فيصل سليم التلاوي - صفقة.. قصة قصيرة

يغذ سالم سيره صوب الصراف الآلي، الذي اعتاد أن يمر عليه نهاية كل أسبوع، ليسحب مبلغا من المال يكفيه نفقة أسبوع واحد على الأقل. لكنه الآن يسرع خطاه نحوه في غير موعده الأسبوعي، وفي غير ساعته المسائية المعتادة. ما إن أُبلِغ هاتفيا أن المبلغ قد حُوّل إلى حسابه، حتى سارع من فوره ليتأكد بأم عينيه على شاشة الصراف من وصوله، وليسحب مبلغا أكبر من كل مرة، ليشرع في تنفيذ مشروعه الذي خطط له طويلا، وانتظر لحظة البدء به بفارغ الصبر، لكن شُح المال بين يديه كان يضطره للتأجيل مرة إثر مرة.
إنه يقف أمام الصراف الآلي في ساعة صباحية، وحيدا لا يتقدمه أحد ولا يقف وراءه أحد في الدور كما هو شأنه في معظم المرات السابقة.
يبادر باختيار اللغة وإدخال الرقم والاستعلام عن الرصيد، يحس بتسارع دقات قلبه، وارتعاش أصابعه خلال لحظات الانتظار، يتكشف الرقم أمام ناظريه، رصيده المتواضع الذي يحفظه عن ظهر قلب، وقد زيد عليه عشرون ألف دينار بالتمام والكمال.للحظة غامت أمام عيني سالم الألوان والأرقام على شاشة الصراف، وارتسمت أمام عينيه صورة باهتة أول الأمر، ما لبثت أن أخذت تزداد وضوحا وتتسع حجما، لتملأ عليه المكان كله، فلم يعد يرى شيئا غيرها. إنه يبصر طفلا لا يدري على وجه التحديد كم يبلغ من سنوات العمر، أربع أو خمس سنوات، لكنه واثق من شيء واحد: أنه دون سن ولوج المدرسة. الطفل يسير خلف جده الذي يسوق أمامه زوجا من الأبقار تجران محراثا رومانيا قديما. يشير جده إلى الأعشاب التي يطرحها المحراث على جانبي الثلم، وقد علقت بسيقانها كتل متماسكة من التراب، يتناول جده حزمة منها، يمسكها من أطرافها العلوية، ثم ينفضها بقوة ليخلصها من أكبر قدر من التراب العالق بسيقانها، حتى لا تعاود تجربة الإنبات من جديد، ثم يُطوّح بها بعيدا عن المكان الذي اقتلعت منه. يبادر الطفل تلقائيا إلى تقليد جده في تنظيف الأثلام من الأعشاب، بتعرية جذورها وإزالة ما علق بها من تراب، وطرحها بعيدا في الشمس، خاصة تلك الأعشاب التي نبتت في فيء شجرة الزيتون العملاقة، التي تشكل مظلة وارفة تغطي النصف الشمالي من البستان، والتي يمكن أن تعاود حشائشها الإنبات، بفضل ما يوفره لها الظل من قدرة على التحمل والمقاومة، بعد اقتلاع جذورها فترة أطول من تلك التي طرحت في الشمس.
إن قرابة الستين عاما تفصل بين يومه ذاك، و بين يومه الذي يقف فيه أمام الصراف الآلي، لكنها لا تُباعد بينهما بل تُقرب المسافة، إنه يرى اللوحة أمامه تكبر، ويومه ذاك أقرب إليه من يومه هذا، رغم أنه لا يذكر أن قدميه قد وطئتا قطعة الأرض تلك مرة ثانية.
يتذكر أنه قد مرَّ بعدها قريبا منها في طريق ذهابه إلى المدرسة وإيابه منها في المدينة المجاورة في مرحلة دراسته الثانوية، ربما ألقى نظرات عليها عن بعد مرة إثر مرة، وربما انتعشت روحه زهوا وهو يحدث نفسه:
- هذه أرض جدي.
لكنه لا يتذكر أن قدميه قد وطئتا ثراها مرة ثانية. ولا يذكر متى آلت لوالده عند اقتسام ميراث جده، ولا متى آلت إليه وهو بعيد عنها.
كل ما يعرفه في حضرة غيابه الطويل الذي يوشك أن يكون عمره كله، أنها قد آلت إليه عند اقتسام ميراث والده بين إخوته العشرة، فكانت جزءا من نصيبه. هكذا قيل له، لكنه ما شهد ذلك ولا رآها ثانية، وكل ما يربطه بها هو يوم اقتلاع العشب، الذي كان اليوم الأول والأخير لعلاقته بها، ولا درى يوما أي إخوانه هناك يتصرف بها، وإن كان لا يزال يعاود مهنة جده و بره بها، ورأفته وحنوه على تربتها التي ساهم بها جزئيا ذات يوم بعيد.
يحاول سالم التشبث باللحظة الراهنة، وقطع الخيوط المتشابكة التي تشوش عليه، وتصرفه عن سحب المبلغ الذي عزم على سحبه. عبثا يحاول فلا يرى أمامه على شاشة الصراف شيئا، ويجد نفسه مرغما يدخل في محاورة شاقة وعسيرة، مع ذلك الفتى الذي كان يقتلع الأعشاب قبل ستين عاما، والفتى يفحمه بأسئلته الرصينة:
- ألم تكن واحدا منا و نحن نهزج في الأمسيات ساخرين:
عوّاد باع أرضه يا اولاد شوفوا طوله وعرضه يا اولاد
أم أنك نسيت تلك الأيام؟
- لم أنسها أبدا، لكنني محتاج لثمنها، أريد أن أفتتح مشروعا يدر لي عائدا دائما، فما الذي عادت به عليّ تلك الأرض، في كل تلك السنين التي انقضت والسنين القادمة التي ستتلوها.
- وممن تعلمت أن الأرض – أي أرضٍ- عَرَضٌ يُباع ويُشترى؟ ألم تعلم بعد وقد بلغت من الكبرعتيا أن الأرض أرضان: أرض تشتريها بمالك للاستثمار والبيع والشراء متى راجت سوقها وغلا ثمنها، وأرض ترثها عن أبيك وجدك وجد جدك، وهذه لا تباع ولا تشترى، هذه ليست ملكك لتتصرف بها، بل هي أمانة في عنقك تحفظها حينا من الدهر، مثلما حفظها أبوك ومن قبله جدك، ثم تسلمها لمن بعدك، فكيف قبلت أن تكون خائن الأمانة؟
- خائن الأمانة؟! أنا بعتها لقريبي، لابن عمي، وهو سيصونها أيضا فكيف لو فعلت مثل قوم آخرين، ممن يبيعون أرضهم لأعدائهم مباشرة، أو يسترون عوراتهم بالبيع للسماسرة، بماذا كنت ستنعتني؟
- وهذا المال الذي يقبع أمامك في صندوق الصراف الآلي ولا تطيق النظر إليه، كيف ستتصرف به؟ وعلامَ ستنفقه؟ وكيف ستستسيغ طعمه؟ ألا تذكر أمثالنا التراثية عن المال غير المبارك، والذي لا يستسيغ مذاقه أحد:
- أي مال يا طِفليَ النبيه الذي يعظني شيخا، ولا أجد ما أرد به عليه؟
- أي مال؟! لقد أنسيت أيها الشيخ في غيابك الطويل أمورا بديهية لا تُنسى.
المال غير المستساغ في أعرافنا هو:(الدية ومهرالولية) أحقا نسيت ذلك أم تتناساه.
لا يستسيغ أحد عندنا أن يأكل من هذين المالين، فانظر لثمن أرضك تحت أي المالين السابقين تعده؟ إن كانوا قد أغفلوا ذكر مالٍ ثالث يندرج تحت نفس البند ولم يعينوه صراحة، وهو الأرض الموروثة، وتركوا ذلك لنباهة الخَلق و فهمهم؟
ما أيقظ سالم من ذهوله إلا إشعار الصراف الآلي وهو يسحب بطاقته تلقائيا، وعبارة ( لقد تم سحب بطاقتك، راجع فرعك الرئيسي) ترتسم على شاشة الصراف أمام ناظريه.
12/7/2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى