فى حقول وساوسى،
إلا بنفسجة الأسى،
وسواسن الوجد الذى شف الفؤاد،
ودمعة حيرى على حلم
ذبح!
وحدى...
وذاكرة الغياب،
ومقبض الباب الذى
لم ينفتح!

تبكى الشبابيك الحزينة
كلما طلت عيناى فى الفراغ،
فلا أراك،
ولا أرى النور الذى ملأ الحياة سعادة،
وحدى..
أحدق فى الضباب!
هل كانت السبع العجاف عقوبة؟
أو ليس يكفينى جفاف الروح؟
موت القلب؟
يكفى أن أموت
من الغياب!
ما أتعس امرأة تحب
فلا ترى فى الحب غير شقائها،
فتحت لنور الحلم باب حياتها،
سخر الظلام،
وصك فى وجه الحكاية
ألف باب!

من يحتوينى الآن
فى الليل المخيف؟
كل العيون مناجل
وأنا كأشجار الحدائق
دائمًا أبكى
على صدر الخريف!
والريح تلهو بى،
وتلقينى على برد الرصيف!
من يحتوينى الآن؟
لا ضوء هنالك فى الطريق،
فأى معنى للمحبة دون من نهوى؟
جدار ساقط قلبى..
خراب الروح ما أقساه
فى القصر المنيف!

قد القميص!
قددته وحدى!
ووحدى - خلف باب القصر -
لم ير دمعتى أحد سواه
غلقت أبواب النجاة بوجهه،
وأنا الغريقة فى بحار الحزن
والحرمان،
ما مدوا لكفى فى اغترابى
أى طوق للنجاة
من أى باب سوف أخرج؟
سدت الأبواب فى وجهى،
المتاهات احتضار،
والمنافى فى ليالى الوحشة الليلاء
موغلة كنصل فى الحنايا،
أى معنى للحياة
إذا افتقدنا فى ليالى البرد
دفء الحضن؟
صهد الكف؟
أسباب الحياة؟!

من سوف يمنحنى الأمان؟
وكل ما فى القصر
ينذر بالوعيد وبالخطر
من سوف يكتب فوق أحجار المعابد
قصتى؟
ويدون الأحزان والوجع المسافر
فى حنايا الروح،
يرسم دمعة سقطت على ظهر القميص،
وما رآها الطاعنون بعفتى،
سقطت لترفعها أيادى الله
صارت غيمة
سقطت بأعوام الرخاء مع المطر!
نبتت على أحجار طيبة زهرة
من نرجس،
وحمامة تتلو كتاب العشق
فى دنيا البشر!

فى السجن،
كنت أنا السجينة خلف أسوار اغترابى،
والمدينة كلها شهدت
بأنى الخاطئة
لم يدركوا وجعى،
ونار الذنب تأكل أضلعى
كالموجة الغضبى تصارعها
الصخور الناتئة!
فى السجن كنت أنا،
ويوسف فى براح الله يرتع،
تصطفيه ملائكة الرحمن،
يقرأ ما تيسر من كتاب النور للدنيا،
لكى يهدى القلوب
الصابئة
وحدى...
وما أقسى الحياة وجورها!
تقسو علىّ،
فأين أهرب؟
كل ما فى الكون ضدى،
كل أعراف القبيلة
تستحل دم امرأة!

ما زلت أذكر...
يوم جاءونى به، كيف احتوانى النور
فى الوجه المليح!
أعطيته قلبى،
وفى الليل الطويل ضممته،
واريته عن أعين الحساد،
عن كل الصبايا الطامعات،
عن الزمان المستباح
المستبيح!
هو ضحكة القلب الحزين،
ورفقة الوجع المسافر فى الضلوع،
وبلسم السلوان
للقلب الجريح!
كم كنت حين أمد كفى نحوه
يجتاحنى فرح،
وأشعر أنه عكازة القلب العجوز،
ومسند الظهر الكسيح!

الشمعدان الآن يذرف دمعه،
هل تدرك الأيام
حزن الشمعدان؟
لا الليل يسمعه،
ولا النجوى تصبره،
ولا هزج الأغانى!
وأنا أذوب مع الدموع،
أتوه فى دوامة الذكرى،
تمزقنى الدقائق
والثوانى
أجثو أمام النيل فى الليل الطويل،
أبثه وجعى،
ولا أحد يرانى!
تمتد كف النيل تمسح دمعتى،
يبكى لأجلى،
كم أراه الآن يطوى شاطئيه
إلى احتضانى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى