حاميد اليوسفي - رائحة الخبز..

وشم في الذاكرة
وقف في صف طويل أمام باب المخبزة . تضايق من بعض الناس الذين لا يحترمون التباعد . منشوران صغيران أمام الباب مكتوبان بخط مضغوط وواضح : الأول ينبه إلى منع دخول أي شخص إلى المخبزة بدون كمامة ، والثاني يحدد عدد الأشخاص المسموح لهم بالدخول في أربعة ، والباقي عليه الانتظار . الحركة متوقفة في الداخل . لا أحد يدخل ، ولا أحد يخرج . فسر البعض ذلك بأن العمال في الداخل ، ينتظرون نضج الخبز في الفرن .
سرح ذهنه بعيدا عندما كان يقف ، وهو طفل أمام باب الفران ، ويسأل سي عبد الله عن الخبز ، فيقدم له الوصلة ، ويعود أدراجه إلى البيت ، وهو يتراقص فرحا .
كانت البيوت كبيرة ، تسع الأبناء والأحفاد . عرفت المدينة ازدهارا لم تشهد مثله من قبل . التجار والصناع راضون عن تجارتهم وصناعتهم . المال يجري في الأيدي كالماء . أما الموظفون فهم ملوك الحي وأمراؤه . صاحب الفرن يعرف البيت التي أتت منه كل وصلة . هذا خبز الحاج الهادي ، وهذا خبر إسماعيل البنّاء ، وذاك خبز سي أحمد مفتش الشرطة ، وهذا خبز سي علي الفقيه ، وذاك خبز المُعلّم سي عبد السلام . وهذا خبز المقدّم . الأولوية لخبز الموظفين ورجال السلطة . فهو يُعجن باكرا ، ويصل إلى الفرن باكرا ، ويجب الاعتناء به . وعندما يُرمى في الفرن ، يجب مراقبته حتى ينضج ، ثم يُخرج ويُوضع في مكان آمن . تأتي الخادمة تسأل عنه ، يوصيها صاحب الفرن أن تردّ بالها مع الوصلة . وإذا كانت السماء تٌمطر ، يقدم لها قطعة من بلاستيك ، لتحمي الخبز من قطرات المطر . الموظفون يتناولون طعام الغذاء دائما في وقت محدد . يأتون من العمل ، ويخرجون إليه في وقت محدد . إنهم مثل ساعة بيغ بين في نشرة إذاعة البيبي سي هنا لندن . لا يتأخرون ، ولا يتقدمون . ويشبههم أطفال المدارس أحيانا . ما بين الثانية عشرة والواحدة والنصف لا تهدأ الحركة أمام باب الفرن .
بدايةً من ليلة القدر ، يستقبل سي عبد الله نصيبه من الزكاة . ويوم العيد يفتح الفرن حتى منتصف النهار ، مرتديا جلبابه النقي ، ويستقبل وصلات الخبز مصحوبة أحيانا بوجبة الفطور ، ثم يذهب إلى بيته لقضاء ما تبقى من يوم العيد مع أسرته .
وأنت تأخذ الوصلة ، وتعود بالخبز إلى البيت ، تشم رائحته العطرة ، وهي تتسرب من أنفك إلى أمعائك ، فلا تشعر حتى تمد يدك ، وتقطع مضغة وتضعها بين أسنانك ، وتتلذذ مذاقها ، وكأنك تلوك قطعة من الحلوى . وعندما تدخل إلى البيت ، وتجد طعام الغذاء غير جاهز ، تُرشيك أختك أو أمك أو عمتك بكسرة خبز ، تُبللها بالمرق ، فتحسّ وكأنك تتناول وجبة فخمة إلى جانب الأمراء والملوك .
ربما كان سي عبد الله بسبب خبرته وتجربته في الفرن ، يتعرف من خلال الخبز بسرعة على معدن المرأة التي عجنته ، ومهارتها في الطبخ .
أما الفترة التي ينشط فيها الفرن ، وترتفع مداخيله فهي فترة الاحتفال بعاشوراء . كل البيوت تعجن (القريشلات)*. عشرات (اللاطات)* تنتظر دورها . الحركة لا تهدأ في الفرن في النصف الثاني من اليوم لمدة قد تفوق الأسبوع . وكلما اقترب يوم عاشوراء اشتد الضغط على الفرن ، وظل مفتوحا إلى وقت متأخر من الليل . وكانت النساء تتفنن في تهيئ هذا النوع من الحلويات .
سي عمر يستيقظ في الصباح الباكر ، يعجن الإسفنج ، ويشعل النار على المقلاة . يبدأ العمل من الساعة السابعة ، وقد يمتد حتى الحادية عشرة . ثلاث ساعات أو أربع في الصباح ، ومثلها أو أقل في المساء ، كافية لتزويد المارة أو بعض البيوت بوحدات من الإسفنج ، تقل أو تكثر حسب الطلب . في المنازل والمقاهي يكون للإسفنج طعم خاص مع الشاي أو القهوة بالحليب ومعطرة ببعض التوابل . قد تستيقظ سيدة البيت متأخرة فلا يتمكن أطفال المدارس من تناول الفطور في البيت ، فيُقدم لهم بعض النقود لشراء الإسفنج في الطريق ، فيتناولونه بدون شاي ، ورغم ذلك يبقى لذيذا . بعض الزبائن يفضلون إطفاء البيض في الإسفنج . عجن وطبخ الإسفنج يحتاج إلى مهارة عالية ، ودقيق جيد . بعض أصحاب الذوق الرفيع يرسلون أبناءهم إلى دكان سي عمر بحي المواسين . عندما تصل لا بد أن تقف لبعض الوقت ، وتنتظر دورك .
في شهر رمضان يغير سي عمر الحرفة ، وبدلا من بيع الإسفنج ، فهو يهيئ الحلوى الشباكية والبريوات * ، ويعرضها على زبائنه طيلة هذا الشهر الكريم .
قبل دخول الكهرباء والبوطاغاز ، كل المنازل استعملت الفحم والغاز . دكان صغير في كل درب تقريبا ، أو أمام بابه ، يبيع الفحم والغاز ، أو تمر كل يوم عربة يجرها حصان تنقل كمية من الغاز ، وتبيعها لأهل البيوت .
لا يكاد يخلو بيت من مجمر من فخار أو قصدير ، وفرن متوسط من نحاس ، يشحن بالغاز ويُنفخ فيه ، ثم تُشعل وقيدة ، فتنبعث ألسنة النار زرقاء من رأسه .
أوسخ تاجر في الحي هو بائع الفحم . سمع الكبار يقولون بأن التجارة التي توسخ صاحبها غالبا ما تكون أرباحها عالية ومضمونة ، لكن حالة سي عبد القادر لا تبشر بذلك .
عندما غزت الكهرباء والبوطاغاز الدروب والمنازل ، أغلق سي عبد القادر دكانه ، واختفى في صمت .
على العكس من بائع الفحم ، كل التجار الصغار يفتحون دكاكين للبقالة أمام باب الدرب . أغلبهم من أصول أمازيغية . قيل بأنها تجارة لا يملك أسرارها سوى أهل سوس . حاول الكثير من الناس منافستهم ، لكن سرعان ما تعرضوا للإفلاس . المواد الغذائية الأكثر مبيعا واستهلاكا هي الدقيق والسكر والشاي والزيت . أما الحليب والمشروبات الغازية ، فقد كانت تدخل في البداية ضمن الكماليات . وبعض الأسر تتوفر على كتيب صغير يسجل فيه صاحب الدكان الطلبات التي اقتنتها الأسرة ، ولم تؤد ثمنها . البعض يسدد في نهاية الأسبوع ، والبعض قد يتجاوز ذلك بتدخل من سيد البيت . التاجر لا يستجيب للطلبات التي تفوق قدرة الناس الشرائية إلا إذا دفعت مقابلها نقدا .
لا يكاد يخلو منزل من بيت التخزين . وقد يكون عبارة عن بيت صغير لا تتجاوز مساحته متران وارتفاعه متر ونصف ، وله باب وقفل ، تُخفي مفتاحه سيدة البيت في ثيابها . تُخزن فيه المواد الغذائية مثل القمح والدقيق والزيت والسكر والزيتون الأسود . أما الحوامض مثل الليمون والبرتقال و(الماندرين)* والتفاح والدلاح والبطيخ والعنب ، فيتم اقتناء بعضها بالصندوق ، وليس بالكيلوغرام .
وكانت الفواكه تقدم بعد وجبة طعام الغذاء ، وأحيانا وجبة طعام العشاء عندما يزور البيت ضيوف من العائلة أو خارجها .
آه من مكر الأطفال ! قد يحتالون على سيدة البيت ، ويختلسون المفتاح ، ويدخلون إلى بيت التخزين ، ويسرقون حبات البرتقال أو (الماندرين) ، ويصعدون إلى السطح ، أو يخرجون إلى الدرب لتناولها .
بدأ الصف يتحرك ، يظهر بأن الخبز خرج من الفرن ، وأصبح جاهزا لعرضه على الزبائن . عندما وصل دوره ، وأخذ الحصة التي طلبها من الخبز ، لاحظ بأن رائحته لا تشبه رائحة خبز الفرن القديم .
المعجم :
ـ (القريشلات) : قطع صغيرة من العجين لكنها مصنوعة بطعم الحلوى تخلط يوم عاشوراء مع المكسرات والحمص المحمر والتمر وتوضع في طبق كبير ويوزع جزء منها على أفراد البيت والباقي يقدم للضيوف .
ـ (اللاطات) : وصلات مملوكة للفرن ومخصصة للحلوى مصنوعة من قزدير بطول حوالي متر وعرض أربعين سنتمترا .
ـ (الماندرين) : فاكهة اليوسفي .
ـ (البريوات) : نوع من الحلوى تعمر ب(السفوف) أو المكسرات .
مراكش 27 يناير 2021
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى