اللوحة 1
شغّل (الكافيتيير) بعد أن وضع البنّ والماء . منذ مدة لم يتذوّق القهوة داخل البيت في الليل . بعد ساعات قليلة سيودع العالم سنة خيم عليها شبح كورونا ناشرا الخوف والموت والحزن والخراب . رائحة البنّ تملأ المكان . صَبّ القهوة في الفنجان ، ووضع بجانبه في (البلاتو) قليلا من المكسرات ، وعاد إلى مكتبه . هذه الأيام لا يفكر إلا في التطبيع ، وما خلقه في نفسه من هواجس . شعر بالبرد يتسلل إلى ساقيه ، فأخذته رعشة خفيفة ، كمن استيقظ على غفلة من حلم لا يرغب في متابعته .
اللوحة 2
قال الصوت الأول :
ـ هؤلاء السياسيون لا يشبهون بقية الناس . يقولون الكلام الكبير ، ويفعلون عكسه ، ورغم ذلك لا يخجلون . في الحقيقة أخشى أن يضعوا البلد على كف عفريت .
رد الصوت الثاني :
ـ دائما تذهب بك الظنون إلى أسوء الاحتمالات ، وهذه عادة لا أدري إن كانت سيئة أم لا ، ورثتها عن لعب الشطرنج .
علق الصوت الأول :
ـ نعم في بعض الأحيان تصدق الظنون ، فالساسة اليوم يتقلبون مثل الحِرباء ، يبيعون القرد ، ويضحكون على من اشتراه .
اللوحة 3
تدخل صوت ثالث :
ـ يعجبكما أو لا يعجبكما سيان ! من أنتما ؟ وماذا تمثلان ؟ أنتما مجرد تركيب غريب من نصف مواطن ونصف رعية ، تعيشان على الهامش ، لا أحد يأخذ برأيكما ، فلماذا تُحمّلان نفسسيكما كل هذه الأوزار ؟
اللوحة 4
تظاهر الصوت الثاني بتجاهل الصوت الثالث وتابع :
ـ موقف المغاربة من التطبيع ليس موضوع إجماع مثل القضية الوطنية :
البعض قلبه على الأقصى أكثر مما هو على المغرب ، وقد يخسر الاثنين . والبعض خائف على مصالحه ، والبعض قلبه على شعاراته ، وجزء كبير مغلوب على أمره ، يلوذ بالصمت ، يحلم بالرفاهية ، ومستعد لبيع أي شيء من أجل الخبز والجنس والسيارة و(المالبورو) .
عندما تسأل الشيخ غوغل عن الشعب الذي يبكي ويضحك في نفس الوقت سيجيبك بدون تردد !
لكن من يخاف على مستقبل البلد ؟
اللوحة 5
توقف الصوت الأول قليلا لالتقاط أنفاسه ، ورد :
قلنا الصحراء مغربية . بعد سنوات طويلة قالت أمريكا الصحراء مغربية ، فقالوا : القول ما قالت أمريكا . ماذا سنقول غدا لو قالت أمريكا إن المغرب أرض يهودية ؟
رد الصوت الثاني وهو يُسدي نصيحة للصوت الأول :
ـ والله لو بقيت تفكر بهذا المنطق ، ستُصاب بالجنون ، وعندها لن ينفعك أحد . عاشر المسلمون اليهود في المغرب قرونا طويلة ، ويعرفون بعضهم جيدا . المهم أن تكون مغربيا واترك هذه التخوفات جانبا . التاريخ يشهد بأننا شعب يتقن السباحة في الأمواج العاتية .
اللوحة 6
يبدو أن الصوت الأول لم يتخلص من خوفه بعد ، فتابع :
ـ لو أراد اليهود المغاربة العودة إلى المغرب والتعايش مع أهله من غير أطماع أو عنصرية لما كان هناك مشكل من الأساس . ولو ساعدوا في نقل التكنولوجيا إلى البلد لأضفوا مصداقية على حسن نواياهم ، وازدادت ثقة الناس بهم ، واقتسموا معهم الملح والطعام ، ونسوا كل الضغائن والأحقاد .
الكثير منا لا يعرف السباحة مع منطق العصابات ، الذي يستخدمه الغرب بقيادة أمريكا في سياسته الخارجية . فهو لا يمتثل لأي قانون خارج منطقته ، وإذا أراد شيئا أخذه بالقوة والغصب ، وفي حالة الامتناع والمقاومة يخرب البلد على من فيه . الله يحفظنا مما وقع في العراق وليبيا وسوريا واليمن .
رد الصوت الرابع
والله من يستمع إليكما تتحدثان بهذه الحرارة ، يعتقد بأنكما تخافان على تجارتكما وممتلكاتكما من الضيعات والعقارات والشركات ! لو كنت مكانكما لاستحييت . إذا انهار النظام ، وانقلب أعلى البلد على أسفله ، فماذا سيخسر البؤساء مثلكما غير قيودهما ؟
اللوحة 7
أخذ الصوت الأول رشفة من الكأس ، وأحس بمذاق البن مرا في فمه ، حاول التظاهر بعدم الانتباه ، فلم يستطع وكاد يصرخ :
ـ نحن البسطاء من الناس ملح الوطن . نملك الذكريات ، نملك الهوية .
ملكنا شجرة التوت بالقرب من الجبل الأخضر التي ترددنا عليها ونحن أطفال ، نربي دودة القز ، ونحلم بإنتاج الحرير .
ملكنا طريق الملاح التي مشينا فيها بحرية وفرح لشراء حلوى الكوك والباليفي .
ملكنا حديقة مولاي عبد السلام التي جئناها من بعيد لقطف ثمار الخروب من الشجر المحاذي للمسبح البلدي .
ملكنا ورقة السينما ، ووقفنا في صف طويل ، ننتظر لحظة الدخول إلى القاعة . نصفر ونصرخ بصوت عال ردا على صوت نسمعه ، ولا نعرف صاحبه :
ـ وقالت لك أمك خذ الخبر إلى الفران .
نتحدث مع الممثلين ، ونحذر البطل من خصمه المختفي خلف الجدار شاهرا بندقيته ، ونتحرش بالممثلات ، فنطلب من البنت البطلة ، أن ترفع الثوب قليلا عن ساقيها .
ملكنا ساحة جامع الفنا ، وأصوات صانعي الفرجة والدراويش والمتسولين التي لازالت ترن في آذاننا .
ملكنا كل دروب وأزقة المدن القديمة . ملكنا من الشقاوة ما جعلنا نجري خلف أبله ، أو يجري خلفنا . ملكنا ثمار البلح ، وأشجار النخيل المحيطة بأسوار المدن ، والمدارس التي احتضنت طيشنا وشغبنا ، وذكرى (الرابوز)* ودواء القمل ، وصورة بائع الحلوى بشاربه الكث الكبير ، وقامته القوية الفارعة ، وهو يردد بصوته الجهوري الذي يخطف القلوب : (جبان كُلْ وبان)
ملكنا البحر والسماء والشمس وجبال الأطلس والأنهار والوديان وسمك السردين ، وصوت الآذان في كل هذه الصوامع والمساجد ، والأرض التي نمشي فوقها بكل حرية ونأكل من خيراتها .
ملكنا الإحساس بقشعريرة البرد القارس ، ونحن نرتجف بجانب بائع الفول المسلوق ، ننتظر دورنا ، ونطلب منه نثر مزيد من الملح والكمون .
ملكنا ذلك السر الخفي الذي ينبعث في الروح ، ونحن نجتاز الدرب بحشمة ووقار ، ونحمل خبز الجيران إلى الفران .
ملكنا الاستمتاع بسحر ابتسامة بنت الجيران .
ملكنا رائحة الأتربة والجدران عندما تملأ رئتنا بدفء عاطفي قادم من تاريخ سحيق .
عندما يخسر الإنسان وجوده المادي والروحي ، يخسر ماء الوجه ، ويتحول إلى مسخ بلا ذاكرة ولا هوية .
المعجم :
ـ (الرابوز) : آلة يوضع فيها دواء القمل وينفخ بها على شعر الأطفال أمام أبواب المدارس .
مراكش ليلة 31 دجنبر 2020
شغّل (الكافيتيير) بعد أن وضع البنّ والماء . منذ مدة لم يتذوّق القهوة داخل البيت في الليل . بعد ساعات قليلة سيودع العالم سنة خيم عليها شبح كورونا ناشرا الخوف والموت والحزن والخراب . رائحة البنّ تملأ المكان . صَبّ القهوة في الفنجان ، ووضع بجانبه في (البلاتو) قليلا من المكسرات ، وعاد إلى مكتبه . هذه الأيام لا يفكر إلا في التطبيع ، وما خلقه في نفسه من هواجس . شعر بالبرد يتسلل إلى ساقيه ، فأخذته رعشة خفيفة ، كمن استيقظ على غفلة من حلم لا يرغب في متابعته .
اللوحة 2
قال الصوت الأول :
ـ هؤلاء السياسيون لا يشبهون بقية الناس . يقولون الكلام الكبير ، ويفعلون عكسه ، ورغم ذلك لا يخجلون . في الحقيقة أخشى أن يضعوا البلد على كف عفريت .
رد الصوت الثاني :
ـ دائما تذهب بك الظنون إلى أسوء الاحتمالات ، وهذه عادة لا أدري إن كانت سيئة أم لا ، ورثتها عن لعب الشطرنج .
علق الصوت الأول :
ـ نعم في بعض الأحيان تصدق الظنون ، فالساسة اليوم يتقلبون مثل الحِرباء ، يبيعون القرد ، ويضحكون على من اشتراه .
اللوحة 3
تدخل صوت ثالث :
ـ يعجبكما أو لا يعجبكما سيان ! من أنتما ؟ وماذا تمثلان ؟ أنتما مجرد تركيب غريب من نصف مواطن ونصف رعية ، تعيشان على الهامش ، لا أحد يأخذ برأيكما ، فلماذا تُحمّلان نفسسيكما كل هذه الأوزار ؟
اللوحة 4
تظاهر الصوت الثاني بتجاهل الصوت الثالث وتابع :
ـ موقف المغاربة من التطبيع ليس موضوع إجماع مثل القضية الوطنية :
البعض قلبه على الأقصى أكثر مما هو على المغرب ، وقد يخسر الاثنين . والبعض خائف على مصالحه ، والبعض قلبه على شعاراته ، وجزء كبير مغلوب على أمره ، يلوذ بالصمت ، يحلم بالرفاهية ، ومستعد لبيع أي شيء من أجل الخبز والجنس والسيارة و(المالبورو) .
عندما تسأل الشيخ غوغل عن الشعب الذي يبكي ويضحك في نفس الوقت سيجيبك بدون تردد !
لكن من يخاف على مستقبل البلد ؟
اللوحة 5
توقف الصوت الأول قليلا لالتقاط أنفاسه ، ورد :
قلنا الصحراء مغربية . بعد سنوات طويلة قالت أمريكا الصحراء مغربية ، فقالوا : القول ما قالت أمريكا . ماذا سنقول غدا لو قالت أمريكا إن المغرب أرض يهودية ؟
رد الصوت الثاني وهو يُسدي نصيحة للصوت الأول :
ـ والله لو بقيت تفكر بهذا المنطق ، ستُصاب بالجنون ، وعندها لن ينفعك أحد . عاشر المسلمون اليهود في المغرب قرونا طويلة ، ويعرفون بعضهم جيدا . المهم أن تكون مغربيا واترك هذه التخوفات جانبا . التاريخ يشهد بأننا شعب يتقن السباحة في الأمواج العاتية .
اللوحة 6
يبدو أن الصوت الأول لم يتخلص من خوفه بعد ، فتابع :
ـ لو أراد اليهود المغاربة العودة إلى المغرب والتعايش مع أهله من غير أطماع أو عنصرية لما كان هناك مشكل من الأساس . ولو ساعدوا في نقل التكنولوجيا إلى البلد لأضفوا مصداقية على حسن نواياهم ، وازدادت ثقة الناس بهم ، واقتسموا معهم الملح والطعام ، ونسوا كل الضغائن والأحقاد .
الكثير منا لا يعرف السباحة مع منطق العصابات ، الذي يستخدمه الغرب بقيادة أمريكا في سياسته الخارجية . فهو لا يمتثل لأي قانون خارج منطقته ، وإذا أراد شيئا أخذه بالقوة والغصب ، وفي حالة الامتناع والمقاومة يخرب البلد على من فيه . الله يحفظنا مما وقع في العراق وليبيا وسوريا واليمن .
رد الصوت الرابع
والله من يستمع إليكما تتحدثان بهذه الحرارة ، يعتقد بأنكما تخافان على تجارتكما وممتلكاتكما من الضيعات والعقارات والشركات ! لو كنت مكانكما لاستحييت . إذا انهار النظام ، وانقلب أعلى البلد على أسفله ، فماذا سيخسر البؤساء مثلكما غير قيودهما ؟
اللوحة 7
أخذ الصوت الأول رشفة من الكأس ، وأحس بمذاق البن مرا في فمه ، حاول التظاهر بعدم الانتباه ، فلم يستطع وكاد يصرخ :
ـ نحن البسطاء من الناس ملح الوطن . نملك الذكريات ، نملك الهوية .
ملكنا شجرة التوت بالقرب من الجبل الأخضر التي ترددنا عليها ونحن أطفال ، نربي دودة القز ، ونحلم بإنتاج الحرير .
ملكنا طريق الملاح التي مشينا فيها بحرية وفرح لشراء حلوى الكوك والباليفي .
ملكنا حديقة مولاي عبد السلام التي جئناها من بعيد لقطف ثمار الخروب من الشجر المحاذي للمسبح البلدي .
ملكنا ورقة السينما ، ووقفنا في صف طويل ، ننتظر لحظة الدخول إلى القاعة . نصفر ونصرخ بصوت عال ردا على صوت نسمعه ، ولا نعرف صاحبه :
ـ وقالت لك أمك خذ الخبر إلى الفران .
نتحدث مع الممثلين ، ونحذر البطل من خصمه المختفي خلف الجدار شاهرا بندقيته ، ونتحرش بالممثلات ، فنطلب من البنت البطلة ، أن ترفع الثوب قليلا عن ساقيها .
ملكنا ساحة جامع الفنا ، وأصوات صانعي الفرجة والدراويش والمتسولين التي لازالت ترن في آذاننا .
ملكنا كل دروب وأزقة المدن القديمة . ملكنا من الشقاوة ما جعلنا نجري خلف أبله ، أو يجري خلفنا . ملكنا ثمار البلح ، وأشجار النخيل المحيطة بأسوار المدن ، والمدارس التي احتضنت طيشنا وشغبنا ، وذكرى (الرابوز)* ودواء القمل ، وصورة بائع الحلوى بشاربه الكث الكبير ، وقامته القوية الفارعة ، وهو يردد بصوته الجهوري الذي يخطف القلوب : (جبان كُلْ وبان)
ملكنا البحر والسماء والشمس وجبال الأطلس والأنهار والوديان وسمك السردين ، وصوت الآذان في كل هذه الصوامع والمساجد ، والأرض التي نمشي فوقها بكل حرية ونأكل من خيراتها .
ملكنا الإحساس بقشعريرة البرد القارس ، ونحن نرتجف بجانب بائع الفول المسلوق ، ننتظر دورنا ، ونطلب منه نثر مزيد من الملح والكمون .
ملكنا ذلك السر الخفي الذي ينبعث في الروح ، ونحن نجتاز الدرب بحشمة ووقار ، ونحمل خبز الجيران إلى الفران .
ملكنا الاستمتاع بسحر ابتسامة بنت الجيران .
ملكنا رائحة الأتربة والجدران عندما تملأ رئتنا بدفء عاطفي قادم من تاريخ سحيق .
عندما يخسر الإنسان وجوده المادي والروحي ، يخسر ماء الوجه ، ويتحول إلى مسخ بلا ذاكرة ولا هوية .
المعجم :
ـ (الرابوز) : آلة يوضع فيها دواء القمل وينفخ بها على شعر الأطفال أمام أبواب المدارس .
مراكش ليلة 31 دجنبر 2020