عباس عبد جاسم - قصيدة النثر ما بعد مرحلة الرواد

قصيدة النشر
الأجنسة والأدلجة والتهجين

على الرغم من ان قصيدة النثر قد تجاوزت مرحلة الرفض والقبول، فإنها لا تزال موضع اختلاف بين تيارين:
• أحدهما- يرى بأنها كتابة ذات مرجعية (أوروكية) تبحث عن هوية غير قابلة للتجنيس والتوطين والتجذير، وذلك لاتحاد دالين متناقضين فيها (شعر-نثر)، وبذا فهي ليست (شعراً) خالصاً ولا (نثراً) خالصاً.
• ثانيهما- يرى بأنها حازت على امتلاك الشرعية (رغم تسميتها الخاطئة: قصيدة نثر) بما يكفي من الاعتراف بها كجنس مستقل بذاته أو موازي لقصيدة التفعيلة.
ولكننا نرى بأن إشكالية آيديولوجية أكبر من إشكالية هويتها الأجناسية، ليس لأن مجلة (شعر) الحاضنة لها (آيديولوجية حتى العظم)(1)، وإنما لأنها نتاج لحظة إشكالية في الواقع العربي، لأنها ولدت من رحم الانهيارات المتدرجة للذات العربية، وكرد فعل على انسداد الأفق العربي على ذاته، وتمَثّل حالة الانفتاح التي هيأتها العولمة، وذلك على وفق المؤشرات البيانية الآتية:
• النهوض العربي في الخمسينات.
• انهيار الثورة الفلسطينية.
• هزيمة حزيران 1967.
• إخفاق المشروع الناصري.
• انهيار الكيان الشيوعي.
• تفكك النظام الاشتراكي.
• انبثاق نظام العولمة.
• تشظي النظام العربي.
ثم ما تأثير هذه اللحظة المتمثلة بالصمت الذي شغلته قصيدة نثر الرواد بين (1976-1985)؟ أليس لهذا الصمت دلالة آيديولوجية؟ وإلاَ ماذا غير ذلك؟
لضرورة إجرائية، سنرجئ الإجابة على ذلك السياق إلى سياق آخر.
أما مجلة (شعر) فهي ليست مصدر هذه الإشكالية، وإنما هي جزء منها، لأنها دخلت في علاقة ملتبسة مع المركزية الغربية، مما طبعت قصيدة النثر بالمنتج الرمزي الآيديولوجي للرأسمالية لحظة وصول الليبرالية إلى التسليم بسيادة قانون السوق، والاتجاه نحو القبول بالعولمة، الأمر الذي جعل قصيدة النثر أكثر استجابة لعولمة التشظي وانتشارها في بلادنا العربية.
ويستدرك عز الدين المناصرة في هذا المجال:
(لكن الانفجار الكبير حدث منذ أوائل التسعينات، أي-تحول قصيدة النثر نحو السيطرة شبه التامة على وسائل الإعلام في ظل ثقافة العولمة والتشظي الكبير. لقد كانت مركزية قصيدة النثر تتمركز في (لبنان-فلسطين-سوريا-العراق)، لكن في التسعينات أو منذ عام 1985 تقريباً، فقد انتشرت في (مصر-الخليج العربي-المغرب العربي) وهنا ظهر مئات من كٌتّاب قصيدة النثر في ظل شعارات النظام العالمي الجديد (العولمة)(2).
وإن كانت (اللحظة العربية) كما وصفها بول شاؤؤل (كلها معولمة)(3) فينبغي التمييز ضمن سياق هذه اللحظة بين العولمة كأيديولوجيا للتشظي، والتشظي كسمة من سمات قصيدة النثر المغايرة-الدالة على تشظي الذات العربية.
إذا كان قبول مجلة (شعر) بتبني قصيدة النثر كجنس (مجاور/موازي) لقصيدة التفعيلة، يعني القبول بالتمثلات الآيديولوجية للعولمة، ومنها تحديداً (مفارقة الهوية ومحوها تعبيراً عن كونية الذات) بصيغة الانفتاح (الهووي/من الهوية) على العالم.
لهذا خلخلت قصيدة النثر سياق الشعر العربي، بل وخضخضت قوانين عمل الشعرية العربية بالأساس، ابتداءً من تفجير اللغة وانتهاءً بتفكيك (قداسة الرؤيا)، وذلك بدلالة (الانتقال إلى أنا بلا صفات) و(مساوات الداخل والخارج) و(الذات والأشياء) و(شعرنة التقرير والمباشرة والخير والسرد) وصولاً إلى (خروج الشعر إلى اللاشعر، وإلى الشعر المضار)(4)
وقد ترافق مع هذا الانتقال-(مشروع تدمير الساحة العربية)، حيث كانت دعوة عباس بيضون إلى تفكيك الفصاحة العربية-كما يرى البعض-بمثابة دعوة إلى تفكيك البناء الفوقي للأسطورة القومية.(5)
إذاً كانت أدلجة قصيدة النثر بصيغة تهجين هويتها أو تذويبها بالعولمة أكثر إشكالية من أجنسة قصيدة النثر بصيغة البحث عن هوية اجناسية لها.
ولكن ما هو أكثر إشكالية من الأدلجة والأجنسة-إشكالية (عوربة) قصيدة النثر أو ما يجعلها (عربية)، وبخاصة إن قصيدة النثر من الثمانينات، ومروراً بالتسعينات، وإلى حد ما الألفية الثالثة، قد تجاوزت مواصفات قصيدة النثر الفرنسية في كتاب سوزان بيرنار بصيغة الافتراق عن قصيدة نثر الروّاد والانقطاع عنها، وبذا كانت الثمانينات بداية القطعية في المفهوم، والتحول كذلك في اللغة، والتهجين في الهوية. (كما سنلاحظ ذلك في سياق لاحق).
ويمكن الاصطلاح على قصيدة النثر من بعد الروّاد بـ(قصيدة النثر المغايرة)، وقد آثرنا أن نضع (العربية) بين قوسين أينما وردت في سياقاتنا اللاحقة، حتى وأن كانت هذه التسمية (العربية) دالة على تمييزها عن قصيدة النثر (الاوروكية)، وذلك لسببين:
أولاً: إن قصيدة النثر التي كتبها انسي الحاج وادونيس ومحمد الماغوط، لم تخرج عن إطار قصيدة النثر الفرنسية من جهة، كما إن (القصيدة الحرة) التي كتبها إبراهيم جبرا وتوفيق الصانع لم تخرج عن إطار (الشعر الحر) الذي كتبه الشاعر الأمريكي والت وتمان في (أوراق العشب) من جهة أخرى، وقد حاولنا فك التداخل بين قصيدة النثر والقصيدة الحرة. (كما سنلاحظ ذلك في سياق لاحق أيضاً).
ثانيا: إن قصيدة النثر التي كتبها (الثمان/تسعينيون) وإلى حد ما كُتّاب (الألفية الثالثة)، وإن لم تندرج في مواصفات القصيدة (الاوروكية)، فهي لا تزال تدور في فلك العولمة بوعي مبعثر (التشظي/الأثر والمحو/كتابة الجسد/الشفرة الشخصية/الاهتمام بالذات-الانهماك بالصمت) من ناحية، ولا تزال تدور في فلك الحساسية المغايرة بوعي متمرَّد (التفاصيل/المنسي/المهمل/العادي/اليومي/المغفول عنه) من ناحية أخرى.
وقد قامت هذه القصيدة بأرضنة المتعالي، وزحزحت المعجم البلاغي بالمعجم اليومي العادي، لدرجة إنتزعت من اللغة المجاز والاستعارة، وقد سمى أحد شعراء السبعينيات ما كتبه عند منتصف الألفية الثالثة بـ (قصائد لا تُحسِن الاستعارة).(6)
وبذا لم تعد الفصاحة في قصيدة النثر المغايرة دالّة بالضرورة على بلاغتها العربية، لأن العربية هوية ذات أكثر مما هي (نواة قومية).
لهذا ليس هناك قصيدة نثر (عربية)، ليس لأن التي تكتبها هي (الأنا العربية) كمنفى تعبيري(7) وإنما لأنها نتاج معقد من التحوّل الذي فرضه التغيير، ولكل ذلك اقترحنا الاصطلاح على تسميتها بـ(قصيدة النثر المغايرة)، لأنها بدأت القطعية في المفهوم، ورسخت التحوّل في اللغة، وتمثلت التهجين في الهوية.
المصدر: سلسلة النقديات المعاصرة، الطلوع وسط انهيار اليقينيات، لندن، 2014.
هوامش
(1) حوار مع عباس بيضون/جريدة أخبار الأدب المصرية في 9/5/1999.
(2) عز الدين لمناصرة/إشكاليات قصيدة النثر/نص مفتوح عابر للأنواع/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت-عمان/ط1/2002/91.
(3) حوار مع الشاعر اللبناني بول شاؤؤل/حاوره: مصطفى عبادة/موقع الأهرام العربي في 2/6/2007.
(4) عباس بيضون .. الشعر لم يبدأ بعد/جريدة السفير اللبنانية في 9/6/2006.
(5) ماهر شرف الذين/حين طوى انسي الحاج أشكال الشعرية/مؤتمر قصيدة النثر أم مؤتمر شعراء؟/ملحق جريدة النهار البيروتية في 28/5/2006.
(6) محمد عبد المطلب/قصائد لا تحسن الاستعارة/جريدة الأديب العراقية/ع (77) في 22/6/2005.
(7) زهير أبو شايب/قصيدة النثر كتابة برزخية/إجابة على أسئلة

قصيدة النثر
وإشكالية المصطلح والدلالة والتجنيس الأدبي
تتجوهر قصيدة النثر في التناقض القائم بين القصيدة نثراً والنثر شعراً، فالقصيدة بنية اطارية جامعة للنثر، والنثر جنس هجين لا تحكمه القصيدة، وان تحكمت في تأطيره، وبذا فإن (القصيدة لا تقبل غير الشعري، بما هو لغة وليس مفهوما)(1) لأن الشعر ليس هو القصيدة، بل هو (أوسع منها ويشتمل عليها)(2).
إذا ثنائية (قصيدة/نثر) شكلت ماهية قصيدة النثر من حيث المصطلح أولاً، والدلالة ثانياً، والجنس ثالثاً، إن على التأصيل، وإن على مستوى التقعيد في النظرية النقدية العربية.
لقد ذهبت موسوعة برنسون الجديدة للشعر والشعريات إلى أن قصيدة النثر قائمة علي:
أولا: اجتماع لفظين متعارضين دلالياً oxymoronic هما قصيدة ونثر.
ثانياً: قيام الشكل على تناقض بين جنسين خطابيين. (3)
وبداهة أن يصطدم أي تأصيل أو تقعيد لقصيدة النثر بهذه الثنائية التي تجمع بين نظام القصيدة وفوضى النثر، فقد اقترح ادونيس عام 1960 مصطلح (قصيدة النثر)(4)، ولكنة تراجع بعد أن اكتشف أن هذا المصطلح (مفكّك ومتناثر حتى انه يكاد يفقد دلالته الأساسية، حيث تحوّل في الكتابة العربية الحالية إلى طينة، يمكن أن نسميها-الكتابة الشعرية-نثراً).(5)
وما أشكل قصيدة النثر-التداخل والخلط بينهما وبين (القصيدة الحرة)، فقد رأى بول شاؤؤل بأن ثمة علاقة بين الشعر الحر وقصيدة النثر من خلال السمات المشتركة بينهما كوحدة الموضوع والجملة الشعرية والحرية (6) فالحرية في قصيدة التفعيلة تستدعي النظام، ولكن النظام في قصيدة النثر يستدعي الحرية التي تصل في أغلب الأحيان درجة الفوضى.
ويذهب سركون بولص إلى تخطئة تسمية قصيدة النثر: (حين تقول قصيدة نثر، فهذا تعبير خاطئ، وفي الشعر العربي عندما نقول قصيدة نثر، نتحدث عن قصيدة مقطّعة، وهي مجرد تسمية خاطئة، وأنا أسمي الشعر الذي اكتبه بالشعر الحر)(7).
وإن كان سركون بولص قد صنّف ما يكتبه بـ (الشعر الحر)، فإنه من أوائل كتاب قصيدة النثر في العراق.(8)
وقد ذهب أمجد ناصر إلى أن قصيدة النثر (لم تكن بمعظمها قصيدة نثر حقيقية، وإنما أقرب ما تكون إلى القصيدة الحرة free verse منها إلى قصيدة النثر).(9)
إن مصطلح (الشعر الحر) يعود إلى الشاعر الأمريكي والت وتمان (1819-1892) الذي اصطلح على ما كتبه في (أوراق العشب) بـ (free verse)، وهي قصائد من الكلام اليومي، تخلو من الوزن والقافية، وقد ترجم هذا المصطلح إلى (الشعر الحر)، ولكن هل القصيدة التي تخلو من الوزن-قصيدة نثر أم قصيدة حرة؟
وإن كان ما كتب خارج الوزن-شعر حر وليس قصيدة نثر، إذاً ما الحدود البيّنة بين قصيدة النثر والشعر الحر؟
نحن نفهم إن قصيدة النثر نوع من الخروج على الشعر من داخل الشعر إلى (القصيدة نثراً)، وتشكل (القصيدة نثراً) خاصية شعرية تحدّد ماهية القصيدة. (10)
لقد ولدت قصيدة النثر، وهي تحمل بذرة التمرّد على كل ما يقيّد الشكل على الانفتاح، وما يمنع اللغة من التحوّل، لهذا (تكمن أخصب مصادر قصيدة النثر في اللعبة التي يقدمها النثر بوصفه نثراً) (11)، وخاصة بعد ان جمعت بين الشعر والنثر (من الشعر أخذت احتفاله العالي بلعب الدوال وأنعشته بقدرات النثر على قول ما لا يقوله الشعر. (12)
ولكن قصيدة النثر، ذات طبيعة (هرمية) متحوّلة بحيوات متحركة، فهي ليست شعراً خالصاً، ولا نثراً خالصاً، إنما هي نسق مركب تركيبة طباقية، تلتبس فيه الفوضى بالنظام تعبيراً عن التضاد الأجناسي المتبادل بين القصيدة نثراً والنثر قصيدة، وهي بذلك-كما وصفها-بودلير (كتلة لا رأس لها ولا ذيل).
وعلى الرغم من أن مصطلح قصيدة النثر ولدت لحظة الحمل بشعرية الترجمة الخاطئة، فقد اكتسبت درجة معينة من الثبات النسبي في الفضاء التداولي النقدي، ولكن هناك من يسعى لاقتراح صيغ إجناسية بديلة، ويمكن أن نتوقف عند أكثر من مقترح أُستخدِم لتصحيح التسمية الخاطئة لقصيدة النثر، فقد اقترح عزالدين المناصرة (نص مفتوح عابر للأنواع) كـ(جنس ثالث مستقل) (13) بدلاً من قصيدة النثر، واستخدمت الدكتورة بشرى موسى صالح (قصيدة النص) عوضاً عن المصطلح القديم قصيدة النثر.(14)
وما يعنينا من المقترح الأول والاستخدام الثاني (البنية الرأسية) لكل منهما أكثر مما يعنينا الاختلاف معهما، لأن المقترح الأول يدفع بإشكالية التجنيس الهووي (من الهوية) إلى المزيد من الأشكلة الأجناسية والاستخدام الثاني يستبدل المصطلح القديم بمصطلح أكثر التباساً من حيث الأشكلة الاصطلاحية، وبذا فالنص في كلتا الحالتين يشكل مركز إشكالية البنية الرأسية لمفهوم القصيدة والجنس الأدبي.
أولاً: النص المفتوح
على الرغم من أن قصيدة النثر قائمة على إتحاد المتناقضات: (قصيدة/نثر)، فإن أحد أكثر الأسئلة إشكالية سؤال عز الدين المناصرة (هل هي جنس مستقل عابر للأنواع؟!) (15).
يمكن أن تكون قصيدة النثر (جنس مستقل)، ولكن كيف هو (عابر الأنواع)؟!
ولم يكتفِ المناصرة بالموجّه القرائي لهذا السؤال بوصفه مركز مدار الاستفتاء الميداني لإشكالية التجنيس الأدبي، وإنما بنى متن كتابه (إشكاليات قصيدة النثر) على العنوان الفرعي الآخر (نص مفتوح عابر للأنواع)، وبذا يبتدئ متن الكتاب من حيث ينتهي بآخر جملة تقرر ما يأتي: (قصيدة النثر-نص عابر للأنواع، أما كاتب النص، فنقترح له مصطلح-نصّاص). (16)
وإن كان عز الدين المناصرة، استند إلى مفهوم الكتابة المفتوحة، وبخاصة عند جماعة (تيل-كيل)، فإن ذلك يقود قصيدة النثر إلى متاهة مفتوحة.
وإن كان المناصرة قد استند إلى التداخل الإجناسي أو التركيب الإجناسي الخاطئ بين القصيدة والنثر (نص مفتوح) و (عابر للأنواع)، وإن كان قد استند إلى (النص المفتوح) فإن النص المفتوح يتهجّن بالترافد الإجناسي أو يتخصـّب بالتنافذ الإجناسي.
وعلى الرغم من أن الانفتاح في النص يقصد به الانفتاح اللغوي وليس الانفتاح الادلالي، فإن قصيدة اانثر قد تنزع إلى التعدد الدلالي، ولكن (حتى يتحقق للنص التعدد الدلالي، لابد أن يتخلص من أبوّته الداخلية التناصية وأبوّته الخارجية التأليفية) (17) غير أن القصيدة لا يمكن أن تتخلّص من أبوتها كجنس أدبي، حتى وإن كانت (قصيدة نص).
إذا المناصرة أراد أن يحل الإشكالية الإجناسية لقصيدة النثر بـ (نص مفتوح عابر للأنواع)، ولكن ألم يكن (النص المفتوح) جنساً هجيناً، بل ومنهجاً بنصوص أخرى؟
وبمعنى آخر: ألم يكن تدويل قصيدة النثر إلى (نص مفتوح) أكثر تعقيداُ لها من حيث المصطلح والدلالة والجنس؟
وبفرضية أكثر عمومية، فإن القبول باقتراح المناصرة بـ (نص مفتوح...) بدلاً من قصيدة النثر، يعني القبول بإفراغ قصيدة النثر من (نثر القصيدة)، أي إفراغها من خاصيتها التي تحدّد ماهيتها في ماهية لا خاصية محددة لها.
ويتضح لنا إن عز الدين المناصرة اعتمد في تدويل قصيدة النثر إلى (جنس عابر للأنواع) على جملة في مقدمة (لن) لأنسي الحاج الذي يقول فيها: (مرادنا إعطاء قصيدة النثر ما تستحق (صفة النوع المستقل)، فكما أن هناك رواية وحكاية وقصيدة وزن تقليدي ووزن حر (التفعيلة)-هناك قصيدة نثر) (18).
وتشكل هذه الجملة-السببية الأولى عن فكرة الجنس المستقل لقصيدة النثر، ويقوم المناصرة بتفسيرها على النحو الآتي:
(ومعنى ذلك أنسي الحاج لا يرفق فكرة (الجنس المستقل) أي قصيدة النثر، لأنه ذكر (الرواية والحكاية)، وليس معنى (الجنس المستقل)-أي قصيدة النثر-محو الشاعرية، ولكن ما أسميه (درجات الشاعرية) و(درجات النثرية) الموجودة في قصيدة النثر تجعلها (جنساً مستقلاً) خارج السرد وخارج الشعر مع احتفاظها بشاعريتها وهو إتحاد المتناقضات) (19).
إن إشكالية التجنيس الأدبي لقصيدة النثر تجاوزت أنسي الحاج سواء رفض فكرة الجنس المستقل أو لم يرفضها، إن لم نقل أنها إشكالية (أوروكية) أكبر من أن يحلها أنسي الحاج وغير النقدية العربية، وإلا لماذا لم تحل حتى في موطنها الأصلي (فرنسا)؟!
ولكننا نتفق مع هذه النية (بحثاَ) وليس (تفسيراً) على (أس) يمنح قصيدة النثر هوية إجناسية، وإن كانت هذه النية بحاجه إلى توجّه، فإن توجه المناصرة غير ذلك، لأنه يتعارض مع هذه النية بدلالة إخراج قصيدة النثر من مفهوم جنس القصيدة.
وإن كان أنسي الحاج طرح (صفة النوع المستقل)، فإن المناصرة عز الدين طرح (الجنس المستقل)، وقد ساوى منهما بين (النوع والجنس)، وكلاهما يدركان إن الجنس أشمل من النوع. (20)
ولكن كان بإمكان المناصرة إن يكتفي بفكرة تجنيس النثر كـ(جنس مستقل)، إلا أنه أشكل فكرة التجنيس بـ (النص المفتوح العابر للأنواع)، وبذا أشكل الحل الإجناسي الذي فقترحه، فالقصيدة جنس أدبي قد تـُـشكّـل بنية إطارية للنص، ولكن العكس غير صحيح، لهذا نقل المناصرة المعالجة الإجناسية من مستواها الإشكالي إلى مستوى إستشكالي جديد.
وقد تتيح قصيدة النثر-المجال لدخول أنواع متعددة من (المحتوى غير الشعري) (21) غير إن انفتاح القصيدة على (المحتوى غير الشعري) لا يجعلها تنتمي بالضرورة إلى (نص مفتوح عابر للأنواع)، وإنما تبقى تحتفظ بانتمائها الإجناسي إلى مفهوم القصيدة.
ثانياً: قصيدة النص
ألحقت الدكتورة بشرى موسى صالح (المشروع الكياني لقصيدة النثر العراقية) في التسعينات بـ (قصيدة النص عوضاً عن المصطلح القديم-قصيدة النثر (22)، في أن قصائد النثر في كُـتيـّب (الشعر العراقي الآن) (23) قصائد قصار، استثمرت عناصر المفارقة والسخرية والغرائبية والنكتة السوداء، غير إن (استثمار العنصر الكتابي أو سطح الورقة بتقنيات الكتابة المتباينة) (24) في البناء الشعري لم يتحقق في هذه القصائد القصار بصيغة الانفتاح، والانفتاح المعرفي، سواء على صعيد الشكل أو على صعيد اللغة.
وهناك فرق بين قصيدة النثر والنص المفتوح، (كما سنلاحظ ذلك في هذا السياق)، لكن يمكن التمثيل لتجربة النص المفتوح في الكتابة العراقية بـ (نشيد أوروك) لعدنان الصائغ و(نص النصوص) من (جوائز السنة الكبيسة) لرعد عبد القادر و(حية ودرج) لخزعلي الماجدي، وهي نصوص معرفية مفتوحة، قائمة على الترافد الإجناسي.
وإن كان النثر بنية وسيطة ذات أصداء متعددة بين قصيدة النثر والنص المفتوح، فما الفرق بين قصيدة النثر والنص المفتوح؟
من منظور أولي يمكن أن نتـبيـّن الفروق الآتية:
أولاً: تنتمي قصيدة النثر إلى مفهوم القصيدة، بينما بنتمي النص المفتوح إلى مفعوم الكتابة النصوصية.
ثانياً: إن قصيدة النثر لها شكل شعري، فيما النص المفتوح لا شكل محدد له، بل تتنافذ فيه أشكال أدبية عدة.
ثالثاً: تسعى قصيدة النثر لتكون جنساً مستقلاً بذاته، بينما يسعى النص المفتوح ليكون عابراً للأنواع والأجناس.
ولكل ذلك، قصيدة النثر جنس مستقل قائم بذاته، ومن الخطأ إلحاقه بتبعية النص، وخاصة النص المعرفي المفتوح للأنواع، لأنها تنتمي إلى مفهوم القصيدة، والقصيدة جنس أدبي بالأساس.
وندرك إن هذه الاجتهادات، وإن صدرت عن نيـّات وتوجهات نقدية جادة وجديدة لتجنيس قصيدة النثر، إلاّ أنها تدفع إلى لمزيد من الإشكاليات الإجناسية من دون حلول جذرية لها.
المصدر: سلسلة النقديات المعاصرة، الطلوع وسط انهيار اليقينيات، لندن، 2014.

هوامش
(1) صلاح أبو شريف /ما يُمعن في الخفاء/موقع العلم الثقافي في 14/أبريل/2009.
(2) صلاح أبو شريف /ما يُمعن في الخفاء/مرجع سابق.
(3) صبحي حديدي/قصيدة النثر في التنظير العربي الحديث/إشكالية التعريف الموسوعي/موقع جذور الثقافية/في 28/فبراير/2008.
(4) ادونيس/في قصيدة النثر/مجلة (شعر) اللبنانية/ع (14) ربيع 1960.
(5) ادونيس/قصيدة النثر في نصف قرن/جريدة الحياة-لندن في 1/1/2001.
لمزيد من التفصيل ينظر: عز الدين المناصرة/إشكاليات قصيدة النثر/نص مفتوح عابر للأنواع/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت-عمان/ط1/2002/ص34 وما يليها.
(6) عز الدين المناصرة/إشكاليات قصيدة النثر/مرجع سابق/ص57.
(7) حوار مع سركون بولص/مجلة نزوى/ع (6) إبريل/1996.
(8) ينتمي سركون بولص إلى (جماعة كركوك) في العراق، وقد ظهرت هذه المجموعة نهاية الستينات وبداية السبعينات، وتضم: فاضل العزاوي/سركون بولص/صلاح فائق/جان دمو.
(9) أمجد ناصر/القصيدة الملتبسة/جريدة القدس العربي في 19/5/2006.
ولابد من الإشارة إلى أن أمجد ناصر تحوّل من قصيدة التفعيلة إلى القصيدة الحرة، ومنها إلى قصيدة النثر، وقد دخل ميدان الكتابة أواخر الثمانينات، ولكنه ينتمي إلى جيل السبعينات.
(10) تقوم هذه الفرضية على ان الخاصية تحدد الماهية، وليس بالعكس.
(11) مارغوريت س. مورفي/قصيدة النثر وهستريا إليوت/ترجمة خالدة حامد/موقع إيلاف/موقع المجموعة المصرية للخدمات المالية في 16/آذار/2009.
(12) كاظم جهاد/فلسفة قصيدة النثر/جريدة السفير اللبنانية في 9/6/2006.
(13) عز الدين المناصرة/إشكاليات قصيدة النثر/مرجع سابق/532.
(14) د. بشرى موسى صالح/الملامح الأسلوبية المهيمنة في قصيدة النثر العراقية/ورقة مقدمة في الحلقة الدراسية لمهرجان المربد الشعري في بغداد.
(15) عز الدين المناصرة إشكاليات قصيدة النثر/الفصل الثالث (السؤال السادس) مرجع سابق/ص/236.
(16) عز الدين المناصرة/إشكاليات قصيدة النثر/ص/235.
(17) د. محمد عبد الرحمن مبروك/السيميائية في الدرس النقدي المعاصر عند رولان بارت/مجلة الجسرة الثقافية/ع (1) خريف 2001/ص 28.
(18) ينظر: عز الدين المناصرة/إشكاليات قصيدة النثر/مرجع سابق/ص/28.
(19) عز الدين المناصرة/إشكاليات قصيدة النثر/مرجع سابق/ص/54 وما يليها.
(20) نلاحظ بأن عز الدين المناصرة يخلط في آخر صفحة من كتابه إشكاليات قصيدة النثر/بين النوع والجنس، فيقول تارة (قصيدة النثر هي جنس مستقل) وتارة يقول (وإذا شئنا أيضاً التجنيس، فهي جنس أدبي ثالث مستقل) ص/532.
(21) ينظر: الفقرة رقم (4) من مقالة الكاتب الأمريكي بروك هورفث الموسومة بـ (لماذا قصيدة النثر) التي يشرح فيها خصائص قصيدة النثر عام 1992، وقد أوردها عز الدين المناصرة بوصفها أحد مستندات المقترح الذي نقدم به، أي (نص مفتوح عابر للأنواع).
ينظر إشكاليات قصيدة النثر/مرجع سابق/ص/60.
(22) د. بشرى موسى صالح الملامح الأسلوبية المهيمنة في قصيدة النثر العراقية/مرجع سابق.
(23) الشعر العراقي الآن/مجموعة مشتركة/صدرت عام 1998/فدّم لها: فرج حطاب وعباس اليوسفي.
(24) د. بشرى موسى صالح/الملامح الاسلوبية المهيمنة في قصيدة النثر العراقية/مرجع سابق.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى