المهدي الحمروني - سؤال آخر في النقد

لا أجد مفرّا من الإقرار بأن ما يُشاب على الصحافة الألكترونية هو انفلاتها المطلق بسهولة من ضوابط السلطة الرابعة الواقعية.
فعندما يفقد بلدٌ ما عافيته السياسية وغياب المؤسسات فيه، لابد أن ذلك سيُلقي بظلاله على أوجه الحياة كافةً في هذا البلد،
ولعل هذا ما نعانيه بجلاءٍ في هذا الجزء من الوطن الكبير.
ولو أخذنا المشهد الثقافي شاهدًا، نجد أنه يعاني ارتباكًا واضحًا أبعدَ كثيرًا من مثقفينا عن دورهم المرجو في رفد المنتج الإبداعي ورقابته، إلى دورٍ سطحي استسهلوا به نعومة النشر المقتضب في العالم الأزرق، المنسلخ غالبًا عن الكتابة الجادّة، المساهمة بأدوارٍ واعية تليق بأسمائهم وتجربتهم الطولى، التي تتوقها ثقافتنا، ممّا جعل بعضهم يسترخي للراهن النقدي الانطباعي المنسرح إلى هوّة انفلات القطيع الشريد. وقد يكون ذلك بعفوية غير جائزة مبعثها الاستسلام لسطوة نظام العلاقات الشخصية والاجتماعية، التي تتحكم في مُكوَّن ذهني عادةً ما ينحو في اتجاه عاطفي فرضه واقع ثقافي تقليدي خرج به عن دائرة منطق العقلانية،
فأسبغ كثيرًا من ممارساتنا ودراساتنا للأشياء بوجه عام.
ولنأخذ الممارسة النقدية للمنتج الإبداعي لدينا مثلاً؛ فما نلاحظه أن هذه الممارسة قد فقدت المنهجية القائمة على تناول النص ككائن بنائي مستقلٍ عن مبدعه، ورضخت لمزاجية فردية في تقييم مستوى العمل الفني، فساقها إلى اختلاق تراتبية طبقية لا تستند إلى معايير علمية محددة. ولعل هذا ما يُعلّل سبب حاجتنا في هذه الفترة بالذات إلى نقاد يحيطون بمدارس النقد الحديثة، ومنهجيّةٍ دقيقة تفكّك الأثر الإبداعي بحيادية؛ لتضعنا أمام حقيقة ما ينتج فعلاً، ومكان هذا المنتج في خارطة الإبداع لدينا.
وتُكرّس تلك العقلية الانطباعية -التي تفتقد الاختصاص أصلاً- حالتها هذه الآونة، بما تفلته من مسلمات مستعجلة، فتضع الشعراء في طبقات آنية افتراضية من دون الإحاطة التامة بعموم الركح الشعري، فتأتي انطباعاتها الذاتية بعيدة ومهينة للشعر والشعراء.
فمن السخف أن تتحول الممارسة النقدية لدينا إلى انطباعات مشخصنة، تُلقى كتغاريد في منابر لا تمت للشعر بصلة أو حتى تليق به.
فالنقد ككائنٍ موازٍ للأثر الفني له أهمية كبرى؛ لمساهمته في إعادة صياغة وجدان الحياة، وما الشعر فيه إلا جزء مكون لهذا الوجدان، لكن أن يتحول إلى حالة مبهمة تلقي به في هامش الحائط بما لا يؤدي دوره المأمول تلك هي المعضلة، ولهذا كان لزامًا علينا لاسترجاع عافيتنا الثقافية؛ الاتجاه بالنقد نحو دورٍ آخر، يتم به تأثيت بيتنا بما وصله العقل النقدي من نظر وتطبيق في هذا الحقل المعرفي الواسع.
حيث لم يعد مسموحًا للنابغة الذبياني التفكير في إعادة صياغة عكاظ أخرى؛ بتفضيله الخنساء على حسّان دون سياق برهاني، وإلا تحوّل مشهده إلى أحكامٍ وخلاصاتٍ بعصًا بوليسيةٍ دون تبرير، إنه بذلك سيغدو كإعلانٍ للنتائج على لوحة الأوائل لإتمام المرحلة الابتدائية، وبصرامةٍ يمثّلها ناظر المدرسة الواقف إلى جوار اللوحة، كراعٍ يحظر المراجعة على التلاميذ الناجحين والراسبين على حدٍّ سواء ويمنعها عنهم. إنه بذلك سيبدو أكثر قبولاً للانفتاح الجامعي في أعلى مستواه على نظام الرسائل والأطروحات القابلة للنقاش على الملأ، وهنا لا يؤمن مطلقاً بإيصاد الباب عن التنظير، والاجتهاد في الرأي، القابل لأن يكون مدرسةً أحدث في مفكرته التاريخية نحو الحداثة.
ومن ناحية أخرى، يجدر بالمنابر الثقافية أن تترفع مهنيًّا عن تبنّي طريقة الشاشة السفلى الممرِّرة لتخمة الأشرطة، والمسوّقة خبط عشواء، وبعجالةٍ فجّةٍ ومربكة لذائقة القارئ المُعوَّل عليه.
دون ذلك سنظل -في منظوري كمتعاطٍ متواضع مع المشهد- نجترًّ الحالة الجاهلية قبل تنزّل الكتاب ورفع الآذان، لكرتونيةٍ صوتيةٍ من خرافة البسوس والناقة، وداحس والغبراء، في بروفات يستحيل أن تنضُج كواليسها.
________________________
ودّان. 22 كانون الأول 2020 م




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى