خولة الأسدي - حيرة..

لقد كان وسيماً. أُدرك أن الوسامة ليست كل شيء، ولكني إنسانةً تُقدر الجمال حيثما وجد، فإذا كنت أُقدره في النساء، فكيف لا أفعل مع الرجال وأنا امرأة!
أعترف أن وسامته، وبطبيعة الحال كونه طبيب أسنان ناجح كانا أول ما جذبني لشخصه، وكان يمكن لهذا الانجذاب أن يمر كغيره كثير لو أنه اقتصر على ذلك فقط، لكن ذلك لم يحدث بعد أن أسرتني وسامته الفكرية أيضاً، وبعد شعوري بتحرك مشاعره نحوي، فكان ما كان.
قبل أن يكون طبيبي لم أكن أهتم كثيراً بأسناني، أو بالأصح بتجميلهنّ الذي كان ذريعتي للتردد عليه وسط تشجيعه، وعروضه اللامنقطعة والمخفضة لي!
كان وسيماً، وذكياً، ومثقفاً، ومتعلماً فلا غرابة في أن أعجبت به، ولكن ما جعل هذا الإعجاب يتحول إلى حبٍ هو تفضيله لي عن جميع من عرف، ربما ليس لشيءٍ لا يمتلكه غيري، فقد وصلت لإقتناعٍ أن خجلي المرضي المبالغ فيه ضخّم له الأمور، وربما ظن أنه نتاج حب أكنه له، فكان أن أحبني ودفعني بذلك لحبه!
كنت أخجل من النظر إلى وجهه، ولا أقوى على مواجهة عينيه، كحالي مع الجميع، لكنه لم يكن يعرف ذلك وظنه شيئاً آخر!
لمدة عامٍ ونصف لم أتخيل لنفسي شريكاً غيره في الحياة.
كنت أشعر بحبه الذي لا يقل عن حبي، وبفارغ الصبر أنتظر خطوته الأولى وهي التقدم لطلب يدي، ولم أكن أعرف سبباً لتأخره، أو عذراً يمنعه!
تعذبت كثيراً من وساوسي، وخشيت كثيراً من تخليه عني رغم أن علاقتنا كانت قد تطورت، وأضحينا أصدقاء في مواقع التواصل، فإن لم أجد عذراً للذهاب إليه كان يقوم بإرساله لي على شكل عرضٍ تقدمه عيادته لزبائنها، وكنت أستجيب دائماً.
هذا خلافاً لمراسلاتنا الخفيفة التي يطمئن فيها على وضع أسناني، وحشواتهنّ!
ومحادثاتنا ونقاشاتنا المطولة في المنشورات، التي كانت تحمل صفة الرسائل المبطنة أوقاتاً كثيرة.
_يا أهلاً يا أهلاً بمريضتي العزيزة؛ يا هل ترى مما تشكين اليوم؟
_لا شيء دكتور؛ فقط مررت من جوار عيادتك وقررت أن أدخل لألقي التحية.
أجبت يومها بتوترٍ ووجهي قد احمر خجلاً، وأنا أتهرب من النظر إليه، والشوق يبدو في كل حركاتي كما قال لي لاحقاً.
صمت قليلاً، ثم تنحنح وهو يفاجئني بقوله:
_عبير.. هل تستطيعين أن تحددي لي موعداً مع أسرتك هذا الأسبوع لأتقدم لك؟
لا أذكر شيئاً!
ماذا أجبت، وماذا صنعت؛ كل ما أذكره أني وجدت نفسي فجأةً في الشارع، وأنا أحاول التخفيف من حرارة وجهي بالتلويح أمامه علّ الهواء يُطفئ النيران التي أشتعلت فيه!
وعرفت منه بعد ذلك أني تمتمت ب:
_آآآ.. أوهً، أنا.. س...!
وأنا أقف، ثم أنسحب مسرعةً وسط ذهوله من رد فعلي الذي ظنه حينها رفضاً.
***
كان زفافي أسطورياً أنا الفتاة التي واجهت كل أنواع السخرية من أحلامي بفارسي المنتظر.
لم يؤيدني أحد، وكنت أُقابل دوماً بالإستهزاء، والجميع يُردد لي أن مثل هذا الكائن لا يوجد إلا في الروايات، ويستحيل أن أجده يوماً، وها قد وجدته رغم كل أقوالهم، وها أنا في طريقي إليه بموكبٍ كبيرٍ من السيارات التي تزفني وابنة عمي إلى منزل فارسينا، فاليوم كان عرسها على شقيقه، فقد رأتها عائلته في خطبتي، وتقدموا لها بعد ذلك.
ليس لي أن أصف مشاعري ودوامةً من الإنفعالات تتقاذفني في هذه اللحظة!
لا أنكر أني سعيدةً بتحقيق حلمي أخيراً، ولكن السعادة تقع في آخر قائمة المشاعر المسيطرة عليّ!
أشعر بحزنٍ مغلف بقلقٍ وتوترٍ وخوفٍ من الآتي.
أنا اليوم كمن يموت ويولد في الحين ذاته!
وداعاً لعبير التي عرفتها وحياتها بتفاصيلها خلال أثنان وعشرين عاماً، وأهلاً بأخرى قد أكون أعرفها، لكني أجهل كل شيءٍ عن حياتها.
من يصدق أني لن أنام الليل في منزلنا؟!
ولن أستيقظ على صوت أمي، وضجيج أشقائي؟
ولن أستقبل العيد معهم!
وسيأتي رمضان وأنا في منزلٍ آخر، مع أُناساً آخرين.
كل شيءٍ سيتغير تماماً تماماً.
مسكيناتٌ نحن النساء، وكم هم محظوظون أبناء آدم.
أشعر برغبةٍ عميقةٍ في البكاء بلا توقف، ولكن عليّ التماسك حتى لا أُفسد زينتي.
***
_هذه هي حجرتك يا عروس، سنترككِ الآن لتستعدي لقدوم زوجك؛ وبما أنكم وصلتوا متأخرين فسنؤجل رؤية نساء القرية لكِ إلى الغد؛ إذا أحتجتِ شيئاً أفتحي الباب ونادِ عليّ.
قالت والدة فارسي وهي تنسحب وجمع النساء اللواتي لم أكن أعرف منهنّ عدا شقيقتيه، ولم يكدن يخرجن وأنا أقلب بصري في أرجاء الحجرة مرتعشة البدن انفعالاً حتى سمعت طرقاً خفيفاً على الباب، ثم أنسلت إحدى اللواتي خرجنّ وهي تتلفت خلفها موصدةً الباب.
_أنا آسفة لتطفلي، لكني أتيت لأرى إن كنتِ بحاجةٍ لشيء..
_أشكرك..!
تمتمت متعجبة فشكلها كان يوحي بسببٍ آخر.
_هل.. هل أنتما فعلاً بنات مشائخ؟ أنتِ والعروس الأخرى؟
_نعم! لماذا؟
_وكيف وافق أهلكم على هذا الزواج؟
_ماذا تقصدين؟!!
_لماذا ألا تعرفين أن أهل زوجكِ "مزاينة"* ؟!
_ممما ماذا؟! ماذا تقولين؟ من أنتِ يا هذه، وما هذا الكلام؟؟!
_يا إلهي لقد شككت بذلك.. فعلاً أنتم لا تعرفون!
_نعرف ماذا! كيف "مزاينة" وهم من قبيلة"......"؟!
_ أ تعنين اللقب؟
_نعم
_في هذه المنطقة ثمة عادة لدى القبائل، وهي سماحهم "لمزاينة" القبيلة باستخدام لقبها، وهذا سبب تسميهم باسم القبيلة، ولو أهتم أهلك بالحضور والسؤال عنهم هنا، لعرفوا أنهم مزاينة.
شعرت بدوارٍ فظيعٍ، وتضببٍ في الرؤية، وتسارع دقات القلب، وغثيان شديد، ورغبةً كبيرةً في الصراخ عالياً.
آآآه يا إلهي ما هذا الذي أسمعه، ولمِ كل جميلٍ ناقصٍ؟
أأنا التي هي أنا أتزوج مزين؟!
أأنا التي رفضت أبناء المشائخ، والقبائل انتهي بالزواج بمزين؟
أأنا التي لم تسلم إحدى صديقاتي أو قريباتي من سخريتي من أزواجهنّ تكون هذه نهايتي؟
ألتفتُ لأجدها لا تزال بقربي، فقلت لها:
_هل تستطيعين أخذي إلى ابنة عمي؟
***
صحيح أنّا ميسوري الحال، ومنزلنا جميل وواسع، لكن هذا ليس منزلاً بل قصراً.
كنت أسير خلف المرأة وهي تقودني إلى جناح ابنة عمي خلال ممراتٍ شبه دائريةٍ، وأنا أتفكر في كل هذه الفخامة مرددةً في سري:
_صدق رسول الله حينما قال أن من علامات الساعة تطاول أمثال هؤلاء بالبنيان!
_عبير! ماذا أتى بك؟!
_أقفلي الباب جيداً وأجلسي، ثمة أمراً بغاية الخطورة..
_ما هو؟!
_لقد تزوجنا من "مزينيين" يا روى؛ هل تدركين حجم الورطة التي وقعنا بها، والمصيبة التي حلت بنا وأهلنا؟!
_من قال هذا؟ وما أدراكِ بالأمر، وهل تأكدتِ من صدقه؟؟
_نعم تأكدت، وعلينا إبلاغ والدينا ليعودا لأخذنا قبل أن يبتعدا أكثر.
_أخذنا؟! أخذنا كيف؟
_أخذنا يا روى، ما بك!؟
_أنا لن أذهب إلى أي مكانٍ بدون زوجي، ولن أغادر منزله.
_يا إلهي! أ تعنين ما تقولين؟ هل ستقبلين أن تكوني زوجةً لمزين؟!
_أنا كذلك فعلاً في هذه اللحظة، ولم يحدث لي سوء!
ردت بسخريةٍ أدهشتني، وزعزعت ثقتي بموقفي من الأمر.
_روى.. هل تدركين ما سيحدث بسمعة أسرتنا بسبب هذا الخطأ حتى وإن تداركناه؟ فكيف لو قررتي التخلي عن أهلك لأجل مزين!
_أنا لن أتخلى عن حب عمري الذي جادت عليّ الحياة به من أجل هذه التخاريف والعادات البالية، وأستغرب عليكِ يا عبير كيف ستتمكنين من ترك رجلكِ الحلم الذي ما كنّا نظن أنكِ ستجدينه يوماً! كيف تبخرت مشاعركِ فجأةً وأضحى حبيبك وزوجك مجرد مزينٍ بنظرك تسعين للفرار منه؟
_وهل تريدين مني أن أحطم سمعة عائلتي وقبيلتي من أجل هذه الترهات؟ هل تريدينني أن أكسر والدي وأخوتي، وأدمر مستقبل شقيقاتي وبنات أسرتي من أجل هذه السخافات! وإن هان عليّ كل هذا، فماذا عن كرامتي وكبريائي؟!
_لا كبرياء في الحب.
_بل لا حب إن لم تكن الكرامة والاحترام أساساً له.
_وهل هو لا يحترمك حتى تقولين هذا؟
_نعم سوف لن يحترمني ذات يومٍ إن بقيت، لأني لن أحترم نفسي لو فعلت، ولن يحترمني من حولي.
_أ بكل هذه البساطة تنسين حبك لسببٍ تافهٍ كهذا؟!
_ليس تافهاً يا روى، بل ناراً أشتعلت بغتةً لترينا حقيقة الظلال التي خُدعنا بها، ملتهمةً كل مشاعرٍ نبتت على أساسٍ من وهنٍ ووهم.
_لكني لم يمت بداخلي شيء، وسأتمسك بحبي وزوجي ما أستطعت.
_هذا حب بلا جذور يا روى، لذا فمآله الموت، لا يمكن له الإستمرار والنمو؛ أنتِ الآن كمن يغمض عينيه كي يستمر في تناول طعامه الملوث لأنه يحبه، لكن حينما سيشعر بالشبع سيتذوق ما فيه من تلوث، وتشمئز نفسه، ويفتح عينيه بعد أن فات الأوان.
_لن أقتنع يا عبير، فدعيني وغادري إن شئتِ.
_حسناً يا ابنة العم سأذهب، ولكن نصيحةً لكِ كيلا تكوني عرضةً لسخط العائلة والقبيلة، وألسنة الناس التي لا ترحم.. لا تدعيه يقترب منكِ حتى يحضر أهلنا لأخذنا.
_هذا حبيبي أمام الله العالم بخبايا القلوب، وزوجي أمام الله والشرع والقانون، لذا فلن أمنعه من شيء، ولن أذهب مع أحدٍ ولو تحتم الأمر أن أهرب معه.
هززت رأسي بأسفٍ وأنا أغادرها مشوشة الذهن.
عدت إلى حجرتي مسرعةً وأنا أشعر بالاحتيار في اختيار البقاء أم الفرار!
_لا لستُ أنا التي أسلم قيادي لقلبي..
تمتمت لنفسي ما إن دخلت حجرتي، وأسرعت بارتداء عبائتي وأنا أخشى أن يصل سريعاً، فقد ذهبوا كما تحتم عادات قبيلتهم لمرافقة من أتوا بنا من أقاربنا، إلى أطراف قريتهم، وحتماً سيصل خلال دقائق.
لم أكد أنهي تفكيري حتى كان يفتح الباب مندهشاً من أني لا زلت بعبائتي، قبل أن ينصدم لإدراكه أني كنت ارتديها بعد أن كنت قد خلعتها.
_عرفتي؟ أ بهذه السرعة!
قال بصوتٍ شبه مسموعٍ بعد تحديقٍ صامتٍ مذهولٍ لبضع دقائقٍ، ولم أجد ما أجيب به.
_لن أحاول منعك، ولتعلمي أني حاولت أكثر من مرةٍ أن أصارحكِ بالأمر، لكني لم أملك الشجاعة؛ خشيت أن أخسرك؛ كنت أظن أنكِ إن أحببتني لن تهتمي لذلك، ومع ذلك ترددت كثيراً قبل أن أجرؤ على التقدم لكِ؛ أتذكرين يا عبير يوم سألتكِ أن تحددي لنا موعداً لخطبتك؟ يومها شعرت بدفقةٍ هائلةٍ من الشجاعة استمديتها مما شعرت أنكِ تكنين لي من حب؛ كنت أظن أن أهلكِ سيأتون إلى محافظتنا للسؤال عنّا، وتجهزت لأخوض حرباً لكي لا أخسرك، لكنهم لم يفعلوا، ووافقوا ببساطةٍ، فشعرت أن هذه مباركة السماء لنا، ولحبنا الطاهر، ومع ذلك عشت على أعصابي حتى دخلتِ منزلي؛ كنت أخشى من معرفتهم وأن يحرموني منكِ، وظننت أنكِ إن عرفتي بعد زواجنا لن تتركيني، وستحاربين معي ضد التقاليد الغاشمة، لأجل حبنا؛ كنت أظن أنكِ فعلاً مثقفةً كما تقولين، ولا تعترفين بالعنصرية، وتؤمنين أن "أكرمكم عند الله أتقاكم" و "لا فرق بين عربيٍ وأعجميٍ إلا بالتقوى" وأن المرء بدينه وخلقه، لا بقبيلته ولقبه!
كنت أظن أن مميزاتي الأخرى ستشفع لي لديكِ، وأن شهادتي وعلمي وثقافتي سيعززون مكانتي في نظرك، لتثبتي لي الآن أن كل ذلك وهم، وأني سأظل مجرد مزينٍ لا يستحقك.
أذهبي إن شئتِ يا عبير، لن أمنعك، فإن لم تبقي عن إقتناعٍ وحب، فلا حاجة لي بك.
كان يتحدث بانكسارٍ، فيما أنا أتشاغل بكتابة رسالةٍ في هاتفي مدعيةً اللامبالة والبرود، وأنا أتمزق من داخلي حد رغبتي بالصراخ.
كنت انتهيت من كتابة الرسالة "أرجعوا لأخذنا حالاً" وخشيت إرسالها لوالدي أو عمي؛ خشيت أن يحدث لهما شيئاً من الصدمة والخوف، فقررت إرسالها لشقيقي لكني وضعت الهاتف ريثما ارتدي الحجاب.
كنت أسترق النظر إليه من المرآة وهو يجلس خلفي على السرير غارقٍ في صمتٍ حزينٍ ذاهل.
شعرت بقلبي يؤلمني وأنا أتذكر كلماته الكسيرة، وصوت روى يتردد في ذهني:
"أنا لن أترك حب عمري الذي جادت عليّ الحياة به من أجل هذه التخاريف، والعادات البالية!".


# خولة الأسدي
# إب
2020/9/9م
________________________________
*المزاينة: هم الأشخاص الذين يقومون بذبح الذبائح في المناسبات كالزواج، والموت، والأعياد، ويقومون بالحلاقة، وختان الأطفال، ويُعاملون مثلهم مثل بقية أبناء الشعب، فيما عدا أنهم لا يزوجونهم، ولا يتنزوجون منهم، ويُنظر لهم كطبقةٍ دنيا في المجتمع اليمني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى