صبري عبد الله قنديل - الإبـــداع .. ورؤيــة حول أدب الحـــــرب

الإبداع الإنساني في أي مكان على الأرض هو "كل" لا يتجزأ وإن بدا في أجزاءه وتعداداته بوح هنا وإرهاص هناك فتلك وإن ترامت روافدها فإنها تتلاقى مكملة بعضها البعض في تجربة متكاملة الأبعاد كل بعد لها يستخلص من تجاربه رؤية وفق ما تسعى إليه المحاولة الإبداعية لتتكامل في الإطار الإنساني مع بقية الأبعاد مشكلة للتجربة الحضارية التي تضيف إلى رصيد الأمم.

والإبداع الأدبي هو أحد أهم الأبعاد حيث تنطلق من بوتقته ملكة الوعي وتنمو، ومن خلاله تقدم رؤية حية لتاريخ الإنسان ومنه تكثف الإضاءة على ثغرات التجربة في عمومها وتمهد لمواجهتها وإن تفرع هو الآخر بفعل المتغيرات التاريخية وتطور التجربة لعدة أبعاد.
وقد جرت العادة فيما بين المشتغلين بالأدب والنقد أن يجعلوا من هذه الأطر الفرعية تصنيفات شكلية للتجربة الأدبية فيما أسموه ـ أدب نسائي وأدب حرب وأدب خيال علمي وأدب أطفال وأدب جاسوسية وأدب بوليسي.. الخ، هذه التصنيفات على الرغم من أنها لا تعدوا أن تكون تعريفة تنقل التجربة الأدبية بحساسيتها إلى المتلقي وهي مرهونة بانعكاسات الزمان والمكان إلا أن رافداً نقدياً حاول ترسيخ مفهوم مضموني لبعض هذه التسميات كتجربة الأدب النسائي أو أدب الحرب مثلاً وقد انطلق دعاة هذا الاتجاه من مفهوم أن الأدب النسائي تمتد سماته إلى عمق التجربة النسائية في الكتابة ومكوناتها السيكولوجية والثقافية والتركيبة الانحيازية لنفسها، لكن هذا المفهوم لم ينته إلى صياغة رؤية أو أساس لنظرية علمية يمكن أن تكون لها قواعد تعبر عن هويتها لأنه استند إلى استنتاجات كانت استخلاصا لظروف تاريخية معينة أفرزت تجاربها المهمشة لدور المرأة الحقيقي فكان لابد لرد الفعل ـ المتعاطف ـ أن يواجه ذلك بإطلاق هذه التسمية على مجموعة من التجارب النسائية في الأدب رغم أن التحولات الاجتماعية والسياسية تعكس دلالتها على المبدع فلا تفرق فيه بين كاتب أو كاتبة.
ومع تعاقب هذه التحولات في إطار الظرف التاريخي المكثف ونضوج الفكر ورحابة الرؤية ونظرة المجتمعات الإنسانية لفكر ودور المرأة سرعان ما أدمج تجاربها الأدبية في النسيج العام لتجربة المجتمع ككل بعد أن تجاوزت نقائصها وعبرت الحواجز البيئية وتخلصت من أسر الاستغراق المستسلم في عباءة الجواري ومجرد كونها أنثى إلى الارتقاء بعلاقتها بالرجل إلى نظام إنساني يقوم على التوازن الحضاري ويحرص على حق كل طرف في إجلال وتقدير دون استعلاء أو تميز، كما أن تجربتها الإبداعية تشارك بقوة وندية تجارب الكاتب في البحث عن نماذج وأفكار مبتكرة لا تجعل المتلقي يقف عند الكاتب كان رجلاً أم امرأة بقدر ما يعني بالمستوى الإبداعي.
وهكذا تمضي التجارب الأدبية الأخرى على هذا النحو استلهاما للحركة والتطور الإبداعي، فأدب الأطفال يحلق بتجاربه في إطار براءة صافية يتوقف نجاح التعامل معها على منطقية الخيال الذي تخرج في عالمه التجربة على طبيعتها قدر المستطاع حتى وإن كان خيالاً تجريبياً وتوظيف الأساسيات التي يراد استخدامها.
ويمضي أدب الجاسوسية والأدب السياسي والبوليسي في هذا السياق، لكن الفارق يعتمد على الاستلهام الوثائقي لمتغيرات التجربة وقدرة التخيل على التعامل معها، ولا يستطيع الكاتب تمثل المصداقية التي يريدها إلا على ضوء اقترابه من الحساسيات الراصدة لأبعاد التجربة أو المرحلة حتى وإن تخيل تجربة بعينها لابد من خبرة توظيف تلك الرؤية الوثائقية المطلوبة لدفع التجربة إلى الاكتمال.
فالأدب السياسي لا يكتفي كاتبه بقراءة الأحداث لكي يقدم تجربة جادة، لكن الاقتراب من حرفة ـ السياسة يتيح له رؤية أعمق وأدق لتحليل المواقف واستخراج كوامنها التي تمكنه من أن يوفر للتجربة تفردها وتميزها في التعبير كما جاءت على سبيل المثال رواية "الكرنك" للأديب الكبير نجيب محفوظ ورواية "زينب والعرش" للأديب الكبير فتحي غانم وغيرهما.
والخيال ـ المحبوك ـ في تجربة الأدب البوليسي هو المحور الموضعي الذي يؤكد لها مصداقيتها إذا وفق كاتبها في توظيف التقنيات العلمية والتكنولوجية الحديثة في استلهام فكرته كما أنها توفر للعمل عنصري الإثارة والتشويق الجديرين بالتعامل مع العقل المعاصر.
والحديث هنا عن البعد الإبداعي للأدب خاصة أدب الحرب نراه في إطار هذا التصور قد تمثل النثر المعاصر "رواية وقصة قصيرة" أكثر مما تمثل الشعر، ذلك لأنهما يقدمان التجربة ببعدها الإبداعي حية ممتدة في التاريخ وآلية الحياة مع الحرص على تمثل العناصر المتجددة في النفس الإنسانية، لكن دور الشعر والذي هو ديوان العرب ومع تحديث الرؤية وتنوع الوسائل يأتي مبلوراً للإرهاصات سواء بالتمهيد أو التعبير عنها في كثير من الأحوال، على هذا الأساس يمكن القول بأن النثر هو منهج متجدد لتطور دراما الحياة والشعر هو المعنى بالارتقاء بالوجدان وإثارة الوعي واكتسابه الفاعلية الثورية المركبة.
أما أدب الحرب فإن الرؤية النظرية تلعب دوراً ثانوياً في صياغة تجربته إذا قورنت بالمعايشة العملية لها حتى وإن حاولت تلك الرؤية أن تستلهم وتستطرد وتحلق.
وحينما نتوقف عند نماذج روائية لأدب الحرب فإن الأديب "تولستوي" يأتي في صدارة المبدعين الذين قدموا نماذج ريادية في هذا الميدان وقد قال الأديب "أرنست همنجواي" في تقييمه لتجربة أدب الحرب أنه لم يعرف من كتب فيها أحسن من تولستوي، لذلك فإننا لو نظرنا لمرجعية ذيوع روايته "الحرب والسلام" فإن عبقرية الكتابة الروائية قد وفقت في صياغة التجربة بواقعيتها وكأن رحى الحرب تدور على الورق على الرغم من أنه لم يعش هذه الحرب وشارك فيها حيث ولد بعد أن انتهت، لكنه ينتمي إلى عائلة عسكرية لها تاريخها في الحروب كما أشارت الدكتورة "مكارم الغمري" في كتابها "الرواية الروسية في القرن التاسع عشر" بل والأهم بعد ذلك أنه اشترك بنفسه في الحروب التي دارت رحاها في شبه جزيرة القرم ومعارك ـ سيبا ستوبل ـ بوجه خاص فتوفر له رصيداً هائلاً من الثقافة والرؤية القادرة على صياغة التجربة.
ولم تكن مؤلفات تولستوي بهذا القدر من التفوق والذيوع مجرد رصد لفاعليات معركة عسكرية هنا وهناك، لكنها جاءت إدانة للحروب التي يرفضها لما رآه في ميادينها ولا مبرر لها عنده إلا إذا كانت دفاعية تحريراً للوطن من مستعمريه الأمر الذي يجعلنا نؤكد على أن الأديب على هذه الرؤية هو ضمير الإنسان المعبر بشكل عام والوطني بشكل خاص وليس فقط مقرراً للحالة.
وإذا كان تولستوي كروائي متميز قد قدم النموذج المتفرد لإبداع الحرب فإن تفوقه وتفرده في رصد الحالة الإجتماعية والسياسية هو الدافع والمنطلق لذلك خاصة وأنه يملك بموهبته الفذة رؤية حداثية للتغيير بالخروج من حالة الصراع الإجتماعي الطبقي إلى عدالة توفر للمجتمع استقراره المطلوب فجاءت روايته "البعث" قمة لهذه الرؤية، غير أن المناخ العسكري وتفاقم الحروب هي التي لعبت بلا
شك دوراً مباشراً في إزدهار أدب الحرب خاصة في الاتحاد السوفيتي، فقدم "قسطنطين سيمونوف" ثلاثيته الضخمة "الأحياء والأموات" وكان هو الآخر مراسلاً حربياً لجريدة "النجم الأحمر" طوال سنوات الحرب السوفيتية ـ 1941 ـ 1945م ـ ضد الفاشية الهتلرية، كذلك كان "ليف كاسيل" مراسلاً في الأسطول الشمالي والجبهة الغربية والأوكرانية، لهذا توفرت لقصصه ما لا يمكن لغيره من المبدعين.
فإذا عدنا إلى الأدب العربي وقوفاً عند نماذج لأدب الحرب فليس ذلك للمقارنة لأن الظروف والصراعات السياسية والمطامع السياسية والمطامع الاستعمارية تختلف، وقد حالت هذه الظروف دون تمكين الكاتب العربي من التواجد والإلمام بتفاصيل التجربة إلا بدرجات متفاوتة ومحدودة لا علاقة لها بموهبة الأديب أو مكانته.
وقد وقفت التجربة طويلاً عند هزيمة 1967م التي تعددت مسمياتها في إطار من اللبس والخلط ثم سعى بعض الكتاب إلى تحويل المناخ الانهزامي المفروض بمواجهة الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلى التأهب والتحفز لرد الاعتبار فجاءت رواية "ذئب في قرص الشمس" للكاتب "محمد فيصل عبد المنعم" صياغة لحالة توفرت لها عوامل التمهيد والشحن والاستعداد لتوجيه ضربة قاتلة لعدو صنعت منه الأوهام والضغوط العالمية المتعاقبة شبحاً ذئبوياً.
بعد آخر ما قدمه الروائي "جمال الغيطاني" في رائعته "حكايات الغريب" وقد استفاد من عمله مراسلاً حربياً كذلك في تجنب الوقوع في التكرار أو التقليد فركز في هذه الرواية على كوامن الإنسان العربي حيث جسد حالة الاغتراب الإنساني التي عاشها الإنسان بتأثير الهزيمة حتى صار غريباً معزولاً عن الفعل فبدا للناظر أنه لا يصلح للحياة، لكن الرواية أسقطت هذا الزعم حين بلورت صلابة الإنسان الكامنة في مكوناته العادية رغم تراجعه الاغترابي المؤقت الذي قد يفهم منه أنه مستسلم وهنا نلحظ التلاقي وتوافق الرؤى بين حالة الانتظار في رواية "ذئب في قرص الشمس" ورواية "حكايات الغريب" وإن اختلفت طريقة السرد والتناول الروائي. على عكس ذلك استلهم الكاتب "إحسان عبد القدوس" من خلال طغيان رؤيته السياسية الغضب الشعبي الكامن داخل الصدور فعبر عن حالة الترقب التي سبقت الحرب حتى انتزع الأبطال هذا الغضب وأحالوه إلى سلاح معنوي فتاك دمروا به كل حواجز الوهم وأعادوا الجملة التاريخية في صيغتها الصحيحة.
نموذج آخر هو رواية "الحصن" للأديب الألباني "إسماعيل قدري" وهي رواية وصفية أبرزت خبرة الكاتب وبراعته حيث اعتمد في بنائها الدرامي وتفوقه في إدارة الصراع على تنامي قيمة الانتماء للوطن داخل النفس البشرية وما يعكسه ذلك على تأجج الصراع، فمن خلال حياة القائد الألباني "جورج كاستريوت" ابن الأمير الألباني "جان كاستريوت" والتي انتهت في تصاعد ثوري إلى مواجهته العسكرية للسلطان العثماني الذي اغتصب وطنه ألبانيا، وقد استلهم الكاتب في هذه الرواية قصة "فرعون وموسى" ووظف دلالتها توظيفاً يلائم توجهات موضوعه، فالنبي موسى عليه السلام تربى طفلاً في قصر فرعون لكن القائد الألباني أخذه عنوة وهو طفل أيضاً إلى البلاط السلطاني بعد احتلال بلده واختفاء أشقاؤه في ظروف غامضة، وقد تربى وشب بين الجيوش العثمانية إلى أن صار قائداً لم تغب عنه صورة بلاده فعاد لها عام 1943م بعد طول غياب وهو تجسيد للصورة السياسية التي كان عليها الإنسان الألباني تحت وطأة الاحتلال!.
وقد ركزت الرواية على الحملة الأولى للجيش العثماني ومقاومة الألبان لها حيث كانت "كرويا" عاصمة ألبانيا هي القلعة أو الحصن الذي نجح القائد من خلالها في مقاومة وصد وإفشال محاولات الاختراق العثماني، وحرص المؤلف على تسمية العاصمة بالحصن تأكيداً على أنها مركز الحس والرمز الوطني للشعب الألباني وهي بمثابة القلب من الجسد وأن تحصينه هو الأساس في صدر الأخطار عن الجسد ككل، هذه الرؤية تمثل رؤية إبداعية لتدعيم المقاومة بأسلوب متفرد تجنب الكاتب من خلاله الانسياق وراء الأشكال التقليدية لأدب الحرب فاعتمد على إبراز الحدث من منظور تاريخي وترك الأحداث أن تنطق بلغتها وفق الإيقاع الطبيعي دون الاستعانة بقاموس لغوي جاهز من ثقافة الروائي.
تجربة أخرى في رواية "أنشودة الأيام الآتية" للأديب محمد عبدالله الهادي تمثل فيها منهج تولستوي في "الحرب والسلام" بادئاً كما بدأ بعمق التجربة الإبداعية ثم إنعكاسات التجربة السياسية ثم وقوع الحرب، لكن البيئة التي كتبت فيها الرواية حصنتها ضد التقليد المنهجي لأنها لعبت دور البطل، وقد كان شريط الذكريات ـ الماثل ـ عن حياة بطل الرواية فتحي النجار الذي تربى في جزيرة ـ مطاوع ـ وهو المصطلح الإشاري الذي يحمل مدلولات الواقع الذي تنطوي عليه حياة الإنسان وتاريخ هذه البلدة الذي هو التاريخ العربي في مجمله يسرده الكاتب روائياً من الزمن BACK FLASH إستلهاماً للقوة وتأهباً لصياغة موقف حاضر يمهد بحسمه الطريق للمستقبل.
وعلى الرغم من هذا التنوع والتميز الذي حفلت به هذه النصوص إلا أن البعد الإبداعي لأدب الحرب في أدبنا العربي لا يزال مجرد رصد تقريري لجانب من الجوانب رغم التطور ـ الطفري ـ للبناء الفني في الرواية ودليلنا لن نعود لنستخرجه من تاريخنا الإسلامي المزدهر بفتوحاته التي يعتبرها المؤرخون نقاطاً مضيئة عبر التاريخ الإنساني، لكن أمامنا دليل معاصر مضى عليه أكثر من عشرين عاماً ولا يزال حياً في وجداننا وهو حرب رمضان ـ أكتوبر 1394هـ ـ 1973م، هذه الحرب توفرت عليها الدراسات السياسية والعسكرية والاقتصادية والنفسية عالمياً وعربياً إلى جانب مذكرات القادة العسكريين التي كشفت النقاب عن كثير من الجوانب الهامة ولازالت هذه الحرب بمقاييسها مثار الاهتمام إلا أنه لم يستطع أدبنا العربي رغم جدية هذه المحاولات تقديم عمل روائي في قامة عالمية هذه الحرب العربية المنتصرة، وقد كانت القصيدة العربية صاحبة دور تاريخي معبر ربما لأن تاريخها يمتد على الأرض العربية إلى ما يزيد على ستة عشر قرناً لهذا توجهت القصيدة مع ثورات التحرير والاستقلال كما حدث بصياغة الشاعر "أحمد شوقي" لمحاولات النضال الوطني ضد الاحتلال الإنجليزي والفرنسي واستخدام "عبد الله النديم" لغة الخطابة الثورية التي أججت مشاعر الجماهير ضد المحتل الغاضب، كذلك مع ثورة التحرير الجزائرية.
وليس معنى هذا أن تجربة أدب الحرب هي كيان أعزل منقطع الصلة، لكنه ترجمة لإرهاص تاريخي هو في الأساس جزء أصيل من تجربة الإنسان تتقدم فيه القصيدة لتأخذ بزمام المبادرة حيث أنها انفعال معبر عن الحالة كما سبق الإشارة بشحذ الهمم واستنهاض القوى الوطنية في حالة التعبئة ثم رصد الموقف بعد ذلك سلباً أو إيجاباً، فتتجلى تداعيات الأول السلبي في سياق احتجاجي راصد والثاني الإيجابي يمضي بالنزوع الملحق في آفاق النصر والتفوق وتجليات البطولة، وهي حالة نادرة لا تتكرر كثيراً في حياة الشعوب ترصد اللحظة التاريخية حيث تتوقف مصداقيتها على اقتراب الشاعر من حساسيتها، وقد تمثل هذه الحالة في جوانبها المختلفة على هذا النحو الشاعر صلاح عبد الصبور كنموذج تجلى في رؤيته الانكسار أولا ثم البشارة وتجسيد لحظة الانتصار فأنشد معبراً عن انكسار النفس العربية في قصيدته "أغنية للشتاء".
ينبئني شتاء هذا العام أنني أموت وحدي
ذات مساء مثله، ذات مساء
وأن أعوامي التي مضت كانت هباء
ينبئني شتاء هذا العام أن داخلي..
مرتجف برداً
وأن قلبي ميت منذ الخريف ..
قد ذوى حين ذوت
أول أوراق الشجر
ثم هوى حين هوت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى