د. سيد شعبان - الطيب أبو سويلم!

يبدو أن الحكي سيصاب بضعف الذاكرة؛ ذلك أن الراوي العليم قد ارتحل إلى الجهة الأخرى من ذلك العالم، تدثر بثوبه الأبيض؛ أشار بيديه إلى كل ذريته؛ جمعهم وأفضى إليهم بنظرات الوداع، أوصاهم بالحب؛ ترك البيت الكبير مطمئنا أنه أدى رسالته، في نسك الأولياء أتم شعيرة الصلاة؛ حوله الأطفال يتلون الآيات؛ أي قلب كان!
خزانة السرد تلاشت مع رحيله، أجمل الحكايات التي دونتها كنت يا أبي راويها، ألتمس دعابتك الحلوة؛ كتبت جذر أبي وحكاية تلة جادو، مع كل كلمة تكمن قصة ما، أشبعت الكفر حكيا وسردا؛ كم كنت بارعا حين أوجدت في عالمي دفء الماضي!
الخطوط كانت تقود إليك: شجار حول الساقية، الفيضان يوم كان النهر شابا لم يحجزه السد، يحق لي يا أبتي أن أدعوك شاهدا على عصرنا؛ في أحيان كثيرة كنت محور الحدث، يعرف الناس ذلك؛ تناقلوا سيرتك؛ رجولة مع كرم قل أن يوجد في دنيا الناس.
وحدي هنا مع ذكرياته التي تمثل كائنات من طيف سحري؛ عصاته التي كان يتساند عليها؛ ثيابه تلك المسكونة بعبقه، غطاء رأسه الذي كان تاج الوقار، كلماته صداها يهتز بالدعاء، لم يترك في الحديقة شجرة إلا وأوصاها بحلو الثمر؛ كفاء ما سكب فيها من قطرات عرقه.
يرتحل الطيبون عن هذا العالم بعد أن يتركوا بصمتهم، سنبلات خضر تزين الحقول، أحال الأرض الميتة حديقة تتراقص جدائلها، يتساقط المطر ليروي مرقده، يتساءل الناس عن رجل لم يدرك زمن الأنبياء لكن فيه بقية من أثرهم؛ ولي لله كان بيننا؛ صمته عجيب ودعابته حلوة أثيرة، أوشك القرن أن ينتهي إلا عشرا بقيت، كنت ألتمس منه الدعاء فمن يهبني تلك الصالحات!
أشاغب معه فيمدني من خزانته سمرا وسردا أنسج منه ظلال الحكي الذي ضرب في أودية القلم، وقع خطواته المثقلة بعبء الزمن ينقلها في أناة حكيم، تبحث عنه الشياه وتتلفت كل ناحية، أدركت موته يوم تساقط زوج من الحمام من مسكنه؛ نبح الكلب نواحا في ظلمة الليل، يالفاجعة الموت كيف تسدل أردية الحزن في ذلك المكان!
يدوي الريح هنا؛ كنت أستدفيء به في ليالي الشتاء.
مدن الملح من كل ناحية تحيط بالبشر وتميت الأشجار؛ ثمة قطة تموء في ضعف، حاولت أن أخرج من تلك الشرنقة التي التفت حولي، أدرت عيني في فراغات المكان، ينبعث صوت المؤذن معلنا مولد يوم جديد؛ هاهي الشمس تشرق والعصافير تغرد، رحمة الله لاشك ستدركنا؛ أثق بهذا، كثيرا ما أدركت هؤلاء المتعبين؛ جميل أن نتدثر بالصبر ونقتات الرضا مع كسرات الخبز.
خمسون عاما ألهو وأجري والآن أدركت اليتم بعدما ارتحلت أيها الطيب؛ ذقته فكأنما الآن أنا ابن خمس.
كل الحكايات كنت ساردها؛ عبقري في ذلك العالم المسكون بحرقة الحرف، علمتني كيف تكون الكتابة حين تتداخل وتتمازج عناصرها وأنت الذي ما خط بالقلم غير وسم أشبه بالرسم، يقف بي التاريخ عند تلك الجذاذات التي آثرتني بها؛ عالمي المسكون بالسرد أنت سطره ونصه، بالفعل كنت محمد أبو سويلم في سمته وعنفوانه وحبه للأرض؛ غير أنك فقته جلدا وعزيمة لم تنحن يوما ولم يداخلك وهن؛ حتى الموت كنت تعانده في فروسية حتى أسلمت الروح لبارئها.
لو كان رجلا يمشي بين الناس لأوجعته، كيف وهو سلطان الله الذي لا يقهر!
يتناقل الناس سيرتك المملوءة رجولة وكرما؛ فمعادن الرجال فيك فولاذ بل أشد صلابة.
سألتمس طيفك يزورني في منامي ويقظتي؛ أسلو به وأتسلى عن غيابك فالأحلام زاد المتعبين وغذاء الجوعى الذين ارتحل عنهم محبوهم إلى الضفة اليمنى من النهر المبارك؛ حيث لا تعب ولا عناء
فسلام عليك يا أبتي رحمة من الله تتغشاك؛ وجنة ترفل في حليها ونهرا من لبن ترزقه.


1609141523590.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى