خير جليس سعد عبد الرحمن - لمن له جلد على القراءة

مقالتي المطولة عن رجل لا يتذكره إلا قليلون بالرغم من أن له فضلا سابغا على أجيال وأجيال من الأدباء والمثقفين العرب بصفة عامة، والأدباء والمثقفين المصريين على وجه الخصوص، المقالة عن الأستاذ عمر عبد العزيز أمين مؤسس سلسلة "روايات الجيب" الشهيرة وغيرها من الدوريات الثقافية الرائدة.
المقالة منشورة بعدد شهر أكتوبر من مجلة "أدب ونقد" التي يرأس تحريرها الصديق الشاعر عيد عبد الحليم، اقرأوا وترحموا على هذه الشخصية الفذة :
عمر عبد العزيز أمين
مؤسسة ثقافية في إهاب مترجم
لدي في مكتبتي الخاصة أكثر من 90 رواية من سلسلة " روايات الجيب " يعود بعضها إلى عام 1936 بداية صدورها لأول مرة، وقد اقتنيت مجموعتي هذه من روايات الجيب في عقد السبعينيات إبان دراستي الثانوية والجامعية بمدينة أسيوط في صعيد مصر، وأغلبها اشتريته من باعة الكتب القديمة هناك وبعضها من سور الأزبكية القديم بالقاهرة .
تربى على هذه الروايات المترجمة البديعة العديد من أجيال الأدباء والمثقفين المصريين والعرب، ولكن أغلبهم مع الأسف يجحدون فضل تلك الروايات بل إن كثيرين منهم لا يتذكرون اسم صاحبها؛ ذلك الرجل الذي كان نشاطه في الترجمة والنشر - بالرغم من ضعف الإمكانات المتوافرة لديه كفرد - يفوق نشاط كثير من المؤسسات والهيئات الثقافية ( حكومية وغير حكومية ) .
نحن في الواقع مدينون لهذا الرجل الذي نبخسه حقه ونظلمه ظلما بينا إذا حسبناه مجرد مترجم قصارى ما نمدحه به أنه نقل مجموعة روايات من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، فهو في الحقيقة وبدون مبالغة مؤسسة ثقافية كاملة أتاحت لأجيال من المصريين والعرب في صباهم وشبابهم الباكر ما يتعذر وصفه من مباهج المتعة العقلية والوجدانية، لقد مكننا هذا المترجم المؤسسة من الإطلاع على زبدة ما أنتجته قرائح كبار أدباء العالم في الغرب والشرق من أعمال روائية بديعة؛ وبما قدمه من إسهامات صحفية في مجالات السينما والمسرح وثقافة الطفل، وكثير ممن سلكوا طريق الأدب لا سيما الأدب القصصي، وأصبحوا عندما نضجوا أدباء يشار إليهم بالبنان خطوا خطواتهم الأولى على ذلك الطريق اعتمادا على روايات الجيب أو تأثرا بها، كتب مثلا الروائي عبد الرحمن منيف في كتابه " سيرة مدينة " يقول: إن روايات الجيب كانت خبزا يوميا للكثيرين، ويعزو منيف أهم أسباب رواج روايات الجيب إلى أن القارئ كان في إمكانه أن يستبدل بالرواية المقروءة رواية أخرى نظير فارق بسيط من النقود، ويتحدث الروائي صنع الله إبراهيم في كتابه " يوميات الواحة " عن ذكرياته بخصوص روايات الجيب فيقول: كان والدي يشجعني على القراءة، ومن حظي وحظ جيلي من الكتاب أننا وجدنا أمامنا سلسلة أسبوعية تدعى " روايات الجيب " كانت تنشر ملخصات وافية لكافة أنواع الروايات العالمية من كلاسيكية إلى بوليسية وقد أسبغ عليها ناشرها ما تتميز به من أسلوب عصري بعيد عن التقعر وكتب الكاتب الصحفي صلاح عيسى يقول: إن روايات الجيب كانت أهم سلاسل الكتب في القرن الماضي، ويقول الكاتب الصحفي أنيس منصور في مقالة له بعنوان " الحب والدسيسة " عن روايات الجيب ": " قد نشأت وكل جيلي على روايات الجيب وكانت هذه الروايات تبهرنا بما فيها من أفكار غريبة وأجواء مثيرة " ويقول في موضع آخر : " عشت سنوات طويلة على روايات الجيب التي كانت تقدم ملخصات للأدب العالمي وكنت أقرأ كل ما أجد منها ولا يضايقني فيها إلا الأسماء الأجنبية ولكن هذه الروايات هي التي جعلت لدي عادة القراءة "، وفي مقالة أخرى بعنوان " عجزت عن حب هذا الرجل .. الرافعي " يقول أيضا: " وبسرعة وجدت في المكتبات روايات الجيب من ترجمة الاستاذ عمر عبد العزيز امين .. هذا هو الكنز الذي وقعت عليه ووقعت فيه، كل ادباء العالم الكبار باللغة العربية وفي كتب صغيرة وكثيرة، اهم من ذلك سهولة عبارتها وسرعتها "، وكتب الصحفي والروائي جمال الغيطاني في مقالة له بعنوان " قبس من البدايات " يحكي عن علاقته بروايات الجيب فقال: " إن روايات الجيب سلسلة هامة لعبت دورا كبيرافي تحقيق شعبية الرواية "، وأضاف أنه " كان يشتريها في الخمسينيات من باعة الكتب المستعملة على رصيف شارع الأزهر ودكاكين الوراقين في حي الجمالية ".
وقد كتب الباحث الدكتور أحمد حسين الطماوي في مقالة رائدة له عن عمر عبد العزيز أمين متحدثا عن بعض جوانب تأثير روايات الجيب في قرائها من الشباب ممن أصبحوا فيما بعد قصاصين وروائيين فقال: " وقد يكون من آثار روايات الجيب تأثيرها في عدد من القصاص والروائيين الذين نشأوا إبان صدورها وتغذوا على فنونها وأفادوا من خبرات مؤلفيها وتجاربهم في القص وتقنياتهم في الحوار والسرد وطريقة العرض والجمع بين الفكر والفن واستخدام بعض عناصر ما يسمى بالقص الحديث من منولوج وحلم ومناجاة واسترجاع وغير ذلك " .
هذا الرجل المؤسسة هو عمر عبد العزيز أمين الذي قيل إنه ولد في القاهرة وقيل أيضا إنه ولد في قرية "سفط العنب" التابعة لمركز كوم حمادة بمحافظة البحيرة ( حيث جذوره الأسرية ) عام 1908، ولكن بواكير نشاطه الثقافي تجعلنا نرجح أنه ولد ما بين عامي 1898 و 1900 وليس عام 1908 كما قيل، ودليلنا على ذلك ما ورد في ص 519 من "مدونة أحداث العالم العربي ووقائعه خلال الفترة من عام 1800 حتى 1950" للأمير شكيب أرسلان عن الصحافة في العالم العربي فقد ذكر الأمير شكيب في قائمة الدوريات المصرية الصادرة عام 1921 مجلة بعنوان " الفكاهات المصورة " لصاحبها عمر عبد العزيز أمين، فالقول بأنه من مواليد 1908 كما كتب بعضهم يعني أنه أصدر المجلة وهو في الثالثة عشرة من عمره وهذا أمر غير معقول البتة.
وبعد حصول عمر على الشهادة الابتدائية التحق بمدرسة الفنون والصنايع ثم سافر في بعثة إلى لندن لدراسة شؤون البريد ولما عاد عين بمصلحة البريد موظفا ثم أمينا لمتحفها، وترقى في سلك الوظيفة حتى إنه أصبح بحسب بعض الروايات مديرا عاما، وقد ظل يعمل بالبريد حتى عام 1936 .
كان عمر عبد العزيز أمين منذ نعومة أظفاره يهوى الأدب شعرا ونثرا وله محاولات شعرية لا بأس بها وبعض تلك المحاولات وجدت طريقها إلى النشر في الصحف ولكنها قليلة (له على سبيل المثال قصيدة منشورة بجريدة " الصدق " التي كانت تصدر في مدينة دمنهور عاصمة البحيرة عام 1936 بعنوان: لشباب مصر ) ويبدو أنه أقلع عن الاستمرار في كتابة الشعر مبكرا أو أنه انشغل عن نشر محاولاته بالانخراط في إعداد وتنفيذ مشروعه الثقافي الخاص، أتقن عمر اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة وتحدثا، وبفضل هوايته للأدب واتقانه للغة الإنجليزية التي لقنها في المدرسة ونماها وصقلها مدة بعثته بإنجلترا بدأ نشاطه الثقافي بصفة عامة والترجمة بصفة خاصة وهو في بواكير الشباب، وقد ترجم في تلك السن الباكرة من عمره خمس روايات، كما أشارت مجلة " الممثل " في عددي نوفمبر وديسمبر عام 1926 إلى أنه ترجم ثلاث مسرحيات وذكرت المجلة أسماءها، وفي نفس العام كان قد انضم إلى هيئة تحرير مجلة " ألف صنف " التي بدأ يصدرها الكاتب المسرحي والزجال الشهير بديع خيري في ديسمبر 1925، وكان مسؤولا عن قسم الترجمة فيها، وفي نفس الفترة وبالتحديد عام 1927 عقد شراكة مع إبراهيم جللة صاحب مطبعة اسمها " مطبعة التقدم الحديثة " ومقرها بحارة أبو الشوارب في شارع محمد علي و ترجم من خلال تلك الشراكة عدة أعمال روائية ومسرحية مثل: ( الدكتور جايكل والمستر هايد أو الاثنين في واحد ) لروبرت لويس ستيفنسون وٱلام فرتر ليوهان فولفجانج جوته وكريولانوس لوليم شيكسبير واليهودي التائه ليوجين سو، وحين توقفت مجلة " ألف صنف " التحق بجريدة " الجهاد " التي راح يصدرها الصحفي والخطيب السياسي المفوه محمد توفيق دياب بدءا من سبتمبر عام 1930 .
وفي عام 1933 ألف عمر بالاشتراك مع إبراهيم أفندي جرجس كتابا بعنوان " تاريخ البريد " وأصدراه بمناسبة انعقاد الدورة العاشرة من المؤتمر الدولي للبريد بالقاهرة، وفي عام 1936 اتخذ عمر عبد العزيز أمين قرارين مهمين فيما يختص بحياته بصفة عامة ونشاطه في الترجمة والنشر بصفة خاصة أولهما كان التخلي عن الوظيفة الحكومية فقد استقال منها و تحرر من ربقتها والثاني فض شراكته مع صاحب مطبعة التقدم الحديثة عندما تأكد له أن تلك الشراكة صفقة هو المغبون فيها ، فض الشراكة ليؤسس منفردا "مطبعة الجيب" التي راح يصدر من خلالها سلسلة " روايات الجيب " الأسبوعية وكان هو رئيس تحرير السلسلة المسؤول إلا أنه أسند رئاسة تحريرها في بعض سنوات صدورها إلى غيره مثل محيي الدين فرحات، وكانت صاحبة امتيازها م .أمين التي يبدو أنها زوجته أو ربما اخته وكانت السلسلة تتلقى مراسلاتها على صندوق بريد خاص بها رقم 208 بالقاهرة كما كانت تتلقى مكالمات زبائنها على خطين لرقم تليفونها 44301، أما بخصوص التوزيع فقد كانت أعداد السلسلة في سنواتها الأولى تطلب من جميع باعة الصحف والمجلات ومتعهدها في جميع أنحاء القطر آنذاك كان حضرة ماهر أفندي فراج ومحله رقم 12 بشارع سيدي عبد الرازق الوفائي بالإسكندرية؛ كما كانت تطلب من المكتب العام لمتعهدي الصحف بشارع البورصة في القاهرة وكانت السلسلة توزع خارج مصر ومتعهد توزيعها في جميع أنحاء الشرق العربي شركة فرج الله للسياحات ومقرها بشارع إبراهيم باشا، وقد ترجم عمر عبد العزيز أمين الكثير من الروايات في تلك السلسلة إبان إصدارها الأول والثاني مثل: غادة الكاميليا لإسكندر ديماس الابن ونانا لإميل زولا، وباردليس وصوت الشعب والخيانة العظمى والقرصان وعودة القرصان وسكاراموش لرفائيل ساباتيني، والبؤساء وأحدب نوتردام لفيكتور هوجو، والبعث لتولستوي، وذهب مع الريح لمرجريت ميتشل، وأحزان الشيطان وجريمة غرام والآباء والأبناء والانتقام الهائل لماري كوريللي و أبناء الظلام لوليم ليكيه ووجه من الماضي والوصية المفقودة وذات الوجهين وغانية باريس والطائرة المفقودة وجريمة قتل وجنون الانتقام والحادث والليل الطويل وجريمة عائلية والشيطان امرأة والجريمة المعقدة ونادي الجريمة والقصر الرهيب وقتيل شارع بركستون وشاهدة إثبات ونقطة الدم واللغز المثير والضحية ورجل بلا وجه وجريمة في الجو والفخ والقاتل الرابع وخاتمة المأساة والطيور السوداء والمصيدة والجثة الثانية والجريمة الأخيرة والحصان الشاحب لأجاثا كريستي، والمتهمة لألكسندر ميسون، والشيطان يموت مرتين لإيان فليمنج، والراهبة والتلميذ لجان بابتيست روسي، والخطايا السبع لأوسكار وايلد، والشقيقان م.أ.سترونج، والطريد أنتوني أدفيرس لهيرفي ألن، وفرانكنشتاين لماري شيليو، وانتقام أرسين لوبين وسارق الملايين وجواهر التاج وعدو النساء وينبوع الذهب وأرسين لوبين في موسكو لموريس لبلان، وزوربا اليوناني لنيكوس كازانتزاكيس، والخاطئة لماري ويب، وولدي ولدي لهوارد سبرنج، وأنا كارنينا لليو تولستوي، والجريمة والعقاب لدستويفسكي، والأرض الطيبة لبيرل باك، ونفوس معقدة لروبرت بلوخ، وماجدولين لألفونس كار، ووداعا أيها الحزن لفرانسواز ساجان، وصغيري لجيبور فازاراي، وكينجز مارك لبيير بنوا، ومانون ليسكو للأب بريفو، وبيكيت لشيللي ميدانس، وعاصفة في الجنة لستيفان زفايج، وغيرها كثير، وباكورة إنتاج السلسلة كانت رواية " أرسين لوبين .. بوليس سري "، ومما هو جدير بالذكر أن أغلب عناوين تلك الروايات ليست العناوين الأصلية التي وضعها مؤلفوها وإنما هي عناوين من صياغة المترجم وكانت العناوين تنحو في الروايات البوليسية وروايات المغامرات على وجه الخصوص نحو الإثارة لجذب انتباه القراء، ولأن السلسلة كانت تصدر في الاغلب الأعم صباح يوم محدد من كل أسبوع ( كان في البداية الأحد ثم تغير في الإصدار الثاني إلى السبت ) فلكي يحافظ على انتظام صدورها الأسبوعي استعان بمترجمين آخرين لهم باعهم الطويل في ترجمة
الروايات مثل شفيق أسعد فريد وإسماعيل كامل وحسن محمد أحمد ومحمد كامل حسن وكامل داود وخليل صادق وشمس الدين الغرياني وعباس حافظ ومحمد كامل المحامي والسيد محمد طلعت أمين وإبراهيم موسى وحسن عويس ومحمد عبد المعطي الهمشري ( الشاعر الرومانسي المعروف ) وعبد المنعم حسين جلال وأحمد محمود ذهني ومحمد بدر الدين خليل وعبد المنعم حسين جلال وأحمد إبراهيم وفهيم نجيب وأحمد عبد القادر المازني ( الأخ الشقيق للكاتب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني ) وعبد الفتاح البكري وآخرين غيرهم، وبعض الروايات في السلسلة كانت تصدر كأعداد خاصة ويتجاوز عدد صفحاتها في بعض الأحيان مائتي صفحة وكان يكتب على صفحة الغلاف الأمامية للرواية ( عدد ممتاز )، وكانت السلسلة تعلن على صفحة الغلاف الخلفية وداخل الرواية أحيانا عن العدد القادم من رواياتها ببيانات كاملة، أما ما سيصدر قريبا فكانت تكتفي فقط بذكر العنوان، كما كانت تنشر أحيانا داخل بعض أعدادها قائمة بعناوين ما سبق صدوره من روايات في السلسلة، وزود عمر عبد العزيز امين بعض الروايات في صفحاتها الداخلية بصور أبيض واسود أو بصور مطبوعة بطريقة الروتوغرافور وهو نوع من الطباعة البارزة بخلاف طباعة الأوفست الملساء أو المسطحة ( رواية الخيانة العظمى لرفاييل ساباتيني على سبيل المثال، وقد كتب على صفحة غلافها الأمامية: عدد ممتاز - 234 صفحة - 8 صور بالروتوغرافور )، وقد حظيت بعض الروايات بصور ملونة كما في العدد الحادي عشر من السلسلة الصادر في 12 سبتمبر 1936 ( رواية البرنس أرسين لوبين )، وغير قليل من الأفلام العربية إبان الأربعينيات والخمسينيات كانت تقتبس أو تستلهم قصصها من روايات الجيب لكن دون إشارة إلى ذلك مع الأسف، وكان العدد الواحد من السلسلة يباع بعشرة مليمات أي قرش صاغ واحد ارتفع بعد عدة سنوات إلى 15 مليما ثم 20 مليما ثم ثلاثين مليما ثم 50 مليما وهكذا واعتمدت السلسلة نظام الاشتراكات السنوية وقيمة الاشتراك السنوي في 52 عددا ( مجموع ما يصدر من روايات السلسلة في السنة ) كانت 40 قرشا ( أي أن هناك تخفيضا للمشتركين سنويا ) وذلك في سنيها الأولى واتاحت المجلة أمام الراغبين في الاشتراك السنوي فرصة دفع الاشتراك ( في داخل القطر المصري والسودان فقط ) على أربعة أقساط، وتدفع الاشتراكات في شكل أذون أو طوابع بريدية ترسل على عنوان دار الجيب باسم مدير السلسلة؛ وتنوعت مصادر تمويل السلسلة لكن أهم المصادر كانت الاشتراكات والإعلانات التجارية التي كان منها المميز وهي الإعلانات التجارية الملونة التي توضع في الغالب على صفحة الغلاف الأخيرة و منها غير المميزة أو العادية التي توضع في الصفحات الداخلية للرواية إما على صفحات مستقلة أو على جزء من الصفحة المكتوبة، وبالإضافة إلى الإعلانات المميزة والعادية كانت هناك الإعلانات القضائية ومكانها دائما في نهاية الرواية، وكان يكتب على صفحة الغلاف الخلفية للروايات أحيانا عبارة ( هذه المجلة مقررة لنشر الإعلانات القضائية )، ولجذب المزيد من متابعي أعداد السلسلة وقرائها كانت السلسلة تنشر بالصفحات الأخيرة من بعض أعدادها أحيانا برامج الإذاعة اللاسلكية المصرية لمدة أسبوع وفي أحيان قليلة جدا بل نادرة كان عمر يطبع روايات الجيب في مطابع أخرى كما فعل في روايتي ينبوع الذهب وغرام أرسين لوبين اللتين طبعتا في مطبعة دار الترقي بشارع الساحة؛ وكما فعل في رواية البرنس أرسين لوبين التي طبعت بالمطبعة المتوسظة لصاحبها عبده عبد العاطي بأول شارع الساحة أيضا .
واتجاه الترجمة العام في روايات الجيب كان عبارة عن مزيج من الترجمة الحرفية والترجمة بتصرف ويغلب على أسلوب الترجمة الميل إلى البساطة في الجملة وتجنب التراكيب الصعبة والمفردات المهجورة ( قارن مثلا بين ترجمة الشاعر حافظ إبراهيم لرواية البؤساء لفيكتور هوجو وترجمة عمر عبد العزيز أمين لنفس الرواية ) وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية في ذيوع روايات الجيب وانتشارها بين أوساط القراء بصفة عامة والعاديين منهم بصفة خاصة، وكانت الترجمة في السلسلة تميل إلى الحرفية أكثر عندما يكون الأمر متعلقا بالروايات التي قررتها وزارة المعارف على طلاب مدارسها في مرحلة البكالوريا ( التوجيهية )، وقد بلغ عدد الروايات التي صدرت في سلسلة "روايات الجيب " أكثر من ثمانمئة رواية ( على صفحة الغلاف الخلفية لرواية سكاراموش لرفائيل ساباتيني ومن ترجمته والصادرة في 19 مارس 1950 كتب أنها العدد رقم 751 ) كثير منها روايات بوليسية ومغامرات وغير قليل منها أعمال أدبية رفيعة المستوى لأساطين الرواية في الغرب والشرق .
ولما حققت روايات الجيب نجاحا كبيرا وانتشارا وذيوعا غير مسبوقين شجع ذلك عمر عبد العزيز أمين على التوسع في مشروعه الثقافي فأسس دار الجيب للطباعة والنشر في 19 ش الكنيسة الأرمنية المتفرع من شارع فاروق ( الجيش حاليا )، ومن خلال دار الجيب أصدر عمر عام 1945 مجلة أسماها " مسامرات الجيب " أسند رئاسة تحريرها إلى أبو الخير نجيب، وكانت مجلة جامعة مصورة ذات طابع سياسي ومن ثم فقد كانت تتناول بالعرض والنقاش والتحليل الأحداث السياسية المحلية والإقليمية والدولية وكانت تنشر إلى جانب الموضوعات السياسية نماذج من الشعر والقصة وكذلك مقالات أدبية متنوعة، وقد استكتب عمر في المجلة كوكبة من كبار الكتاب والمترجمين في ذلك الوقت كعباس محمود العقاد ود. طه حسين وإبراهيم عبد القادر المازني ود. سليم حسن ود. زكي مبارك ود. محمد مندور والشاعرين علي محمود طه وإبراهيم ناجي ود. يحيى الخشاب ود. أحمد فؤاد الأهواني ومحمود تيمور، ومن شباب الكتاب آنذاك يوسف السباعي وإبراهيم الورداني وعبد المنعم الصاوي و غيرهم، وظلت المجلة تصدر بانتظام حتي احتجبت في مارس 1951 .
وأصدر في سبتمبر عام 1946 مجلة " البلبل " للأطفال وأسند رئاسة تحريرها إلى السيدة إجلال حافظ، وكانت صفحات المجلة كلها باللونين الأبيض والأسود عدا صفحتي الغلاف فقد كانتا بالألوان، وعلى صفحة الغلاف الأمامية كنت تقرأ تحت العنوان هذه الجملة ( المجلة التي تسليك و تنفعك )، وكانت المجلة تنشر قصصا مصورة للأطفال وأغلبها مترجم عن لوريل وهاردي وطرزان وغيرها من الشخصيات الكارتونية كما كانت تنشر أخبارا عن المدارس والرياضة والفن ومسابقات لاختبار ذكاء الأطفال يمنح الفائزون فيها جوائز ترسل إليهم على عناوين مدارسهم، وقد خصصت المجلة ركنا دائما لمراسلات قرائها من الأطفال وركنا آخر فكاهيا بعنوان ( اضحك ) تنشر فيه مساهمات الأطفال الفكاهية وقرين المساهمة كان يسجل اسم الطفل ولسم مدرسته أو اسم مدينته، ثمن العدد من مجلة البلبل قرش صاغ واحد ( عشرة مليمات )، لكن بالرغم من نجاح المجلة لم تعمر مع الأسف طويلا .
كما أصدر عمر أواخر عام 1947 ( بالتحديد في 6 أغسطس ) مجلة " الاستوديو "، أصدرها بالاشتراك مع الفنان يوسف وهبي وتولى رئاسة تحريرها هو وآخرون كعثمان العنتبلي وعبد الفتاح القشاش، كانت " الاستوديو" مجلة ثقافية فنية تهتم بشؤون السينما والمسرح على وجه التحديد وكذلك الموسيقى والرقص والفنون التشكيلية لاسيما فن النحت الذي كانت تنشر صور بعض أعمال رموزه المصرية المعروفة كجمال السجيني وأحمد عثمان وغيرهما، واستكتب عمر فيها بعض مشاهير نجوم السينما فعلى سبيل المثال كانت الراقصة الشهيرة تحية كاريوكا تحرر فيها بابا يناقش مشكلات الشباب لاسيما مشكلات الحب والزواج بعنوان " مشكلتك هذا الأسبوع "، هذا فضلا عن أحاديث صحفية مع مشاهير الفنانين والفنانات و حكايات شائقة عنهم ومقالات عن كبار الفنانين التشكيليين، وكان من كتابها د. محمود حفني وزكريا الحجاوي وعبد العزيز سلام وإبراهيم الورداني ووديع فلسطين وحسن إمام عمر وكمال النجمي وآخرون، وقد شاركت المجلة في مهرجان الاحتفال بالعيد الفضي للسينما المصرية وقد صدر من المجلة بهذا الشأن في فبراير 1951 عدد خاص تناول مسيرة فن السينما في مصر خلال ربع قرن، وظلت مجلة الاستوديو تصدر بانتظام حتى توقفت أواخر عام 1951.
أصدر عمر عبد العزيز أمين عام 1948 أيضا مجلة فكاهية أسبوعية مصورة بعنوان " اضحك " كانت مجلة فاخرة الطباعة ذات مستوى فني رفيع وتصدر في 36 صفحة بالألوان و سعر العدد منها 20 مليما أي قرشان صاغ و كانت المجلة تزخر بالرسوم الكاريكاتورية التي كان يرسمها الفنان رمزي لبيب كما كانت تزخر بالنكات والأزجال الساخرة والحكايات الفكاهية والنوادر والدعابات وكان رئيس تحريرها أبو السعود الإبياري وكان نائب رئيس تحريرها الكاتب الساخر عبد الله أحمد عبد الله الشهير بميكي ماوس ومن كتابها أنور عبد الله وجليل البنداري وفتحي قورة والزجال أبو بثينة والكاتب الساخر صاحب ( التفاحة والجمجمة ) محمد عفيفي الذي كان ينشر في كل عدد من أعدادها نوادر وطرائف مترجمة، ولكن عمر هذه المجلة كان قصيرا فلم تتجاوز في الصدور عام 1949 ولكنه عاد إلى إصدارها مرة أخرى في عقد الستينيات ولكن بشكل شهري.
كسب عمر عبد العزيز أمين أموالا جمة وأثرى من وراء سلسلة روايات الجيب ولكنه صرف معظم ما كسبه على مشروعاته الثقافية الأخرى فلم يكن المال قط هو غايته، لذلك حين أحدقت به المشاكل المالية وضيقت عليه الخناق توقفت تلك الإصدارات تباعا، ولقد تعثرت " روايات الجيب " بعد خمس عشرة سنة من الصدور الأسبوعي ( كانت تصدر مرتين أسبوعيا في بعض الاحايين ) بدون انقطاع حتى توقفت عام 1951 ثم عاد إلى إصدارها بعد سنوات قليلة في ثوب مختلف إذ إنه غير حجمها من القطع المتوسط إلى القطع الصغير وكانت في سنواتها الأخيرة تطبع في المطابع التجارية لجريدة الأهرام .
وحين أفلس عمر أو بتعبير أدق أشرف على الإفلاس ولم تعد مهنة الترجمة والنشر كافية لتوفر له حياة كريمة لم يجد بدا من الالتحاق بوظيفة حكومية يتعيش منها بعد تخليه عنها طوعا لعقدين من السنوات تقريبا، فعمل بجريدة الجمهورية في العام الثاني من إصدارها عام 1955، وعندما بدأت تصدر سلسلة " روايات عالمية " في أواخر الخمسينيات عن الدار القومية للطباعة والنشر ( الهيئة العامة للكتاب بعد ذلك ) التابعة لوزارة الثقافة اختير للعمل مستشارا للدار وغدا بالطبع ضمن هيئة الإشراف على السلسلة، ولكن كانت الروايات العالمية تصدر في الأغلب الأعم مع الأسف مغفلة اسم مترجم الرواية وكأن الترجمة عمل هين والرواية المترجمة عمل لا يستحق نسبته إلى صاحبه على خلاف ما كان يفعله عمر عبد العزيز أمين في سلسلته الرائدة فقد كان حريصا على كتابة اسم مترجم الرواية بوضوح على صفحة الغلاف الداخلية تحت اسم المؤلف، وقد أصدر عام 1959 كتابا من تأليفه بعنوان " الثورة الروسية " التي كان فيما يبدو معجبا بها وكان هذا آخر إنتاج فكري له وقد سبقه بكتاب ألفه بالاشتراك مع إبراهيم العشماوي عن فضائح الملك المخلوع فاروق وكان بعنوان " غراميات ملك .. مباذل الملك السابق فاروق " .. كما أصدر في أوائل الستينيات عن طريق دار نشر اسمها " دار الكتاب الجديد " عدة روايات منها: جريمة بلا عقاب لأجاثا كريستي، ولوليتا لفلاديمير نابوكوف، وقد ظلت روايات الجيب تصدر في قطعها الصغير وعلي الهامش من جهة اليمين لصفحة غلافها الخلفي اسمه كرئيس التحرير المسؤول حتى منتصف الثمانينيات تقريبا وكان أغلب إصداراتها إعادة لما سبق إصداره من قبل، كما أصدر سلسلة " الروايات المصورة " التي قدم فيها مجموعة روايات مصورة من روائع الأدب العالمي كان العدد الأول منها رواية " البؤساء " لفيكتور هوجو وتلتها رواية الفرسان الثلاثة لإسكندر دوماس، وأحدب نوتردام لفيكتور هوجو وغيرها، ولكن مما هو جدير بالذكر أنني لم يتسن لي تحديد زمن صدور تلك السلسلة على وجه اليقين، كما لم يتسن لي أيضا تأكيد علاقة عمر عبد العزيز أمين بمجلات الكوميكس المترجمة مثل سوبرمان والوطواط والعنكبوت وغيرها التي أشارت إليها مدونة طارق دريم بتاريخ 26 يناير 2013 وقالت - ترجيحا لا تحقيقا - إنها ظهرت ما بين عامي 1979 و 1983، هل هي علاقة مترجم بالشركات التي كانت تصدر تلك المجلات فحسب أم كان لدار الجيب دور في إصدارها ترجمة وطباعة ونشرا؟ إن ما حيرني فعلا بهذا الخصوص هو أن مجلة سوبرمان وأنا طفل بالمرحلة الابتدائية في منتصف الستينيات كانت تصلنا في القرية بريف الصعيد مع بائع الجرائد وكنت أستعير بعض أعدادها من زميل لي أبوه الموسر كان يشتريها له؛ فما علاقة "مجلة سوبرمان" التي كانت تصدر في ذلك الزمان بمجلة سوبرمان التي كانت تصدر في أوائل الثمانينيات؟ وما علاقة المجلة في إصداريها الأول والثاني بعمر عبد العزيز أمين؟ إن ما زادني حيرة على حيرة أني قرأت على صفحة الغلاف الأمامية لبعض مجلدات سوبرمان التي أعادت طباعتها إحدى دور النشر اللبنانية في منتصف التسعينيات هي "دار مكتبة التربية" عبارة " ترجمة عمر عبد العزيز " بدون الاسم الثالث " أمين " فهل من المحتمل في ظل غياب القرائن الأخرى أو بتعبير أدق اضطرابها أن يكون عمر عبد العزيز شخصا آخر غير مترجمنا الرائد عمر عبد العزيز أمين أم أنه هو نفسه؟ على أية حال أنا لا أستبعد اقتحام عمر عبد العزيز أمين عالم مجلات الكوميكس فهذا الرجل العجيب لم يكن مجرد مترجم بل كما سبق أن أشرنا " مؤسسة ثقافية كاملة " حقيقة لا مجازا، وقد ظل يواصل نشاطه في الترجمة والنشر دون ضجيج أو طنطنة حتى منتصف الثمانينيات تقريبا ثم أخذت همة هذا الرجل المؤسسة تفتر وتخور حين أوهنت قواه الشيخوخة وانحسرت عنه الأضواء، وفي شهر ديسمبر عام 1986 لبى نداء خالقه فرحمة الله عليه .
يبقى بعد أن نقول بكل تأكيد ودون أن يكون كلامنا مبالغة أو حتى من قبيل المبالغة إن تجربة عمر عبد العزيز أمين في الترجمة جديرة بالبحث والدراسة وتستحق أن تكون موضوعا لأطروحات أكاديمية للماجستير أو الدكتوراه أو محورا من المحاور الرئيسية التي تدور حولها مؤتمرات وندوات الترجمة في الجامعة ومؤسسات وزارة الثقافة المعنية بالترجمة، فمن غير المعقول أن تحظى تجارب محدودة أو قليلة القيمة لبعض المترجمين بحفاوة بالغة وتقدير أكثر مما تستحق بينما تقبع تجربة ثرية وعريضة كتجربة عمر عبد العزيز أمين في غياهب النسيان، ويبقى ايضا أن نقول: إن عمر عبد العزيز أمين الذي ما زالت ترجماته تطبع في جميع أنحاء الوطن العربي وأحيانا من غير أن تحمل اسمه دون حسيب أو رقيب قمين بكل تكريم واسمه حري بأن يطلق على الشوارع والميادين أو المدارس أو قاعات الدرس والندوات أو مدرجات المحاضرات في كليات الألسن وأقسام الترجمة والصحافة بكليات الإعلام والآداب فقد أفنى هذا " الرجل المؤسسة " جل عمره منذ بواكير شبابه حتى رحيله عن دنيانا في سبيل تثقيف الناس وإسعادهم، وقد غرست سلسلته الرائدة " روايات الجيب " في أجيال عديدة من شباب المصريين والعرب حب القراءة والرغبة في تحصيل المعرفة، وقد منح عمر عبد العزيز أمين أقلاما كثيرة فرصة أن يخوضوا معترك الترجمة ويبرعوا فيها، كما أتاح لمواهب أدبية كثيرة فرصة التفتح والنضج على صفحات مجلاته الرائدة .



1610476669813.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى