- إنني أبحث عن عمل مجيد..هل تفهمني..عمل مجيد..
يقول السيد حسنين، الذي يرفض العمل، حتى بلغ السابعة والخمسين من العمر. ويرد صديقه الذي يتجهز للدخول في مرحلة ما بعد الحصول على المعاش:
- ولكنك تجاوزت السن القانوني دون ان تجيد اي عمل يا حسنين..
فيجيب حسنين وهو يدخن وعيناه تتأملان الافق بهدوء:
- هذا يعني أنك لم تفهمني..عندما اقول عملاً مجيداً فأنا اقصد عملاً يحدث انقلاباً في تاريخ البشرية..
فيتساءل صديقه الأعمش:
- مثل ماذا؟
- لو كنت أعرف لفعلته..فأعمال البشرية كلها اعمال اعتيادية..بعض المحظوظين نالوا شهرة بسبب الإعلام..رغم أن أعمالهم عادية جداً.. هل تعرف مثلاً من الذي اخترع الفلاش؟
يصمت الأعمش فيقول:
- ولكنك تعرف لاعب كرة قدم مشهور او حتى انشتاين رغم أن هناك من هو أعظم منه..الإعلام يا صديقي هو الذي يجعل من تلك التفاهات ذات قيمة ويدمر كل الأعمال الحقيقية.. لذلك فأنا لا ارغب في ذلك..لا ارغب في عمل يعتمد على جهة تدعمه مالياً وإعلامياً.. بل هو نفسه يكشف عن قوته..
فيغمغم الأعمش:
- هذه احلام وأوهام يا صديقي.. هذه الحياة ليس فيها شيء عظيم.. الشيء العظيم هو ان نتبع قانونها الطبيعي..أن نعمل عملاً لسنوات فنصبح محترفين فيه ونتزوج وننجب ثم نموت..لقد عملت محاسباً لأربعين سنة..وفجأة ظهر الحاسب الآلهي..لم استطع تعلمه ولولا أنني موظف في الحكومة لتمت إقالتي بسبب عدم مواكبتي لبرامج المحاسبة الالكترونية..مع ذلك فمن قال بأنني غير راضٍ..على العكس..فقد كنت حاسباً آليا طوال اربعين سنة في جسد بشري..عقلي هذا لم يحتج لبرامج..بل لخبرة..تزوجت وانجبت وبعد بضع سنوات سأحصل على معاشي لأتفرغ للاستعداد للموت..هذه هي الحياة..
فيعترض حسنين:
- هذه حياتك انت ..حياة المستسلمين لقانون القطيع أما أنا..أنا والأجر على الله لا احترم ذلك القطيع ناهيك عن قوانينه..سأنجز عملاً ما..عملاً مجيداً يغير تاريخ البشرية..
- أوووف.. كم انت أسطوري التفكير..ستنتظر كثيراً وبلا جدوى.. ربما كنتَ لتحقق انجازاً لو تعلمت حرفة وواصلت فيها..لكنك بلا اي خبرة فكيف ستصنع عملاً مجيداً..
- إنني أثق في نفسي..
فيصمت الأعمش على مضض، ويتذكر أن زوجته طلبت منه إحضار ربع كيلو لحمة كندوز..فيودع صديقه ويرحل...يشتري اللحمة ويتجه لمنزله، وهناك يسلم زوجته العُهدة، ويستلقي على سريره لمشاهدة التلفزيون..لكنه لا يرى شيئاً فقد التصقت جملة حسنين بعقله :(عملاً مجيداً)..ويفكر بعمق في معناها؛ فلا يتوصل لنتيجة..ثم يسأل نفسه: أي عمل هذا الذي يمكن أن يغير تاريخ البشرية..أي عمل مجيد..اللهم إلا إحياء الموتى، ومع ذلك قد يكون إحياء الموتى عملاً كارثياً، فعودة الموتى ضربة قاصمة لتوازن الطبيعة..ثم كم عدد من سيحصلون على فرصة إعادتهم للحياة..وحين تدعوه زوجته للطعام ينظر لها ويسألها: هل تقبلين إعادتي للحياة لو مت يا هادية؟ فتضع هادية صينية الاكل وتقول وهي تغمس قطعة رغيف في الإدام: لا أعتقد..فيسألها: لماذا؟ فتجيبه: لأنني سأكون قد تزوجت وربما يكون رجلاً غنياً، فيضحك وهو يشاهد وجهها الذي تحول لوجه رجل بفضل السنوات..يأكل لقمتين ويعود لسريره فيرتدي نظارته وسماعة الأذن ليشاهد الفيلم..والفيلم ممل جداً أو تنه لم يتابعه بدقة..إذ كان يفكر في تاريخ الإنسان والأعمال المجيدة التي وقعت فيه، فبحسب معايير حسنين لا توجد أي اعمال مجيدة حقيقية..واما زوجته فترقد في السرير بغرفة الاولاد الذين هاجر بعضهم ورحل بعضهم الآخر بعد الزواج، وتتذكر حديثها مع الأعمش، ماذا لو مات حقاً؟ ينقبض قلبها، وتشعر بتأنيب الضمير: تتزوجين غير الأعمش يا هادية؟ تحدث نفسها بجزع وتواصل: هذه هي آخرة عشرة أربعين سنة؟ تخونين الاعمش وتسلمي جسدك لرجل غيره، اتفعلينها يا هادية، اتفعلينها؟ فتترقرق عينا هادية بالدموع وهي تتذكر زوجها حين كان شاباً بنظارته البنية وبنطلونه الشارلستون وكرشه الصغيرة المدورة وشاربه الكث، ويغمرها الشعور بالذنب فتبكي بصمت ثم ينقلب صمتها لنحيب: اتفعلينها يا هادية؟ ويسمع الاعمش نحيبها فيشعر بالخوف ويقفز مهرولا لغرفتها ويراها فتراه، وتقفز من سريرها لترتمي في أحضانه الواهنة متشبثة به بقوة وهي تبكي..
- ماذا حدث؟..
فتقول:
- لن تموت قبلي..لن أسمح بذلك..
ترف ابتسامة على شفتيه ولكنه يقول بجدية مصطنعة:
- سأموت قبلك..
حينها تصيح بصوت مخنوق:
- لا لا .. بعد الشر..
ويتعقد الموقف في عقله، فيسألها:
- هل تعرفين بماذا أصف حبنا قبل اثنين واربعين سنة..
تصمت في انتظار الجواب؛ فيقول:
- كان عملاً مجيداً يا عزيزتي.. عملاً مجيداً..
(تمت)
يقول السيد حسنين، الذي يرفض العمل، حتى بلغ السابعة والخمسين من العمر. ويرد صديقه الذي يتجهز للدخول في مرحلة ما بعد الحصول على المعاش:
- ولكنك تجاوزت السن القانوني دون ان تجيد اي عمل يا حسنين..
فيجيب حسنين وهو يدخن وعيناه تتأملان الافق بهدوء:
- هذا يعني أنك لم تفهمني..عندما اقول عملاً مجيداً فأنا اقصد عملاً يحدث انقلاباً في تاريخ البشرية..
فيتساءل صديقه الأعمش:
- مثل ماذا؟
- لو كنت أعرف لفعلته..فأعمال البشرية كلها اعمال اعتيادية..بعض المحظوظين نالوا شهرة بسبب الإعلام..رغم أن أعمالهم عادية جداً.. هل تعرف مثلاً من الذي اخترع الفلاش؟
يصمت الأعمش فيقول:
- ولكنك تعرف لاعب كرة قدم مشهور او حتى انشتاين رغم أن هناك من هو أعظم منه..الإعلام يا صديقي هو الذي يجعل من تلك التفاهات ذات قيمة ويدمر كل الأعمال الحقيقية.. لذلك فأنا لا ارغب في ذلك..لا ارغب في عمل يعتمد على جهة تدعمه مالياً وإعلامياً.. بل هو نفسه يكشف عن قوته..
فيغمغم الأعمش:
- هذه احلام وأوهام يا صديقي.. هذه الحياة ليس فيها شيء عظيم.. الشيء العظيم هو ان نتبع قانونها الطبيعي..أن نعمل عملاً لسنوات فنصبح محترفين فيه ونتزوج وننجب ثم نموت..لقد عملت محاسباً لأربعين سنة..وفجأة ظهر الحاسب الآلهي..لم استطع تعلمه ولولا أنني موظف في الحكومة لتمت إقالتي بسبب عدم مواكبتي لبرامج المحاسبة الالكترونية..مع ذلك فمن قال بأنني غير راضٍ..على العكس..فقد كنت حاسباً آليا طوال اربعين سنة في جسد بشري..عقلي هذا لم يحتج لبرامج..بل لخبرة..تزوجت وانجبت وبعد بضع سنوات سأحصل على معاشي لأتفرغ للاستعداد للموت..هذه هي الحياة..
فيعترض حسنين:
- هذه حياتك انت ..حياة المستسلمين لقانون القطيع أما أنا..أنا والأجر على الله لا احترم ذلك القطيع ناهيك عن قوانينه..سأنجز عملاً ما..عملاً مجيداً يغير تاريخ البشرية..
- أوووف.. كم انت أسطوري التفكير..ستنتظر كثيراً وبلا جدوى.. ربما كنتَ لتحقق انجازاً لو تعلمت حرفة وواصلت فيها..لكنك بلا اي خبرة فكيف ستصنع عملاً مجيداً..
- إنني أثق في نفسي..
فيصمت الأعمش على مضض، ويتذكر أن زوجته طلبت منه إحضار ربع كيلو لحمة كندوز..فيودع صديقه ويرحل...يشتري اللحمة ويتجه لمنزله، وهناك يسلم زوجته العُهدة، ويستلقي على سريره لمشاهدة التلفزيون..لكنه لا يرى شيئاً فقد التصقت جملة حسنين بعقله :(عملاً مجيداً)..ويفكر بعمق في معناها؛ فلا يتوصل لنتيجة..ثم يسأل نفسه: أي عمل هذا الذي يمكن أن يغير تاريخ البشرية..أي عمل مجيد..اللهم إلا إحياء الموتى، ومع ذلك قد يكون إحياء الموتى عملاً كارثياً، فعودة الموتى ضربة قاصمة لتوازن الطبيعة..ثم كم عدد من سيحصلون على فرصة إعادتهم للحياة..وحين تدعوه زوجته للطعام ينظر لها ويسألها: هل تقبلين إعادتي للحياة لو مت يا هادية؟ فتضع هادية صينية الاكل وتقول وهي تغمس قطعة رغيف في الإدام: لا أعتقد..فيسألها: لماذا؟ فتجيبه: لأنني سأكون قد تزوجت وربما يكون رجلاً غنياً، فيضحك وهو يشاهد وجهها الذي تحول لوجه رجل بفضل السنوات..يأكل لقمتين ويعود لسريره فيرتدي نظارته وسماعة الأذن ليشاهد الفيلم..والفيلم ممل جداً أو تنه لم يتابعه بدقة..إذ كان يفكر في تاريخ الإنسان والأعمال المجيدة التي وقعت فيه، فبحسب معايير حسنين لا توجد أي اعمال مجيدة حقيقية..واما زوجته فترقد في السرير بغرفة الاولاد الذين هاجر بعضهم ورحل بعضهم الآخر بعد الزواج، وتتذكر حديثها مع الأعمش، ماذا لو مات حقاً؟ ينقبض قلبها، وتشعر بتأنيب الضمير: تتزوجين غير الأعمش يا هادية؟ تحدث نفسها بجزع وتواصل: هذه هي آخرة عشرة أربعين سنة؟ تخونين الاعمش وتسلمي جسدك لرجل غيره، اتفعلينها يا هادية، اتفعلينها؟ فتترقرق عينا هادية بالدموع وهي تتذكر زوجها حين كان شاباً بنظارته البنية وبنطلونه الشارلستون وكرشه الصغيرة المدورة وشاربه الكث، ويغمرها الشعور بالذنب فتبكي بصمت ثم ينقلب صمتها لنحيب: اتفعلينها يا هادية؟ ويسمع الاعمش نحيبها فيشعر بالخوف ويقفز مهرولا لغرفتها ويراها فتراه، وتقفز من سريرها لترتمي في أحضانه الواهنة متشبثة به بقوة وهي تبكي..
- ماذا حدث؟..
فتقول:
- لن تموت قبلي..لن أسمح بذلك..
ترف ابتسامة على شفتيه ولكنه يقول بجدية مصطنعة:
- سأموت قبلك..
حينها تصيح بصوت مخنوق:
- لا لا .. بعد الشر..
ويتعقد الموقف في عقله، فيسألها:
- هل تعرفين بماذا أصف حبنا قبل اثنين واربعين سنة..
تصمت في انتظار الجواب؛ فيقول:
- كان عملاً مجيداً يا عزيزتي.. عملاً مجيداً..
(تمت)