قرص دوّار الشمس الذي سرقناه من حقل عوّاشة كان نيئًا ولذيذًا. تسللنا داخل الحقل من الجهة الجنوبية، وتقاسمنا القرص تحت الفزّاعة التي تلبس قميص لطّوف، زوج عوّاشة. حين عدنا إلى البيت مساءً كانت عوّاشة قد أخبرت أهلنا، وبّخونا وقالوا عنّا نفسكم دنيئة، لاتذهبوا إلى حقل عوّاشة.
صديقي برهو أقسم أنّه لم يرنا أحد سوى فان غوخ، لمحناه من شبّاك غرفته المفتوح دائمًا على حقل عوّاشة، كان جوخ يقف ساعات طويلة أمام الشبّاك، هناك هرج وشائعات تقول إن غوخ على علاقة مع عوّاشة، غوخ الذي قدم إلى سهل القوملق، على نهر الفرات، مع بعثةٍ للتنقيب عن الآثار، بعد أن غادرت البعثة بقي في قريتنا، واستأجر من عوّاشة غرفة تطلُّ على حقلها، لا يخرج غوخ من بيته سوى إلى دكان الشويخ، وعوّاشة تمدّه بالبيض واللبن والخبز المرقوق، وكل شهر يذهب إلى حي الجميلية في حلب ويجلب معه أدوات رسم وقماش ونبيذ.
مرّت أسابيع عديدة حتى بدأت جدتي بسلق الحنطة/السليقة، في مرجل كبير، فطلبت منّا أنا وبرهو أن نذهب إلى دكان الشويخ لنأتي برفش جديد، كي تحرّك به الحنطة، لم نكن ندفع لدكان الشويخ المال، كل من في القرية يأخذون حاجياتهم من الدكان بالدين إلى أن يأتي الموسم. غوخ هو الشخص الوحيد الذي يدفع نقدًا.
حين وصلنا إلى بيت جدتي كان الأطفال يحملون أوعية في أيديهم وينتظرون في طابور أمام المرجل، طلبت منّا جدتي أن نأخذ للعم غوخ وعاء من السليقة مع الملح، كنّا أنا وبرهو خائفين، لأنّه يعيش لوحده، ومرّة قال لنا صطوف إن غوخ قطع أذنه وعلّقها على شباك غرفته، في الوقت الذي غرق أدهم في نهر الفرات وإلى الآن لم يصل الغواصون إلى قريتنا لاستخراج جثته، وبينما نحن باتجاه حقل عوّاشة كنت أحمل في يدي وعاء السليقة وبرهو يمسك عودًا من القصب يلعب به، عوّاشة توفيت منذ ما يقارب السنة، بعد أن جاءت الحكومة وأنذرت قريتنا والقرى المحيطة بالرحيل، لأنّ مياه الفرات ستغمرها، فالحكومة ستقوم ببناء سد، الكثير يقولون إن عواشة ماتت بسبب الصدمة لأنّها متعلقة بحقلها، ومرّة سمعنا النساء مع جدّتي يقلن لو أنّها بقيت على قيد الحياة لأخذها غوخ إلى هولندا، فهو حتمًا سيغادر قريتنا مع بدء الغمر، حقل عواشة يبس، وأصبح لونه باهتًا، منذ أيام لم نر العم غوخ، قبل قليل سأل عنه العم حسن الشويخ، ونحن نشتري الرفش الجديد، عند المصطبة أمام غرفته كان الباب مفتوحًا صرخنا به: عم غوخ.. ياعم غوخ. لكنه لم يجبنا، رميتُ وعاء السليقة على طرف المصطبة، ودخلتُ بهدوء يتبعني برهو، رأيت العم غوخ ممددًا على سريره والدم يسيل على صدره، كان قد أطلق النار على نفسه. رأيته يبتسم.
قلت لبرهو أن يذهب ويخبر الدكتور عارف. رأيته يبتسم ويكرر لي عبارة لم أفهمها لكني حفظتها، وصرت أرددها. قدم الدكتور ومجموعة من الناس وأنا أردد نفس العبارة. قدم جيب الشرطة، وأنا أرتجف وأردد نفس العبّارة، أخذني الدكتور عارف معه بالبيك آب، وهو يقول لي: لا تخف فقط أخبرني ماذا حدث. أخبرته بكل شيء، وأنا أبكي.
بعد ساعات هبطت مروحيّة في ساحة المدرسة، كنا أنا وبرهو نشرب الكازوز، نزل ناس يلبسون بزات رسمية دخلو إلى المدرسة، ومن ثم خرجوا إلى بيت العم غوخ، ناداني الدكتور عارف ودخلت معهم، كانوا يلفظون عبارات قريبة من العبارة التي حفظتها، ويمسحون على شعري، وبعدها خرجوا، كان أهل القرية قد جهزوا قبرًا وكانوا يتوسلون للوفد أن يدفن هذا الرجل اللطيف هنا في القرية التي أحبها وأحب شقاء فلاحيها.
كان الأستاذ مفيد ومدير المدرسة والدكتور عارف يقولون لأهل القرية إنّهم سيدفنونه هنا، ولكن هناك إجراءات يجب اتخاذها، فقد كتب لصديقه الذي سيحظر فيما بعد أنه أحب قريتنا ويريد أن يبقى فيها حتى بعد الموت، وتعتبر هذه بمثابة وصية.
كانت المرة الثانية التي أدخل فيها غرفة العم غوخ كانت مرتبة ونظيفة وهادئة، خلف الباب كانت هناك لوحات مكدّسة، وكانت هناك لوحات معلقة على سلم خشبي لصورة قريتنا في الليل، ولحقل عوّاشة، وصورة أخرى لعوّاشة مع الفلاحات.
قامت الحكومة بتعبيد طريق القرية ولكن ما الفائدة فبعد عامين ستغرق القرية بماء الفرات؟ بعد أيام قدم إلى القرية صديق العم غوخ، وذهبت معه إلى المقبرة، كانت جدّتي قد حضرت الخطمية والريحان لأضعها على قبره في أعلى التل حيث لن تصله المياه، زرعنا أنا وبرهو شتلة دوّار الشمس عند شاهدة القبر وكنّا نسقيها، وعلمنا أن حمّادي هو من أخبر عوّاشة أنني وبرهو من دخل حقلها وقطف قرص دوّار الشمس. أعطاني صديق العم جوخ قطعة نقدية واحدة لي وأخرى لبرهو، وكنت أردد له العبارة التي قالها العم غوخ لي قبل وفاته. ووعدني صديقه أن يأخذني إلى هولندا عندما أكبر.
هاأنذا قد كبرت ولم يدعني أحد إلى هناك، ولا أزال أردد في سرّي La tristesse durera toujours" "إنّ الحزن يدوم إلى الأبد".
صديقي برهو أقسم أنّه لم يرنا أحد سوى فان غوخ، لمحناه من شبّاك غرفته المفتوح دائمًا على حقل عوّاشة، كان جوخ يقف ساعات طويلة أمام الشبّاك، هناك هرج وشائعات تقول إن غوخ على علاقة مع عوّاشة، غوخ الذي قدم إلى سهل القوملق، على نهر الفرات، مع بعثةٍ للتنقيب عن الآثار، بعد أن غادرت البعثة بقي في قريتنا، واستأجر من عوّاشة غرفة تطلُّ على حقلها، لا يخرج غوخ من بيته سوى إلى دكان الشويخ، وعوّاشة تمدّه بالبيض واللبن والخبز المرقوق، وكل شهر يذهب إلى حي الجميلية في حلب ويجلب معه أدوات رسم وقماش ونبيذ.
مرّت أسابيع عديدة حتى بدأت جدتي بسلق الحنطة/السليقة، في مرجل كبير، فطلبت منّا أنا وبرهو أن نذهب إلى دكان الشويخ لنأتي برفش جديد، كي تحرّك به الحنطة، لم نكن ندفع لدكان الشويخ المال، كل من في القرية يأخذون حاجياتهم من الدكان بالدين إلى أن يأتي الموسم. غوخ هو الشخص الوحيد الذي يدفع نقدًا.
حين وصلنا إلى بيت جدتي كان الأطفال يحملون أوعية في أيديهم وينتظرون في طابور أمام المرجل، طلبت منّا جدتي أن نأخذ للعم غوخ وعاء من السليقة مع الملح، كنّا أنا وبرهو خائفين، لأنّه يعيش لوحده، ومرّة قال لنا صطوف إن غوخ قطع أذنه وعلّقها على شباك غرفته، في الوقت الذي غرق أدهم في نهر الفرات وإلى الآن لم يصل الغواصون إلى قريتنا لاستخراج جثته، وبينما نحن باتجاه حقل عوّاشة كنت أحمل في يدي وعاء السليقة وبرهو يمسك عودًا من القصب يلعب به، عوّاشة توفيت منذ ما يقارب السنة، بعد أن جاءت الحكومة وأنذرت قريتنا والقرى المحيطة بالرحيل، لأنّ مياه الفرات ستغمرها، فالحكومة ستقوم ببناء سد، الكثير يقولون إن عواشة ماتت بسبب الصدمة لأنّها متعلقة بحقلها، ومرّة سمعنا النساء مع جدّتي يقلن لو أنّها بقيت على قيد الحياة لأخذها غوخ إلى هولندا، فهو حتمًا سيغادر قريتنا مع بدء الغمر، حقل عواشة يبس، وأصبح لونه باهتًا، منذ أيام لم نر العم غوخ، قبل قليل سأل عنه العم حسن الشويخ، ونحن نشتري الرفش الجديد، عند المصطبة أمام غرفته كان الباب مفتوحًا صرخنا به: عم غوخ.. ياعم غوخ. لكنه لم يجبنا، رميتُ وعاء السليقة على طرف المصطبة، ودخلتُ بهدوء يتبعني برهو، رأيت العم غوخ ممددًا على سريره والدم يسيل على صدره، كان قد أطلق النار على نفسه. رأيته يبتسم.
قلت لبرهو أن يذهب ويخبر الدكتور عارف. رأيته يبتسم ويكرر لي عبارة لم أفهمها لكني حفظتها، وصرت أرددها. قدم الدكتور ومجموعة من الناس وأنا أردد نفس العبارة. قدم جيب الشرطة، وأنا أرتجف وأردد نفس العبّارة، أخذني الدكتور عارف معه بالبيك آب، وهو يقول لي: لا تخف فقط أخبرني ماذا حدث. أخبرته بكل شيء، وأنا أبكي.
بعد ساعات هبطت مروحيّة في ساحة المدرسة، كنا أنا وبرهو نشرب الكازوز، نزل ناس يلبسون بزات رسمية دخلو إلى المدرسة، ومن ثم خرجوا إلى بيت العم غوخ، ناداني الدكتور عارف ودخلت معهم، كانوا يلفظون عبارات قريبة من العبارة التي حفظتها، ويمسحون على شعري، وبعدها خرجوا، كان أهل القرية قد جهزوا قبرًا وكانوا يتوسلون للوفد أن يدفن هذا الرجل اللطيف هنا في القرية التي أحبها وأحب شقاء فلاحيها.
كان الأستاذ مفيد ومدير المدرسة والدكتور عارف يقولون لأهل القرية إنّهم سيدفنونه هنا، ولكن هناك إجراءات يجب اتخاذها، فقد كتب لصديقه الذي سيحظر فيما بعد أنه أحب قريتنا ويريد أن يبقى فيها حتى بعد الموت، وتعتبر هذه بمثابة وصية.
كانت المرة الثانية التي أدخل فيها غرفة العم غوخ كانت مرتبة ونظيفة وهادئة، خلف الباب كانت هناك لوحات مكدّسة، وكانت هناك لوحات معلقة على سلم خشبي لصورة قريتنا في الليل، ولحقل عوّاشة، وصورة أخرى لعوّاشة مع الفلاحات.
قامت الحكومة بتعبيد طريق القرية ولكن ما الفائدة فبعد عامين ستغرق القرية بماء الفرات؟ بعد أيام قدم إلى القرية صديق العم غوخ، وذهبت معه إلى المقبرة، كانت جدّتي قد حضرت الخطمية والريحان لأضعها على قبره في أعلى التل حيث لن تصله المياه، زرعنا أنا وبرهو شتلة دوّار الشمس عند شاهدة القبر وكنّا نسقيها، وعلمنا أن حمّادي هو من أخبر عوّاشة أنني وبرهو من دخل حقلها وقطف قرص دوّار الشمس. أعطاني صديق العم جوخ قطعة نقدية واحدة لي وأخرى لبرهو، وكنت أردد له العبارة التي قالها العم غوخ لي قبل وفاته. ووعدني صديقه أن يأخذني إلى هولندا عندما أكبر.
هاأنذا قد كبرت ولم يدعني أحد إلى هناك، ولا أزال أردد في سرّي La tristesse durera toujours" "إنّ الحزن يدوم إلى الأبد".