د. سيد شعبان - نتف ريش!

لقد أصاب العجز ذاكرتي التي عرفتها مثل عقارب ساعة التاجر اليهودي الذي يطوف بقريتنا، ينادى على الأشياء العتيقة، ماهر في المساومة، بارع في الحيلة التي توارثها عن آبائه وأجداده، النساء في قريتنا يتخلصن سريعا مما تركه الأزواج، كانت جدتي توصي أمى بأن تنتف ريش أبي مفتول الشارب، قوي الزند، تحس أنه أقوى من حصان العمدة.
في مرة اختلست نظرة إلى الشعر النابت فوق صدره، إنه مثل صوف الكبش الذي يعدو خلف النعجة الرحمانية التي ولدت لنا حملانا، أمي بدورها لم تكن تبقى في البيت ماعونا إلا وباعته بأبخس ثمن، تمشى وراء جدتي، حتى إذا جاء أبي بطعام وهبت نصفه للخالة فاطمة، أصاب الفقر بيتنا، صرنا بلا غطاء ولا كساء، بقي في خزانتا شيء واحد ؛ حجر قديم يربض عند مدخل البيت مثل الصنم، كنا نعلوه جوادا، عليه حروف ذات أشكال، به طيور وأبقار وثيران، امرأة تعجن وأخرى تمسك بآلة العزف، مر بشارعنا ذلك المسكون بالبله، والممسك في يديه عصا يتوكأ عليها، كانت له عين واحدة، صدقوني لا أدري متى ذهبت الثانية، أخيرا تذكرت، موشيه ديان يشبهه كثيرا، بلادنا مصابة بالفئران، لكنني وقد ذكرت لكم أعلى الصفحة؛ ذاكرتي مصابة بالعطب، تبعت فتاة صفراء فاقع لونها، يسرح مثل موج البحر شعرها الذهبي، عينا قطة تعطي وهجا في عتمة العشي؛ فالنساء عندنا مصابات بالجراد والضفادع تحضن في الشهر ثلاث مرات، لذا فهن واهنات، لا يكتفين بمولود واحد ولا بثلاث، ينتفن ربش الرجال، ومن ثم تسكن الغرف الطينية حشرات زاحفة ترتع في أجساد واهنة تتعارك على نصف رغيف!
البقايا تعلق مثل لمبة اليد نصنع ذبالتها من لوز القطن، ولأنه يعرف السر ويجيد مخاطبة الحجر، أمسك بالقلم، نبش في كتاب أصفر مصنوع من جلد بشبه جلد عنزة مارقة التهمت ربع كيلة من حب القمح، نقد أمي خمسة جنيهات، تبخرت من بين يديها مثل الدخان الأزرق الذي ينفثه أبي ساعة يعتدل مزاجه، ظل يلف ويدور حول الحجر، وجد سهما، فك الشفرة، هذا الحجر من الذهب الخالص!
دارت بي الأرض يختل توازني كثيرا، أنام وأحلم بأنني دوان حذاء، هذه آفة النسيان التي تملكتني طويلا، انتبذت مكانا قصيا، بدت لي القرية بكل أهلها مثل جوال الشحاذ حين تختلط به أرغفة الخبز، هكذا هي الكوابيس تتجمع حتى ظهرت لهذا التاجر أسنان من حديد، برز ناباه كأنه مصاص دماء، أبلة فضيلة خوفتني كثيرا حين كنت صغيرا، ألقت في نفسي الرعب؛ الغرباء يتحايلون في خبث، يبثون أشعة من أعينهم تربط أقدام الأطفال في أعمدة الإنارة، لا أجد مبررا لكل هذا التوجس، قالوا: لقد طارت الأسماك إلى أعلى، غاصت اليمامة التي سكنت مأذنة الجامع القبلي حتى قاع النهر، في ليلة مظلمة أتى الأعمى قريتنا، قرأ تعويذته على الحجر الملقى عند جبانة المجرية، طار به بعيدا؛ حقا قيل هذا، في ليالي الشتاء نتسامر بأحاديث الراحلين، يحمل في بطنه حكايات العارفين قلوبهم لها دليل، أجنحتهم بلا ريش، هل كانت ثمة امرأة تسهر طوال الليل وأمامها رجلها تفعل به ما تشاء؟
وللحاوي جراب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى