إستقل الرجل طاكسي إلى ساحة "جَامَعْ لَفْنَا " ، إستأجرغرفة في أحد فنادقه ، أودع في الغرفة كيس قماشٍ ، الكيس الوحيد الذي كان يحمله وهو يترجل من الحافلة في المحطة الطرقية بمدينة مراكش .
جرجر في الساحة رجليه ـ المحشورتين داخل حذاء متهالك ـ هنا وهناك ! بحثاً عن صديقه الحاوي الذي لم يره منذ سنين ، رجل يدعى " العبدي ".. لم يعثر له على أثر ، جلس في إحدى مقاهي" الجامع " وطلب لنفسه براد شاي بلا نعناع ، جاءه النادل بصينية الشاي على وجه السرعة وكان الشاي عبارة عن أوراق تدور في دوامة ماء فاترٍ ومائل إلى الصفرة و يفتفر إلى طعم شاي حقيقي ، شربه بإمتعاض ظاهر مع بعض السجائر الرخيصة التي كان يعبها بشراهة . أفقده الشاي متعة الإستمرار جالسا في المقهى ، عاد إلى الساحة ، وجد صديقه قد بدأ يفرد صناديقه الخشبية التي تحوي ثعابينه ثم شرع ينصب مظلته الشمسية . تعانقا ، نظرأحدهما إلى وجه الآخر مَلِياً ،ربما ليقرأ فيهِ أثر السنين التي مرت عليه . كان البدين يتصبب عرقاً في تلك الصبيحة التي بدأت قائظة منذ ساعاتها الأولى ، مكرراً عبارات الترحيب بالرجل بدأ يخرج من جرابٍ عُدَّةَ الشاي ثم شرعا في إحياء ذكرياتهما في القرية حيث أمضيا طفولتهما وفترات من شبابهما . تناول الكلام أمكنة محددة ووجوها بعضها إختفى دون أن يترك أثراًوالبعض الآخر صمد أمام إختبار الأزمنة القاسية .
في آخر المساء ألحَّ البدين على الرجل ان يرافقه إلى بيته ليّتِمَّا بقية حديثهما .
ـ هذه فرصة قَدْ لا تتكرر ! قال الحاوي لصديقه .
كان البيت يقع وسط المدينة العتيقة ، صغيراً ، آيلاً للسقوط ، حيطانه قاتمة ويحتوي على غرفة وحيدة بئيسة ، وحمام أكثر بؤساً . سكن البيت هو وزوجته أمداً قليلاً قبل أن تهجره هذه الأخيرة وتأخد وجهة مجهولة ، وكان ذلك بعد أن إمتنع عن التخلي عن مهنة الحواة والتمسك بثعابينه ، ومذَّاك تزوج الحاوي الثعابين ولم يكفَّ عن معاقرة الخمرة .
إنهمك المضيف في إعداد وجبة العشاء أما الضيف فقد إهتم بملإ كؤوس النبيذ وحَشْوِ أفواه الغلايين بمسحوق الكيف . واصلا إفراغ جعبتيهما من ما تبقى من ذكريات حياتهما في القرية ، تذكرا إنحباس المطر وشحه في الأونة الأخيرة من وجودهما هناك ! تذكرا الناس الذين أصبحوا أكثر غضباً وينتفضون لأتفه الأشياء ، ولأول مرة رأوا في ذلك الزمن رجالا يبكون وينفجرون في وجوه نساءهم وأطفالهم لا لسبب إلا لإفراغ القهر الذي يعانون منه ، العواصف نفسها أصبحت عاتية تذر التراب على رؤوس الأحياء. جفت جلود الناس وذبلت وأصبحت وشيكة التقصف ، بعض القرويين هاجر إلى المدينة للبحث عن عمل والذين تخَلَّفُوا في بؤس القرية بين الأحجار والتراب واصلوا نتيجة الصدف ، حياة بئيسة .
ساقت تلك الذكريات الحزينة سحب الحزن التي خيمت على صدريهما فعَكَّرَتْ صَفْوَ جلستهما .عبَّا مزيداً من النبيذ وذخَّنا كثيرا حتى تخدرت حواسهما وتَعْتَعُهُمَا السُّكْر ، وفي تلك الظروف تعذر على الرجل العودة إلى الفندق ، فأمضى الليل في بيت صديقه ، وفي ساعة متأخرة من ساعات الصباح وكان الحاوي ما زال مسترسلاً في نومه ، غادر الرجل البيت نحو الفندق ليأخذ أغراضه ، لكنه فوجيء برجال الأمن يطوقون المكان ويمنعون الناس من الإقتراب منه ، وحدها أدراج الفندق كانت تسوق عشرات الزوار المهرولين نحو الباب لا يلوون على شيء من الخوف والرعب ، بعضهم لم يفكر حتى في إنتعال حذائه والبعض الآخر نزل بثيابه الداخلية طلباً للنجاة وآخرون تعثروا بأذيال أثوابهم التي لبسوها على عجل .
سأل الرجل شخصاً عن الحدث الذي من أجله طوق رجال الامن الفندق،جاءه الجواب من شخص خلفه .
ـ أحد النزلاء وضع كيس قماشٍ من المتفجرات داخل غرفة بالفندق !
إعتبرها الرجل مزحة في أول الأمر، لكنه فكر في الكيس الذي أودعه في غرفة بالفندق ، تراجع إلى الخلف ، لعن في نفسه الساعات التي إختلى فيها بالحاوي والليلة التي قضاها إلى جانبه ، بدأ يتسلل إلى الخلف مسحوباً بجَزْر المتجمهرين الذين تراجعوا أمام هراوات رجال الأمن .
ـ تراجعوا...:تراجعوا ! كانوا يصرخون في وجوه المحتشدين ، وفي هذه الأثناء إنحدرت ثعابين من كل الأحجام على الأدراج منزلقة نحو الباب وكان الرجل قد غادر الحشد قبل ذلك وفي نِيَتِهِ أن يستقل الحافلة إلى مدينة " إيمنتانوت " تاركاً ثعابينه تكمل المشهد .
احماد بوتالوحت
جرجر في الساحة رجليه ـ المحشورتين داخل حذاء متهالك ـ هنا وهناك ! بحثاً عن صديقه الحاوي الذي لم يره منذ سنين ، رجل يدعى " العبدي ".. لم يعثر له على أثر ، جلس في إحدى مقاهي" الجامع " وطلب لنفسه براد شاي بلا نعناع ، جاءه النادل بصينية الشاي على وجه السرعة وكان الشاي عبارة عن أوراق تدور في دوامة ماء فاترٍ ومائل إلى الصفرة و يفتفر إلى طعم شاي حقيقي ، شربه بإمتعاض ظاهر مع بعض السجائر الرخيصة التي كان يعبها بشراهة . أفقده الشاي متعة الإستمرار جالسا في المقهى ، عاد إلى الساحة ، وجد صديقه قد بدأ يفرد صناديقه الخشبية التي تحوي ثعابينه ثم شرع ينصب مظلته الشمسية . تعانقا ، نظرأحدهما إلى وجه الآخر مَلِياً ،ربما ليقرأ فيهِ أثر السنين التي مرت عليه . كان البدين يتصبب عرقاً في تلك الصبيحة التي بدأت قائظة منذ ساعاتها الأولى ، مكرراً عبارات الترحيب بالرجل بدأ يخرج من جرابٍ عُدَّةَ الشاي ثم شرعا في إحياء ذكرياتهما في القرية حيث أمضيا طفولتهما وفترات من شبابهما . تناول الكلام أمكنة محددة ووجوها بعضها إختفى دون أن يترك أثراًوالبعض الآخر صمد أمام إختبار الأزمنة القاسية .
في آخر المساء ألحَّ البدين على الرجل ان يرافقه إلى بيته ليّتِمَّا بقية حديثهما .
ـ هذه فرصة قَدْ لا تتكرر ! قال الحاوي لصديقه .
كان البيت يقع وسط المدينة العتيقة ، صغيراً ، آيلاً للسقوط ، حيطانه قاتمة ويحتوي على غرفة وحيدة بئيسة ، وحمام أكثر بؤساً . سكن البيت هو وزوجته أمداً قليلاً قبل أن تهجره هذه الأخيرة وتأخد وجهة مجهولة ، وكان ذلك بعد أن إمتنع عن التخلي عن مهنة الحواة والتمسك بثعابينه ، ومذَّاك تزوج الحاوي الثعابين ولم يكفَّ عن معاقرة الخمرة .
إنهمك المضيف في إعداد وجبة العشاء أما الضيف فقد إهتم بملإ كؤوس النبيذ وحَشْوِ أفواه الغلايين بمسحوق الكيف . واصلا إفراغ جعبتيهما من ما تبقى من ذكريات حياتهما في القرية ، تذكرا إنحباس المطر وشحه في الأونة الأخيرة من وجودهما هناك ! تذكرا الناس الذين أصبحوا أكثر غضباً وينتفضون لأتفه الأشياء ، ولأول مرة رأوا في ذلك الزمن رجالا يبكون وينفجرون في وجوه نساءهم وأطفالهم لا لسبب إلا لإفراغ القهر الذي يعانون منه ، العواصف نفسها أصبحت عاتية تذر التراب على رؤوس الأحياء. جفت جلود الناس وذبلت وأصبحت وشيكة التقصف ، بعض القرويين هاجر إلى المدينة للبحث عن عمل والذين تخَلَّفُوا في بؤس القرية بين الأحجار والتراب واصلوا نتيجة الصدف ، حياة بئيسة .
ساقت تلك الذكريات الحزينة سحب الحزن التي خيمت على صدريهما فعَكَّرَتْ صَفْوَ جلستهما .عبَّا مزيداً من النبيذ وذخَّنا كثيرا حتى تخدرت حواسهما وتَعْتَعُهُمَا السُّكْر ، وفي تلك الظروف تعذر على الرجل العودة إلى الفندق ، فأمضى الليل في بيت صديقه ، وفي ساعة متأخرة من ساعات الصباح وكان الحاوي ما زال مسترسلاً في نومه ، غادر الرجل البيت نحو الفندق ليأخذ أغراضه ، لكنه فوجيء برجال الأمن يطوقون المكان ويمنعون الناس من الإقتراب منه ، وحدها أدراج الفندق كانت تسوق عشرات الزوار المهرولين نحو الباب لا يلوون على شيء من الخوف والرعب ، بعضهم لم يفكر حتى في إنتعال حذائه والبعض الآخر نزل بثيابه الداخلية طلباً للنجاة وآخرون تعثروا بأذيال أثوابهم التي لبسوها على عجل .
سأل الرجل شخصاً عن الحدث الذي من أجله طوق رجال الامن الفندق،جاءه الجواب من شخص خلفه .
ـ أحد النزلاء وضع كيس قماشٍ من المتفجرات داخل غرفة بالفندق !
إعتبرها الرجل مزحة في أول الأمر، لكنه فكر في الكيس الذي أودعه في غرفة بالفندق ، تراجع إلى الخلف ، لعن في نفسه الساعات التي إختلى فيها بالحاوي والليلة التي قضاها إلى جانبه ، بدأ يتسلل إلى الخلف مسحوباً بجَزْر المتجمهرين الذين تراجعوا أمام هراوات رجال الأمن .
ـ تراجعوا...:تراجعوا ! كانوا يصرخون في وجوه المحتشدين ، وفي هذه الأثناء إنحدرت ثعابين من كل الأحجام على الأدراج منزلقة نحو الباب وكان الرجل قد غادر الحشد قبل ذلك وفي نِيَتِهِ أن يستقل الحافلة إلى مدينة " إيمنتانوت " تاركاً ثعابينه تكمل المشهد .
احماد بوتالوحت